إنها كانت وكانت
قوله: (إنها كانت وكانت) كرر مرتين ولم يرد به التثنية، ولكن ليتعلق بالتكرير كل مرة من خصائلها ما يدل على فضلها
{بسم الله الرحمن الرحيم }
الحمد لله الذي منَّ علينا وهدانا إلى الإسلام, ووفقنا فجعلنا من أمة أفضل الأنام الذي آتاه الحكمة والقرآن، أحمده سبحانه على ما منَّ به علينا من نعمه العظيمة، وجعل الدنيا مزرعة الآخرة، فمن عمل فيها صالحاً نال خيراً، ومن فرط وأسرف على نفسه، وقصر فيما أوجب عليه ربه فقد خاب وخسر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد
روى البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ (إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ)»
وفي رواية عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ «مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلَائِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ» [البخاري]
** هذا الحديث رواه البخاري بنحوه في (باب حسن العهد من الإيمان) قال أبو عبيد العهد هنا رعاية الحرمة، وقال الراغب: حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال
** وقد أخرج الحاكم والبيهقي في الشعب من طريق صالح بن رستم عن بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «جاءت عجوز إلى النبي الله صلى الله عليه وسلم. فقال: (كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟) قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟! فقال: (يا عائشة، إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان) »
** في رواية كان إذا ذبح الشاة يقول أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة،، وفي رواية قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعرف استئذان خديجة فارتاح لذلك فقال: (اللهم هالة بنت خويلد) .. [فارتاح] أي اهتز فرحاً وسروراً وانتعشت نفسه، وأسرع للقائها، لأن صوتها يشبه صوت خديجة
** قولها: (مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ).. «على خديجة» أي من خديجة، فأقامت «على» مقام «من» وحروف الجر تتناوب في رأي، أو «على» سببية أي بسبب خديجة .. والغيرة انفعال يكون في الإنسان يحب أن يختص صاحبه به دون غيره، ولهذا سميت غيرة لأنه يكره أن يكون الغير حبيبا لحبيبه، والنساء الضرات هن أشد بني آدم غيرة.
وفيه ثبوت الغيرة، وأنها غير مستنكر وقوعها من فاضلات النساء فضلا عمن دونهن، وأن عائشة كانت تغار من نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن كانت تغار من خديجة أكثر
وقد بينت -رضي الله عنها- سبب تلك الغيرة وإنها لكثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إياها، وأصل غيرة المرأة من تخيل محبة غيرها أكثر منها، وكثرة الذكر تدل على كثرة المحبة.
** لا تصل حدود الغيرة من أحدٍ نهايتها من مفقود أو غائب زمانا ومكانا إلا كان هذا دليلا قويا على حضور الغائب بأفعاله، وعظيم سيره، وقوة أثره.
** يعلمنا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقه التعامل مع من فقدناهم في حياتنا من أقرب الناس بنا من: ديمومة الذكر لهم، وسرد محاسنهم وخصال الخير فيهم، وكثرة الدعاء لهم، وسمر الحديث بهم، فلا زمن يفتر حبه، ولا بُعدا يشغل قلبه، فيظل حاضرا معه روحا، وإن غاب الجسد حضورا، وليتنا نفعل هذا مع من فقدناهم.
** تتعدي المحبة للمحب الكلمات إلى أودية الأفعال والسلوك والهدايا، وتترجم كلما سنحت فرصة بعادة جمعتهما، أو نسب قربهما، أو قرابة بينهما، أو أصدقاء ترابط أحمدهما بهم، كل ذلك من جميل المحبة.
** هناك من يلزم الآخر على تذكره، وإجهاد من يأت بعده أن يصل إلى درجته .. وتأمل عبارة «كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ»
وكأنه -صلى الله عليه وسلم- لم ير غيرها، وإن تزاحم النساء من حوله، أو لم يخلق الله سواها، شعور وصل إلى الآخر الذي لم يعهدها.
** خديجة بنت خويلد بن أسد القرشية كانت تحت أبي هالة بن زرارة ثم تزوجها عتيق بن عابد ثم تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- ولها يومئذ من العمر أربعون سنة، ولم ينكح صلى الله عليه وسلم قبلها امرأة ولا نكح عليها حتى ماتت، وهي أول من آمن من كافة الناس ذكرهم وأنثاهم، وجميع أولاده منها غير إبراهيم فإنه من مارية، وماتت بمكة قبل الهجرة بخمس سنين، وكان لها من العمر خمس وستون سنة، وكان مدة مقامها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة، ودفنت بالحجون
** قوله: (إنها كانت وكانت) كرر مرتين ولم يرد به التثنية، ولكن ليتعلق بالتكرير كل مرة من خصائلها ما يدل على فضلها، كقوله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82] ولم يذكر هنا متعلقه للشهرة تفخيمًا،، وقدّر الشراح بنحو: كانت فاضلة، وكانت عاقلة، (وكان لي منها ولد).
وعند أحمد من طريق مسروق من عائشة -رضي الله عنها- قال -صلى الله عليه وسلم-: «آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء»
** كذلك أيضا يبقي من البر بعد موت الوالدين ما رواه أَبي أُسَيد مالك بن ربيعة الساعدي -رضي الله عنه-، قَالَ: «بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ جَاءهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ برِّ أَبَوَيَّ شَيء أبرُّهُما بِهِ بَعْدَ مَوتِهمَا؟ فَقَالَ: (نَعَمْ، الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا [أي الدعاء لهما]، والاسْتغْفَارُ لَهُمَا، وَإنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِما، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتي لا تُوصَلُ إلاَّ بِهِمَا، وَإكرامُ صَدِيقهمَا» ر [واه أَبُو داود] .
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: