تأملات في تحويل القبلة

منذ 2020-04-09

ثم أكد سبحانه أن خاتم رسله صلى الله عليه وسلم معروف وموصوف عن الذين أوتوا الكتاب من قبلنا يعرفونه كما يعرفون أبنائهم

أما بعد فيقول رب العالمين سبحانه {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

أيها الإخوة المؤمنون :
يذكر أهل العلم أن من أفضل ما يميز شهر شعبان المبارك عن غيره من شهور السنة أن شهر شعبان حفل بكثير من التشريعات التى حملت الخير للمسلمين ...

فيوم سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن سبب كثرة الصيام فى شهر شعبان قال ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلي الله تعالى

وفى شهر شعبان ليلة النصف منه ليلة مغفرة وعتق وإنعام لسائر المؤمنين إلا للمتخاصمين فمَنْ كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ وأمر الله الملائكة أن تتجاوز عن ذنوب العباد أشار الله إلى المتخاصمين وقال يا ملائكتى أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا
[ « إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن» ] كما قال النبى صلى الله عليه وسلم

وفى شهر شعبان فرض الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته صيام رمضان ..

وقبيل انتهاء شهر شعبان بيوم أو يومين من نفس العام فرضت زكاة الفطر من رمضان على كل مسلم ومسلمة طهرة له من اللغو والرفث وطعمة للفقراء والمساكين

ومن بين الفضائل التى جمعها شهر شعبان أيها المؤمنون :
أنه الشهر الذى استجاب الله فيه رجاء رسوله صلى الله عليه وسلم حقق الله تعالى لرسوله فى هذا الشهر ما كان يأمل ويرجو ..

فرضت الصلوات الخمس كما تعلمون على رسول الله وعلى أمته فى ليلة الإسراء والمعراج وكانت الإسراء والمعراج قبل الهجرة والمعنى أن المسلمين أقاموا الصلاة المكتوبة وهم فى مكة قبل الهجرة وقد أمر الله نبيه والذين آمنوا معه أن تكون القبلة فى صلاتهم إلى بيت المقدس

فكان المسلمون يصلون ومعهم رسول الله فيجعلون الكعبة فيما بينهم وبين بيت المقدس فيجمعون بذلك بين القبلتين ثم يصلون ..

بقى المسلمون يجمعون فى الصلاة بين القبلتين ما شاء الله ثم أُذن لهم فى الهجرة من مكة فخرجوا إلى المدينة ولحق بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى المدينة تعذر على النبى والذين آمنوا معه الجمع بين القبلتين ..

فكان المسلمون يصلون مع رسول الله ويستقبلون بيت المقدس وبيت المقدس لم يتخذه اليهود قبلة تبعا لوحى من اللَّه تعالى بل كانوا يستقبلونه باختيار منهم ..

روى أبو داود في الناسخ والمنسوخ أن اليهود لم تجد فى التوراة القبلة ولكن تابوت السكينة كان على صخرة بيت المقدس فلما غضب اللّه عليهم رفعه وكانت صلاتهم إلى الصخرة عن مشورة منهم

ولما كان عدد كبير من اليهود يسكنون المدينة ورأوا رسول الله يصلى إلى قبلتهم فرحوا وقالوا عرف محمد أننا على الحق فاتبع قبلتنا وقال فريق منهم كيف يزعم محمد أنه على ملة إبراهيم ثم يستقبل فى صلاته قبلةً غير قبلة إبراهيم ؟

وصل هذا الكلام وغيره إلى رسول الله وإلى الذين آمنوا فحزنوا واستمر حزنهم هذا عاماً ونصف العام يسمعون من اليهود ما يكرهون ولا يدرون ماذا يفعلون

وفى يوم من الأيام :
وجبريل عليه السلام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جبريل يا نبى الله ما لى أراك محزونا فقال يا جبريل وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها فقال جبريل يا نبى الله أنا عبد مثلك، وأنت كريم على ربك، فادع ربك وسله"

فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء ويقلب وجهه ويدعو رجاء أن يأذن له ربه أن يولى وجهه فى
الصلاة جهة المسجد الحرام

ما فعل رسول الله ذلك بغضاً للصلاة إلى بيت المقدس :
وإنما قلب النبى بصره فى السماء وتمنى على ربه أن يحول قبلته إلى البيت الحرام لأن البيت الحرام مفخرة العرب لأنه البيت الذى جعله الله مثابة للناس وأمنًا لأنه البيت الذى جعله الله مزارًا ومطافًا للناس

وفى الصلاة الى البيت الحرام كذلك فتح الباب أمام العرب للدخول في الإسلام ثم إن الصلاة الى البيت الحرام هى أقدم القبلتين وقبلة الخليل عليه السلام كانت إلى البيت الحرام
وقد أثبت القرآن أن أولى الناس بملة إبراهيم وهديه ودينه هو نبى آخر الزمان محمد صلى الله عليه وسلم ..

قال الله عز وجل :{ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين }

قلب النبى وجهه فى السماء وسأل ربه وتمنى عليه فلبى السميع القريب رجاء حبيبه صلى الله عليه وسلم ونزل الأمين بالبشارة يقول يا نبى الله إن السلام يُقرأك السلام ويقول لك
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ}

هذه الكلمات نزلت على قلب رسول الله برداً وسلاماً نزلت فغسلت هموماً وغموماً وأذهبت حزناً وكمداً كان قد ابتلى به المسلمون على مدار العام ونصف العام

{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ}

فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته التى استجاب الله لها وفرح المسلمون بالقبلة الجديدة التى تخالف قبلة اليهود

قال أبو سعيد بن المعلى كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي فيه قال فمررنا يوما وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر فقلت لصاحبٍ لى هذا رسول الله على المنبر أحسب أنه قد حدث أمر قال فجلست أنا وصاحبى فسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية :

{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} .

قال أبو سعيد فقلت لصاحبي تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى إلى البيت الحرام من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال فتوارينا فصليناهما. ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ .

فى الوقت الذى نزل فيه الأمر بتحويل القبلة برداً وسلاماً
على قلب النبى والذين آمنوا نزل تحويل القبلة على اليهود كريح صرصر عاتية نزلت الآيات تقول إن اليهود كذابون أفاقون يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ويكتمون الحق وهم يعلمون

{ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}

أَتَى رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ وآخرون من اليهود فَقَالُوا يَا مُحَمّدُ مَا وَلّاك عَنْ قِبْلَتِك الّتِي كُنْت عَلَيْهَا ؟ ارْجِعْ إلَى قِبْلَتِك الّتِي كُنْت عَلَيْهَا نَتّبِعْك وَنُصَدّقْك فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ ..

{سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}
فأمر الله أن يرد عليهم بقوله :
{قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

ثم مدح الله تعالى أمة محمد وميزها عن سائر الأمم فقال{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }

ولما تسائل المسلمون عن إخوانٍ لهم ماتوا وقد كانوا يصلون إلى بيت المقدس ما يفعل الله بأعمالهم أجابهم الله تعالى بقوله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }

حضر الصلاة مع رسول الله إلى القبلة الجديدة رجال ونساء وشباب وشيبان فأرسل النبى شاباً من الأنصار يقال له عباد بن بشر فقال اذهب إلى بني سلمة في مسجد قباء وأخبرهم أن القبلة قد حولت فليتحولوا فى الصلاة إلى البيت الحرام فأتاهم عباد رضى الله عنه وهم يصلون الفجر وافاهم فى المسجد وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت كانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة فرضى الله عنهم وأرضاهم ..

فقد صدق فيهم قول الله تعالى {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
------------------------------------------------------------------
بقى لنا فى ختام الحديث عن تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام أن نقول ما السبب فى هذا التحويل وكلها بيوت الله تعالى ولله المشرق والمغرب ..

عن هذا التسائل أجاب ربنا سبحانه فذكر أكثر من سبب وحكمة ومنها :

بيان شدة عداوة اليهود للإسلام وللمسلمين عداوة ستبقى ما بقيت الدنيا وفى الحديث  « لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله ورائي يهودي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود » 

قال الله تعالى لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) وقد تأكد ذلك فى حادث تحويل القبلة فسفه الله ما هم عليه وقال ( {سَيَقُولُ السّفَهَآءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا} )

ثم جعل الله تعالى من حادث تحويل القبلة اختباراً وامتحاناً للناس ليميز الله الخبيث من الطيب حول رسول الله صلى الله عليه وسلم امتحان سينجح فيه أقوم وسيرسب فيه آخرون { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ

ثم بين الله رحمته بأمة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه سبحانه لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى فقال { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}

ثم بين الله تعالى شرف رسوله وعظم شأنه حين حقق له ما كان يرجوه وشرع له ما يرضيه فقال {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ

ثم أكد سبحانه أن خاتم رسله صلى الله عليه وسلم معروف وموصوف عن الذين أوتوا الكتاب من قبلنا يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وربما أكثر وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون

قال عمر لعبد الله بن سلام قد أنزل الله على نبيه { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} فكيف يا عبد الله هذه المعرفة ؟ قال يا عمر لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني إذا رأيته بين الصبيان وأنا أشد معرفة بمحمد مني بإبني فقال عمر كيف ذلك؟ قال إنه رسول الله حق من الله وقد وصفه الله في كتابنا أما ولدى فلا أدري ما صنعت أمه . ..

الشيخ محمد السيد 

إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية