لا تكن: (للخير منّاعا)
قال الحسن عليه رحمة الله : أدركت أقواماً يعزمون على أهليهم أن لا يردوا سائلاً. و كان أبو الدرداء رضي الله عنه : يحضّ امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، ويقول: يا أم الدرداء خلَعْنا نصفَ السلسلة بالإيمان، فلنخلع نصفها بهذا .. يعني بـ ( الصدقة ) .
أما بعد فيقول رب العالمين سبحانه {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ , وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ , كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ , وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}
أيها الإخوة الكرام : هذه الآية : من سورة الفجر , هذه الآية أتت بهذا المعني في أكثر من موضع من القرآن الكريم ..
ففي سورة الماعون " {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} "
وفي سورة الحاقة " {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} "
وفي سورة القلم " { مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } "
وفي سورة ق " {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} "
وفي سورة المدثر " {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} "
هذه الآيات : إن كانت في الفجر أو في الماعون فإنها نزلت في وصف المنافقين وقد كانوا يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله , وقد ورد في سورة المنافقون وصفهم بأنهم أيضا لا يفعلون الخير ولا يرغبون غيرهم في فعل الخير بل لو استطاعوا أن يمنعوا غيرهم من فعل الخير منعوهم ..
" { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ } "
وهذه الآيات من سورة القلم أو من سورة ق أو من سورة الحاقة او في سورة المدثر فإنها نزلت في وصف المشركين وقد ورد في سورة يس وصفهم بالبخل والإمساك عن الخير أن يفعلوه ..
" {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } "
نزلت الآيات في قوم خلت قلوبهم من الإيمان .. وإذا خلى القلب من الإيمان قسى ونُزعت منه الرحمة ونزعت منه الرأفة فلا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا واستوى في نظره الحلال والحرام إذا القلب خلى من الإيمان اسودّ ذلك القلب فبات ولم يرجي خيره ولا يؤمن شره ..
قلت: وخُصّت هذه الخلال من خلال الكافر والمنافق بالذكر لأنها من أضر الخلال في البشر فإذا كثر البخل والشح ومنع الخير في قوم أهلكهم .
قال النبي عليه الصلاة والسلام « «إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ، وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا» »
قلت : ومن أوضح القصص القرآني الذي ورد في التحذير من منع الخير عن ضعفاء الناس قصة أصحاب الجنة :
" {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ , وَلَا يَسْتَثْنُونَ , فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ , فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ , أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ , أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ } .. "
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ تِلْكَ الْجَنَّةُ دُونَ صَنْعَاءَ بِفَرْسَخَيْنِ، غَرَسَهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَكَانَ لِلْمَسَاكِينِ كُلُّ مَا تَعَدَّاهُ الْمِنْجَلُ فَلَمْ يَجُذَّهُ مِنَ الكرم، فإذا طرح على البساط فكل شي سَقَطَ عَنِ الْبِسَاطِ فَهُوَ أَيْضًا لِلْمَسَاكِينِ، فَإِذَا حصدوا زرعهم فكل شي تَعَدَّاهُ الْمِنْجَلُ فَهُوَ لِلْمَسَاكِينِ، فَإِذَا دَرَسُوا كَانَ لهم كل شي انْتَثَرَ، فَكَانَ أَبُوهُمْ يَتَصَدَّقُ مِنْهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَكَانَ يَعِيشُ فِي ذَلِكَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِمُ الْيَتَامَى وَالْأَرَامِلُ وَالْمَسَاكِينُ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُوهُمْ فَعَلُوا مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ...
فَقَالُوا: قَلَّ الْمَالُ وَكَثُرَ الْعِيَالُ، فَتَحَالَفُوا بَيْنَهُمْ لَيَغْدُوُنَّ غَدْوَةً قَبْلَ خروج الناس ثم ليصرمنها وَلَا تَعْرِفُ الْمَسَاكِينُ. فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ .. والمعني أنهم لما عزموا علي الخير أن يمنعوه وعلي المعروف ألا يفعلوه ومنعوا مال الله عن عباد الله عوقبوا في الحال :
( {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } ) والمعني أن الله تعالي عجّل بعقابهم فأرسل علي البستان والأشجار ناراً فأحرقتها وتركتها كالليل البهيم ..
( {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ , أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ , أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ , وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ , بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ , قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ , قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ..
هذه صفات أصحاب القلوب التي ضعف فيها الإيمان, أو خلت تماما منه , فليس في قلوبهم ,رحمة, ولا رأفة, ولا إحساس .. فلا تتشبه بهم ,ولا تكن للخير منّاعا مثلهم .. فتهلك كما هلكوا .
{ {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين} }
" {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ , هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ , مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} "
نزلت هذه الآيات وأشباهها في كتاب الله تعالي تحدد بعض صفات المنافقين والمشركين وتحذر من صفات المنافقين والمشركين أن يتصف بها المسلمون ..
وفي القرآن الكريم آيات دعت هي الأخرى إلي ما دعت إليه هذه الآيات من ضرورة الحذر من التشبه بصفات المنافقين والمشركين .. ومن هذه الآيات قول الله تعالي :
" {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} " وقال " {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} "
أما عن السنة النبوية فقد ورد فيها قول النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « «وَلَا تَشَبَّهُوا بِأَعْدَائِكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» » وقوله « «وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ» »
وقال صلي الله عليه وسلم « «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ، فَهُوَ مُنَافِقٌ، أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ الْأَرْبَعِ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ، حَتَّى يَدَعَهَا، إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» »
فلا تكن كذبا مثلهم , لا تكن غدارا مثلهم , لا تكن فاجراً, لا تكن بخيلا , لا تكن فظا لا تكن غليظ القلب, لا تمنع المعروف أن تبذله, لا تمنع الخير أن تفعله , لا تكن كالمنافقين والمشركين فتقوم الساعة وتحشر معهم ...
وكن مؤمنا , بقلب مؤمنٍ , رحيمٍ, ودودٍ, قريبٍ, جوادٍ , كريمٍ , تفعل الخير ,وتدعو إليه , وتحبه للناس كما تحبه لنفسك ..
ورد في حلية الأولياء لأبي نعيم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: " «كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ رَاكِبٌ حَتَّى أَنَاخَ بِالنَّبِيِّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَتَيْتُكَ مِنْ مَسِيرَةِ تِسْعٍ، أَنْضَيْتُ رَاحِلَتِي، فَأَسْهَرْتُ لِيَلِيَ، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، لِأَسْأَلَكَ عَنْ خَصْلَتَيْنِ أَسْهَرَتَانِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اسْمُكَ؟» فَقَالَ: أَنَا زَيْدُ الْخَيْلِ، فَقَالَ: «بَلْ أَنْتَ زَيْدُ الْخَيْرِ، فَاسْأَلْ فَرُبَّ مُعَطَّلَةٍ قَدْ سُئِلَ عَنْهَا» »
«قَالَ: أَسْأَلُكَ عَنْ عَلَامَةِ اللهِ فِيمَنْ يُرِيدُ، وَعَنْ عَلَامَتِهِ فِيمَنْ لَا يُرِيدُ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟» قَالَ: أَصْبَحْتُ أُحِبُّ الْخَيْرَ وَأَهْلَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ بِهِ، فَإِنْ عَمِلْتُ بِهِ أَيْقَنْتُ بِثَوَابِهِ، وَإِنْ فَاتَنِي مِنْهُ شَيْءٌ حَنَنْتُ إِلَيْهِ .. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذِهِ عَلَامَةُ اللهِ فِيمَنْ يُرِيدُ، وَعَلَامَتُهُ فِيمَنْ لَا يُرِيدُ، وَلَوْ أَرَادَكَ بِالْأُخْرَى هَيَّأَكَ لَهَا، ثُمَّ لَمْ يُبَالِ فِي أَيِّ وَادٍ هَلَكْتَ»»
هذه علامة المؤمن أيها الكرام :يحب المعروف فيبذله, يحب الخير فيعمله , يحب الخير فيدعو إليه , يحب الخير فيحب فاعليه ..
" { إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا , إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا , وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا , إِلَّا الْمُصَلِّينَ , الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ , وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ , لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } "
قال الحسن عليه رحمة الله : أدركت أقواماً يعزمون على أهليهم أن لا يردوا سائلاً.
و كان أبو الدرداء رضي الله عنه : يحضّ امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، ويقول: يا أم الدرداء خلَعْنا نصفَ السلسلة بالإيمان، فلنخلع نصفها بهذا .. يعني بـ ( الصدقة ) .
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم : أن يطهر قلوبنا من النفاق , وأعيننا من الخيانة , وألسنتنا من الكذب إنه ولي ذلك ومولاه وهو علي كل شيء ق
محمد سيد حسين عبد الواحد
إمام وخطيب ومدرس أول.
- التصنيف: