حكم لقطة الحرم

منذ 2020-07-29

لُقَطَة الحرم لا يجوز امتلاكُها بحال، بل تُلْتَقَط للتعريف بها خاصَّة، وبه قال: الشافعي[1]، وأحمد في إحدى روايته، ورجَّحه جمهور من المتقدِّمين والمتأخِّرين.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:

فقد اختلف العلماء: في لُقَطَة الحرم، هل تُلتقط لِحِفْظِها والتعريفِ بها، أم لِتَمَلُّكها؟ على قولين، والراجح: أن لُقَطَة الحرم لا يجوز امتلاكُها بحال، بل تُلْتَقَط للتعريف بها خاصَّة، وبه قال: الشافعي[1]، وأحمد في إحدى روايته[2]، ورجَّحه جمهور من المتقدِّمين والمتأخِّرين[3].

 

الأدلة:

1- ما جاء عن ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما-؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهَا» [4] إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا[5])[6]. وفي رواية: «ولا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ» [7].

 

2- ما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ» )[8]. وفي رواية: «ولا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَهَا» [9] إِلاَّ مُنْشِدٌ[10])[11].

 

3- ما جاء عن عبد الرحمن بن عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ - رضي الله عنه -؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ» [12]. وجه الدلالة: تحريم أخذ لقطة الحرم إلاَّ مَنْ عرفها.

 

قال الأزهري - رحمه الله: (فإنه - عليه السلام - فَرَّقَ بقوله هذا، بين لُقَطَةِ الْحَرَمِ، وبين لُقَطَةِ سائر البُلدان؛ لأنه جَعَلَ الحُكم في لُقطَةِ سائِر البلاد: أَنَّ مُلْتقِطَها إذا عَرَّفَها سَنةً حَلَّ له الانْتفاعُ بها، وجَعَلَ لُقَطَة الحَرَمِ مَحْظُوراً على مُلْتَقطها الانْتِفَاعُ بها، وإن طال تعْرِيفُه لها، وحَكَم أنَّهُ لا يحِلُّ لأحَدٍ الْتَقَاطُها إلاَّ بنيّة تعريفها ما عاش، فأَمَّا أن يأْخُذَها من مكانها وهو يَنْوي تعريفها سنةً، ثم يَنْتَفِعُ بها كما ينْتَفع بسائر لْقَطَةِ الأرض فلا) [13]. وقال النووي - رحمه الله -: (وفي جميع أحاديث الباب دليلٌ على أنَّ الْتِقَاطَ اللُّقَطَةِ وتَمَلُّكَها لا يفتقر إلى حُكْمِ حاكمٍ، ولا إلى إذن السلطان، وهذا مُجمعٌ عليه، وفيها: أنه لا فرقَ بين الغني والفقير، وهذا مذهبنا، ومذهب الجمهور [14].

 

حكمة النهي عن أخذ لقطة الحرم:

وتحدَّث ابن حجر - رحمه الله - عن الحِكمة في ذلك قائلاً: (الغالب أنَّ لُقَطَةَ مكَّةَ ييأسُ مُلْتَقِطُها من صاحِبِها، وصاحبُها من وِجْدَانِهَا، لِتَفَرُّقِ الخَلْقِ إلى الآفاق البعيدة، فَرُبَّمَا دَاخَلَ الْمُلْتَقِطَ الطَّمَعُ في تَمَلُّكِهَا من أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَلا يُعَرِّفُهَا، فَنَهَى الشَّارِعُ عن ذلك، وَأَمَرَ أَنْ لا يَأْخُذَهَا إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وفارَقَتْ في ذلك لُقَطَةَ العسكر ببلاد الحرب بعد تفرُّقهم؛ فإنها لا تُعَرَّف في غيرهم باتِّفاقٍ، بخلاف لُقَطَةَ مكَّةَ فيُشرع تعريفُها لإمكان عَودِ أهل أُفُقِ صاحبِ اللُّقَطَة إلى مكَّةَ، فيَحْصُل متوصَّل إلى معرفة صاحبها) [15].

 

وقال ابن القيم - رحمه الله -: (قال شيخُنا: وهذا من خصائص مكة، والفرق بينها وبين سائر الآفاق في ذلك: أن الناس يتفرَّقون عنها إلى الأقطار المختلفة، فلا يتمكَّن صاحب الضالة مِنْ طلبِها، والسؤالِ عنها، بخلاف غيرها من البلاد)[16]. وفي تحريمِها ابتداءً حِكمةٌ بالغة؛ وهي قَطْعُ أملِ مُلتقطها في الاحتفاظ بها ابتداءً، حتى لا ينشغل بها عن أداء مناسكه. وحِكمةٌ أُخرى، وهي أنه لو لم تحرم عليه لَرُبَّما حدَّثته نفسُه بالتَّخاذل والتَّباطؤ في التَّعريف بها ليحتفظ بها، فيكون بذلك قد عَزَمَ على معصية، فيؤاخذ بهذا العزم ويُعاقب عليه، والله أعلم.

 


[1] انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، (9 /126)؛ هداية السالك، (2 /728).

[2] انظر: المغني، (5 /706)؛ زاد المعاد، (3 /453).

[3] انظر: فتح الباري، (5 /88).

[4] (لُقَطَتَهَا): أي: لُقَطَة أهل مكة.

[5] (مَنْ عَرَّفَهَا): يعني: للحفظ لصاحبها. انظر: عمدة القاري، (12 /274).

[6] رواه البخاري، (2 /857)، (ح2301).

[7] رواه البخاري، (2 /857)، (ح4059).

[8] رواه البخاري، (2 /857)، (ح2302)؛ ومسلم، (2/988)، (ح1355).

[9] (ولا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَهَا) أي: ما سقط فيها بغفلة المالِك، وأراد بها اللُّقَطَة، والالتقاط مِنْ: لَقَط الشيءَ يلقطه لقطاً: أخذه من الأرض.

[10] (مُنْشِدٌ) أي: مُعَرِّف. قال أبو عبيد: المُنْشِد المُعَرِّف. وأما الطَّالب فيقال له: ناشد. يقال: نشدت الضَّالة إذا طلبتها، وأنشدتها إذا عرَّفتها، وأصل الإنشاد رفع الصوت، ومنه: إنشاد الشِّعر. انظر: عمدة القاري، (2 /164).

[11] رواه البخاري، (6 /2522)، (ح6486)؛ ومسلم، (ح2 /989)، (ح1355).

[12] رواه مسلم، (3 /1351)، (ح1724).

[13] تهذيب اللغات، (11 /222).

[14] شرح النووي على صحيح مسلم، (12 /28).

[15فتح الباري، (5 /88).

[16] زاد المعاد، (3 /454).