الرجال يعرفون بالحق
إن من العجب أن يسوغ بعض المعترضين على الأدب الإسلامي اعتراضَهم هذا بربطه - سواء عن حق أم باطل - بأشخاصٍ مسلمين مُعيَّنين ذوي اتجاهات عقدية أو سياسية أو حزبية مخالفة لما يرون أو يعتقدون، وأن يحسب هؤلاء المعترضون أن التحفُّظ على هؤلاء الأشخاص يعني التحفُّظَ على دعوتِهم كلِّه...
إن من العجب أن يسوغ بعض المعترضين على الأدب الإسلامي اعتراضَهم هذا بربطه - سواء عن حق أم باطل - بأشخاصٍ مسلمين مُعيَّنين ذوي اتجاهات عقدية أو سياسية أو حزبية مخالفة لما يرون أو يعتقدون، وأن يحسب هؤلاء المعترضون أن التحفُّظ على هؤلاء الأشخاص يعني التحفُّظَ على دعوتِهم كلِّها، أو أنه يُلغِي هذه الدعوة من أصولها، أو يُوقِع عليها من الشبهة والاتهام ما يقع على أصحابها، وكأن القاعدة عند هؤلاء أن يعرفوا الحقَّ بالرجال ولا يعرفوا الرجال بالحق.
ولكن الحق الذي لا يخفى على أحدٍ أن هذا تصوُّر مغلوط، مخالف للشرع والعقل والمنهج العلمي؛ إذ إن جميع ذلك لا يمنع من أخذ الحكمة حيثما كانت وعن أيٍّ صدرت، وقد ورد في الأثر: "الحكمة ضالة المؤمن، حيثما وجدها كان أحقَّ بها".
ومن مثال ذلك من هَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يستنشدُ شعرَ أمية بن أبي الصلت[1]، ويُثنِي على بعض ما قال ويصدقه فيه.
ومَن أمية هذا؟ إنه شاعر الطائف الذي وقف في صفِّ كفار قريش في حربهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرثى قتلاهم، وشبَّب بنساء المؤمنين، ولم يُسلِم، بقي على شركه، وكان قبلُ قد تحنَّف وزهد، وراح يعدُّ نفسه ليكون نبيَّ العرب بعد أن سمع أن نبيًّا سيبعث فيهم قريبًا، وعندما أنزل الله رسالته على محمد -صلى الله عليه وسلم- انتكس في الضلال، وانقلب على عَقِبَيْه، وصار عدوًّا للإسلام والمسلمين، ولكن ذلك كلَّه لم يمنع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - المعلِّم العدلَ والإنصاف أن يستمع إلى شعره؛ لأن فيه حقًّا وحكمة، لا يجوز أن يحجبهما السخط على صاحبه، أو عدم الرضا عن مذهبه واتجاهه.
عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: "ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فقال: «هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟» ، قلت: نعم، قال: «هيه»، فأنشدته بيتًا، فقال: «هيه»، ثم أنشدته، فقال: «هيه»، حتى أنشدته مائة بيت[2].
إن النبي المعلم - صلى الله عليه وسلم - ينظرُ إلى الحكمة في شعر أمية، وهي مبتغاه، وهو يشيد بها، بصرف النظر عن قائلها، وعمَّا قدَّم صاحبها أو أخّر، وهو - عليه السلام - يقول مشيرًا إلى هذه الحكمة: «كاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلِم» [3].
وها نحن أولاء اليوم - من غير تثريبٍ - نأخذُ معارف وثقافات وفنونًا وآدابًا لا حصر لها عن يهود ونصارى وشيوعيين ومجوس وغير هؤلاء وأولئك، ولا تمنعُنا عقيدتُهم ولا مذاهبهم ولا توجهاتهم الفكرية والسياسية والحزبية من أن نأخذَ ما نجده عندهم من الحكمة والخير.
وها نحن أولاءِ في أدبنا الحديث ونقدِنا الحديث خاصة لا نكادُ ندرس وندرّس إلا ما هو من نتاج الآخر المخالف لنا في الدين والثقافة، ولا يحملنا - في الوضع الصحي السليم - من أخذه والتنويه به، والإفادة منه إلا كونه منحدرًا من مشكاة الحكمة مطلبِ كل ذي عقل رشيد.
فإذا كنا نأخذ عن هؤلاء جميعًا ولا نتحرج، أفلا نأخذُ عن مسلم مثلنا - وإن اختلفنا معه في المذهب أو التوجه الفكري والدعوي - ما نجد عنده من الحق والصواب؟!
أهو أقرب إلينا - مهما اختلفنا معه - أم أولئك الذين أشرنا إليهم؟
أفيكون من العدل والنصفة أن أُسقِطَ جميع ما قاله مَن اختلفتُ معه في الرأي أو العقيدة أو المذهب؟
أفهذا يتفق مع قوله -تعالى-: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]؟
إن الإسلام - منذ بدأ - تدعو إليه طوائف كثيرة وفِرَقٌ متعددة، بعضها على حق، وبعضها على انحراف وغلوٍّ، أو على ضلال وشطط، فهل يُلغِي غلوُّ المغالين وشططُ الشاطِّين المخالفين من قَبولِ دعوة الإسلام، أو الرغبة عنها، أو وضعها في قفص الاتهام؟
وكذا هي الدعوة إلى الأدب الإسلامي، لا ينبغي أن يصرِفَ عنها أن يتبنَّاها أشخاص لا نرضى عنهم، أو نختلف معهم في التوجه والسلوك.
من الحق والإنصاف أن ننظر في جوهر الدعوة نفسها، كما ننظر في جوهر الإسلام، فإذا رأينا حقًّا أَذَعناه، وإن رأينا باطلاً اجتثثناه وحاربناه ما استطعنا إلى ذلك من سبيل.
د. وليد قصاب
____________________________
[1] انظر صحيح مسلم: 4/767.
[2] صحيح مسلم: 4/767.
[3] السابق، والأدب المفرد للبخاري: 379.
- التصنيف:
- المصدر: