الكثرة الغثائية
قد بيَّن ﷺ المخرَجَ من الضَّعفِ والغُثَائية، بأن يكون ذلك بالعودةِ إلى شرع الله، والتمسُّك بالكتاب والسنَّة فِكرًا وسلوكًا، والابتعاد عن المحرَّمات والمعاصي، فحبُّ الدنيا، وكراهية الموت، بترك الجهاد والإعراض عن نصرةِ المؤمنين هو ما يجعل الكثرةَ كالقلَّةِ، لا اعتبارَ لعددها.
كان الصحابةُ الكرام يظنون أنَّ تداعيَ الأمم علينا سببُه من قلة، ولكن الرسولَ عليه الصلاة والسلام، صحَّح هذا المفهوم، وبيَّن أنه ليست الهزيمةُ دائمًا من قلة؛ «لا بل أنتم كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ كغُثَاء السيل»؛ فالكثرُة قد تُهزم إذا كانت هذه الكثرةُ غُثائية، فلا يُكتَرث بها؛ لأنه أصابها الوهن: «حبُّ الدنيا، وكراهيةُ الموت».
وفي غزوة بَدْرٍ عندما كان الصحابةُ قلةً، نصَرهم الله؛ {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]؛ أي: ولقد نصركم اللهُ على قريشٍ ببَدْرٍ وأَنتم قليلو العَدَد والعُدَّة؛ فقد كان المسلمون يومئذٍ ثلاثَمائة وثلاثة عشر رجلاً، أو أربعة عشر، في قلةٍ من السلاح أو المطايا، وكان عدُوُّهم ما بين التسعمائة والألف، في كثرةٍ من السلاح والزاد والعتاد[1].
{وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة: 251]، وانتصرت الفئةُ القليلة على الكثيرة حين كانوا أصحابَ إرادةٍ قوية، منعوا أنفسَهم مما منعهم اللهُ منه من شُرب الماء، واعتمدوا على الله؛ {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250]، فكان النصرُ لهؤلاء الضُّعَفاء القِلَّة.
والكَثرة إن اعتمدت على كثرتِها، فإنها لن تنتصرَ، ولنا في قصة حنين عبرةٌ؛ كما قال الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25]؛ فالكثرةُ وحدها ليست كفيلةً بالنصر، بل لا بد من الاعتمادِ على الله تعالى، وليس على العَدَد والعُدَّة؛ فالكثرة قد تغرُّ الإنسانَ وتفتنه، فيُعجَب بكثرته، ويغفُلُ عن التضرُّع لله في تحقيقِ النصر، ويترُكُ الأخذَ بالأسباب الربَّانية في النصر، وهنا يأتي الاعتمادُ على الكثرة الذاتية فقط، فيكون معها الهزيمة.
النصرُ يجري من أخذٍ بالسبب، وأعلى الأسباب: هو التوكلُ على الله تعالى، والتمسُّك بالتقوى والصبرِ، فلو تأمَّلت في قصة يوسفَ والمحن والابتلاءات التي مرَّ بها، وجدتَ أنه تجاوَزها بسلام وثَباتٍ عليه الصلاة والسلام؛ وسبب ذلك كما قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].
الكثرةُ لا شك أنها أحدُ عوامل الانتصار؛ كما قال اللهُ تعالى ممتنًّا على المؤمنين بأن أزالَ عنهم القلة: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26]، وللخروجِ من الغُثائية، ولاستثمار الكثرة، وجعلها عاملَ نصر وليست عاملَ هزيمة؛ فالكثرة لا يتحقق لها النصرة ما لم تأخُذْ بأسباب النصر الحقيق، وأذكر منها على سبيل الاختصار:
أولاً: الالتزامُ بالمنهج النبوي؛ فمنهج النبيِّ محمد صلوات ربي وسلامه عليه هو المنهجُ الوحيد الصحيح، وهو المنهج الذي أُمِرْنا بامتثاله؛ كما قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18]، يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ثم جعَل محمدًا صلى الله عليه وسلم على شريعةٍ شرَعها له، وأمَره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواءِ الذين لا يعلمون، وقد دخَل في الذين لا يعلمون كلُّ مَن خالف شريعته"[2]؛ فالالتزامُ بالمنهج النبوي هو الذي يُخرِج الأكثرية من مستضعَفة إلى مهيمِنة، لها كيانها ووجودُها الفعَّال المؤثِّر.
ثانيًا: توحيد القيادة الفكرية، قبل أن يكونَ هناك وحدة سياسية، فلا بد أن تتَّفقَ الأفكار على المبادئِ الكلية، وأن تتفق الرؤيةُ أو تتقارب نحو تحقيقِ مشروع متَّفَق عليه؛ فالتبعثُر بين القادة الفكرية يتبَعُه تبعثرٌ بين الأتباع، ولا يمكن أن نخرُجَ من مأزق الأكثرية الضائعة ما لم يكُنْ هناك توجُّه فكري موحد، تكون خطوطُه العريضة واضحة للجميع، والتوحُّد الفكري لا يتم إلا بوجود قيادات فكرية معروفة للجميع، تجمَعُهم رابطةٌ واحدة قادرة على الاندماج في قضايا الأمة الواقعية، وتقديم الحلول الشرعيَّة الصحيحة، ولا أقصد بالوَحدة الفكرية الانضواءَ تحت حزب أو جماعة؛ فالأمةُ أكبرُ وأشمَلُ من الأحزاب، نريد خطابًا أمميًّا وَحْدويًّا ينزِعُ إلى مفهوم الأمة دون إقصاءٍ لأحد من أهل السنَّة، نريد خطابًا يكون التحزُّب فيه ليس لجماعة، وإنما للإسلام ذاته؛ فالأمة مستهدَفة برُمَّتها؛ فالمواجهة والتحدِّي ينبغي أن يكونَ على مستوى الأمة، ولا يكونُ ذلك إلا أن تكونَ الأمَّة في إطار فكري موحَّد.
ثالثًا: الاعتماد على الله تعالى، والاعتقاد أن النصرَ بيد الله تعالى؛ قال اللهُ تعالى بعد ذِكْرِ المدافعة بين الناس: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، ونصرُ العبدِ ربَّه: جهاده في سبيلِه؛ لتكون كلمتُه العليا[3].
وعلامةُ الاعتماد على الله الأخذُ بالأسباب مع تفويض الأمرِ إلى الله، "ومن يكل أمره إلى الله مؤمنًا بأَنه ناصره، ينصره اللهُ؛ فهو - سبحانه - يكفي المؤمنين ما أهمَّهم، وينصرُهم على أعدائهم وإن كثُروا وعظُم استعدادهم"[4]، وحين اجتمع المشرِكون بعد أُحُدٍ لحرب المؤمنين، قال المؤمنون: حسبُنا اللهُ ونعم الوكيل؛ {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174].
رابعًا: الإخلاص لله وحُسن المقصد؛ فالرياء والسُّمعة لا تجلب النصرَ، بل تؤخره، والرياء في المعركة هو من صُنع أهل الشرك؛ كما قال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47]، فكان جزاؤهم أنهم هُزِموا يوم بَدْرٍ؛ فمنهم مَن قُتِل، ومنهم من أُسِر، ومنهم مَن رجَع على عقِبَيه كسيفًا.
خامسًا: عدم التنازع؛ فالتنازعُ يُذهِب القوة؛ كما قال اللهُ تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]؛ فالاختلافُ يُفضي إلى الهزيمة، وتفرُّقُ الكلمةِ يُذهِب القوة، ويُحدِث ما لا يُحمَد عُقباه؛ فتحقيقُ النَّصر لا يأتي إلا بوَحدة الكلمة، والوقوف في وجه العدو كالبنيان المرصوص يشد بعضُه بعضًا، والتنازع يحطم البنيانَ المتماسك، وقد يحدُث التنازعُ بين المسلمين لاختلافِ المفاهيم والمقاصد، ولكن عند ورود التَّنازعِ عليهم أن يرجِعوا إلى كتاب اللهِ ليحكُمَ بينهم؛ {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وألا يَحيدوا عن شرعِ الله قِيد أُنملة، بل ليرضَوْا ويسلِّموا لحُكم الله تسليمًا.
سادسًا: الصبر؛ قال الله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]؛ فالمواجهة مع العدوِّ تتطلب صبرًا وثباتًا وعزيمة، والصبرُ يكون على ما يكره الإنسانُ من بأس العدو وبطشِه؛ ولهذا قال اللهُ تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] بالتأييدِ والنَّصر.
وفي مواطن الألَمِ والضَّيم يتطلب الأمرُ مزيدًا من الصبرِ؛ كما قال الله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177]؛ أي: في حال الفقرِ، وهو البأساءُ، وفي حال المرض والأسقام، وهو الضراء، {وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177]؛ أي: في حالِ القتال والتقاء الأعداء [5].
وأخيرًا:
قد بيَّن عليه الصلاة والسلام المخرَجَ من الضَّعفِ والغُثَائية، بأن يكون ذلك بالعودةِ إلى شرع الله، والتمسُّك بالكتاب والسنَّة فِكرًا وسلوكًا، والابتعاد عن المحرَّمات والمعاصي، وعلى رأسها: الشِّرْك والظُّلم، وأن تكون الآخرةُ هي الغايةَ؛ فحبُّ الدنيا، وكراهية الموت، بترك الجهاد والإعراض عن نصرةِ المؤمنين هو ما يجعل الكثرةَ كالقلَّةِ، لا اعتبارَ لعددها.
وصلَّى اللهُ على نبينا محمد.
[1] التفسير الوسيط للقرآن الكريم (2/649).
[2] اقتضاء الصراط (1/14).
[3] جامع البيان عن تأويل آيِ القرآن لابن جرير (18/651).
[4] التفسير الوسيط للقرآن الكريم (3/1634).
[5] تفسير ابن كثير (1/488).
- التصنيف:
- المصدر: