حكم القتال في الحرم

منذ 2020-08-24

أباح الله تعالى للمؤمنين قتال المشركين إذا بغَوا على المؤمنين، وقاتلوهم في البلد الحرام؛ ومعنى الآية: "ولا تبتدؤوا أيها المؤمنون المشركين بالقتال عند المسجد الحرام، حتى يبدؤوكم به، فإن بدؤوكم به هنالك عند المسجد الحرام في الحرم...

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم؛ أما بعد:

 

ففي هذا البحث ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: تحريم القتال في الحرم.

المسألة الثانية: قتال البغاة في الحرم.

المسألة الثالثة: حمل السلاح في الحرم.

المسألة الأولى: تحريم القتال في الحرم.

 

المسألة الأولى: اتفق العلماء على تحريم القتال بمكة[1]:

الأدلة:

1- ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحلَّ القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحلَّ لي إلا ساعةً من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة» [2].

 

2- ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قام في الناس فحمِدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، فإنها لا تحل لأحد كان قبلي، وإنها أُحِلَّتْ لي ساعةً من نهار، وإنها لا تحل لأحد بعدي» [3].

 

3- ما جاء عن أبي شريح رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا، ولا يعضد بها شجرةً، فإن أحدٌ ترخَّص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقولوا: إن الله قد أذِن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذِن لي فيها ساعةً من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب))[4].

 

وجه الدلالة: دلت الأحاديث على تحريم القتال بمكة، وتحريم سفك الدم فيها؛ لحرمتها عند الله تعالى.

 

قال ابن حزم رحمه الله: فهذا نقل تواتر ثلاثة من الصحابة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو هريرة، وابن عباس، وأبو شريح، كلهم يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن مكة حرمها الله تعالى» [5].

 

المسألة الثانية: قتال البغاة في الحرم

أولًا: ابتداء البغاة بالقتال:

اتفق العلماء على أن البغاة [6] إذا بدؤوا بالقتال في الحرم يُقاتلون [7].

الدليل: قوله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191].

 

وجه الدلالة: أباح الله تعالى للمؤمنين قتال المشركين إذا بغَوا على المؤمنين، وقاتلوهم في البلد الحرام؛ ومعنى الآية: "ولا تبتدؤوا أيها المؤمنون المشركين بالقتال عند المسجد الحرام، حتى يبدؤوكم به، فإن بدؤوكم به هنالك عند المسجد الحرام في الحرم، فاقتلوهم، فإن الله جعل ثواب الكافرين على كفرهم وأعمالهم السيئة القتلَ في الدنيا، والخزيَ الطويل في الآخرة"[8].

 

إذًا "لا يجوز قتال الكفار عند المسجد الحرام إلا أن يبدؤوا بالقتال، فإنهم يُقاتَلون جزاءً لهم على اعتدائهم، وهذا مستمر في كل وقت حتى ينتهوا عن كفرهم، فيسلموا، فإن الله يتوب عليهم، ولو حصل منهم ما حصل من الكفر بالله والشرك في المسجد الحرام، وصدِّ الرسول والمؤمنين عنه، {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 192]، وهذا من رحمته وكرمه بعباده.

 

ولما كان القتال عند المسجد الحرام يُتَوَهَّمُ أنه مفسدة في هذا البلد الحرام، أخبر تعالى أن المفسدة بالفتنة عنده بالشرك والصدِّ عن دينه أشد من مفسدة القتل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]، فليس عليكم أيها المسلمون حرج في قتالهم، ويُستدَلُّ بهذه الآية على القاعدة المشهورة وهي: أنه يُرتكب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما"[9].

 

وهذا الحكم - من الله تعالى بقتال المشركين والكفار - حكمٌ خاصٌّ مناسب لِما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمكن المشركين والكفار من الحرم؛ إذ كانوا أهله، أما بعد أن حُرمت مكة على المشركين والكفار من دخولها، فأصبح واجب المسلمين ألَّا يسمحوا لهم ابتداءً بدخولها، وإن حاولوا دخولها حُوربوا وقُوتلوا، ويبقى الحكم بقتالهم عند المسجد الحرام كما في الآية قائمًا إلى قيام الساعة.

 

وأما غير المشركين من البغاة ممن ينتسبون إلى الإسلام ولا يُمنعون من دخول الحرم، فإن اجتمعوا في الحرم وابتدؤوا قتالًا فيجب قتالهم، ويدخلون في حكم الآية الكريمة.

 

ثانيًا: قتال البغاة في الحرم ابتداءً:

اختلف العلماء في حكم قتال البغاة في الحرم على قولين، والراجح: تحريم قتال البغاة في الحرم ابتداءً، بل يُضيَّقُ عليهم حتى يخرجوا أو يفيئوا[10]، واختاره: ابن حزم[11]، وابن العربي[12]، والمحب الطبري[13]، وابن تيمية[14]، وابن القيم [15].

 

الأدلة:

1- الأحاديث المتقدمة الواردة في تحريم القتال بمكة وأنها محرمة لم تحل لأحد قبله صلى الله عليه وسلم ولا لأحد بعده، إلا أن الله تعالى أحلها له ساعة من نهار: حديث ابن عباس، وأبي هريرة، وأبي شريح رضي الله عنهم[16].

 

وجه الدلالة: تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على تحريم سفك الدم بمكة والقتال فيها، وأنه كان خاصًّا برسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً من نهار، ولا يحل لأحد بعده.

 

2- ما جاء في حديث أبي شريح رضي الله عنه المتقدم، والشاهد منه: قول النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة: «لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا» [17].

 

وجه الدلالة: أنه نكرة في سياق النفي، فيقتضي العموم [18].

 

ما جاء عن أهل العلم في ذلك:

1- قال الماوردي رحمه الله في شأن مكة: "لا يُحارَب أهلها؛ لتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالهم، فإن بغَوا على أهل العدل، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى تحريم قتالهم مع بغيهم، ويُضيَّق عليهم حتى يرجعوا عن بغيهم، ويدخلوا في أحكام أهل العدل [19].

 

2- ومثله جاء عن ابن حزم رحمه الله قال: "لا يحل قتال أحد، لا مشرك ولا غيره في حرم مكة، لكننا نخرجهم منه، فإن خرجوا وصاروا في الحل، نفذنا عليهم ما يجب عليهم من قتل، أو أسر، أو عقوبة، فإن امتنعوا وقاتلونا، قاتلناهم حينئذٍ في الحرم كما أمر الله تعالى، وهكذا نفعل بكل باغٍ وظالم من المسلمين [20].

 

المسألة الثالثة: حمل السلاح:

اختلف العلماء في حكم حمل السلاح في الحرم على قولين، والراجح: جواز حمل السلاح في الحرم للحاجة والضرورة، وبه قال: مالك[21]، والشافعي[22]، وجمهور العلماء[23].

 

الأدلة:

1- ما جاء عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: ((لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية، كتب عليٌّ بينهم كتابًا، فكتب: محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: لا تكتب: محمد رسول الله، لو كنت رسولًا لم نقاتلك، فقال لعلي: امْحُهُ، فقال علي رضي الله عنه: ما أنا بالذي أمْحَاهُ، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيام، ولا يدخلوها إلا بجُلُبَّان السلاح[24]، فسألوه: ما جُلُبَّان السلاح؟ فقال: القِراب[25] بما فيه[26].

 

وجه الدلالة: دخول النبي صلى الله عليه وسلم عام عمرة القضاء بما شرطه من السلاح في القراب[27].

 

2- ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المِغْفَرُ[28]))[29].

 

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح متأهِّبًا للقتال، وهذه "هي الساعة التي أحلها الله تعالى له، ثم أخبر عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني أنها قد عادت إلى حرمتها إلى يوم القيامة"[30].

 

النهي عن حمل السلاح بمكة بلا حاجة: "لما كان السلاح عدةً للخائف، أو لمتوقع الخوف، أو لآخذ بثأر، أو لمتعدٍّ يدفع بذلك عن نفسه إن نوزع في غرضه، والله تعالى قد جعله حرمًا آمنًا، فلم يكن لحمل السلاح فيه معنًى"[31]؛ فقد جاء عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح» [32].

 

الجمع بين حديث النهي وأحاديث الجواز: حمل جمهور العلماء النهي عن حمل السلاح بمكة على جهتين:

1- أن يحمل السلاح لغير ضرورة ولا حاجة، فإن كان خوفٌ وحاجة إليه جاز[33].

 

2- أن يحمل السلاح بَطَرًا وأشَرًا، أو على وجه يضر بالناس، ولا سيما عند المزاحمة، وفي المسالك الضيقة[34].

 

الخلاصة: يجوز حمل السلاح بمكة عند الحاجة والضرورة؛ كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عند دخوله مكة عام الفتح بالسلاح، فإن قيل: إنها أحلت له ساعة، وأنه حمله في تلك الساعة، قيل: وقد شرطه في عمرة القضاء في صلح الحديبية ودخلها بما شرطه من السلاح، ولم يكن ذلك في الفتح.

 

كما أنه يجوز لرجال الأمن والحراسة الموكلين بحماية الحرم وحراسته أن يحملوا السلاح؛ لِما في ذلك من حاجة وضرورة؛ إذ إن حفظ الأمن وحماية المسجد الحرام والكعبة المشرفة من المقاصد الهامة والمطلوب تحقيقها، وهي مسؤولية شاقة منوطة بولي الأمر وبمن يوليهم عليها، ولا يمكن تحقق ذلك بدون سلاح يدفعون به الأذى والعدوان عن أنفسهم.

 


[1] انظر: الذخيرة (2/ 486)، المحلى (10/ 498)، المجموع (7/ 390)، زاد المعاد (3/ 443)، إحكام الأحكام (3/ 24)، عمدة القاري (2/ 143)، فتح الباري (12/ 207).

[2] رواه البخاري (3/ 1164)، (ح: 3017)، ومسلم (2/ 986)، (ح: 1353).

[3] رواه البخاري (2/ 857)، (ح: 2302)، ومسلم (2/ 988)، (ح: 1355).

[4] رواه البخاري (1/ 51)، (ح: 104).

[5] المحلى (10/ 498).

[6] البغاة: هم الظلمة الخارجون عن طاعة إمام المسلمين؛ [انظر: لسان العرب (3/ 215)].

[7] انظر: أحكام القرآن لابن العربي (1/ 153)، بدائع الصنائع (7/ 114)، زاد المسير (1/ 199)، المغني (9/ 92).

[8] تفسير الطبري (2/ 192)، وانظر: تفسير مقاتل بن سليمان (1/ 101).

[9] تفسير السعدي (1/ 89) بتصرف يسير.

[10] انظر: بدائع الصنائع (7/ 170).

[11] انظر: المحلى (10/ 498).

[12] انظر: أحكام القرآن (1/ 153).

[13] انظر: القِرَى لقاصد أم القرى (ص: 640).

[14] انظر: شرح العمدة في بيان مناسك الحج والعمرة، لابن تيمية، تحقيق: د. صالح الحسن، (2/ 349).

[15] انظر: زاد المعاد (3/ 443).

[16] سبق إيرادها وتخريجها في الهوامش رقم (2، 3، 4).

[17] رواه البخاري (1/ 51)، (ح: 104).

[18] انظر: فتح الباري (4/ 48).

[19] الأحكام السلطانية (1/ 187).

[20] المحلى (10/ 496).

[21] انظر: القِرى لقاصد أم القرى (ص: 646)، شفاء الغرام (1/ 113).

[22] انظر: القِرى لقاصد أم القرى (ص: 646)، المجموع (7/ 471).

[23] انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (9/ 131).

[24] الجُلُبَّانُ: هو الجراب من الأدَم يُوضع فيه السَّيف مغمودًا، ويَطرح فيه الراكبُ سوطَه وأداتَه، ويُعلِّقُه من آخِرةِ الرَّحْلِ أو واسطِه، والمقصود: ما يُحْتَاجُ إليه في إِظْهَارِه والقتالِ به إِلى مُعَانَاةٍ، لا كالرِّماحِ فإِنَّهَا مُظْهَرةٌ يُمْكِنُ تَعْجِيلُ الأَذَى بها؛ [انظر: تهذيب اللغة (11/ 65)، تاج العروس (2/ 79)].

[25] القِرابُ: هو الغِمْدُ الذي يُغمَدُ فيه السَّيف.

[26] رواه البخاري (2/ 959)، (ح: 2551).

[27] صحيح مسلم بشرح النووي (9/ 131).

[28] المِغْفَرُ: زرد يُنسج من الدروع على قدر الرأس، وقيل: هو حلق يتقنع به المتسلح، وسبب تسميته: لأنه يغفر الرأس؛ أي: يغطيه؛ [انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 374)].

[29] رواه البخاري (4/ 1561)، (ح: 4035).

[30] المحلى (10/ 498).

[31] الفتوحات المكية (1/ 897).

[32] رواه مسلم (2/ 989)، (ح: 1356).

[33] انظر: مواهب الجليل (3/ 204)، الديباج على مسلم (3/ 402)، نيل الأوطار (5/ 204).

[34] انظر: فتح الباري (2/ 455).