تفنيد الخرافات عن الحسد والسحر والجنّ في ضوء الكتاب والسنّة

منذ 2020-09-09

فهل من النصح لكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقال عن المقررات الثابتة فيهما إنها خرافة؟!! وهل يعلم القائل ضرر ذلك على عقيدته وعقيدة المسلمين الذين يتأثرون بكلامه؟!



بسم الله الرحمن الرحيم

تفنيد الخرافات عن الحسد والسحر والجنّ في ضوء الكتاب والسنّة
الشيخ عبد اللطيف النمر

الحمد لله رب العالمين ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ونسأله عز وجل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه ، وأن يهدينا سواء السبيل ، وأن ينفعنا بما نعلم وما نتعلم ، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر : 18] .
وبعد ، فقد نشرت مجلة الوعي الإسلامي في العدد 223 الصادر في رجب 1403 هـ - أبريل 1983 م ، مقالًا للدكتور عبد الرحمن العيسوي ، عنوانه "الخرافة في أذهان الشباب العربي" . وفي هذا المقال عدة أخطاء تتنافى مع القرآن الكريم والسنة المطهّرة . فتحت عنوان (أهداف الدراسة الحقلية / ص 82) جاء الآتي :
"استهدفت الدراسة التعرف على الخرافات المنتشرة في إحدى الدول العربية ومقارنتها بمثيلاتها في المجتمعات الأوروبية ، وتناولت موضوعات كثيرة كتحضير الأرواح والسحر والحسد ... والإيمان بوجود الأرواح والشياطين أو الجن ، وكذلك مدى الإيمان بالأمثال الشعبية ... والعين الشريرة" .
وتصحيحًا لما ورد في تلك المقالة من أخطاء أقول وبالله التوفيق :
أولًا : إن الحسد ليس خرافة ، بل حقيقة ثابتة في القرآن والسنة ، وله تأثير سيء في نفس الحاسد والمحسود . فإذا لم يكن ما جاء في القرآن الكريم والسنّة النبوية برهانًا على وجود الحسد وتأثيره السيء ، فنحن كما قال الشاعر :
وليس يصحّ في الأذهان شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل
وقد أمر الله عز وجل في القرآن بالاستعاذة من شر الحاسد كما جاء في سورة الفلق . أما تأثير الحسد نفسه فكما جاء في الحديثين الشريفين الآتيين :
- "إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ" [أبو داود]
(الحديث رقم 1567 من كتاب رياض الصالحين للإمام النووي في باب تحريم الحسد)
"دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبَغْضَاء ، هي الحالقة ، لا أقول تحلق الشِّعر ولكن تحلق الدِّين ..." [الترمذي] . ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : "هي الحالقة" أي هي الخصلة التي من شأنها أن تحلق أي تُهلك وتستأصل الدين كما يستأصل المُوسَى الشعر . وقوله صلى الله عليه وسلم "داء الأمم من قبلكم" يعني أن الحسد والبَغْضَاء من أدواء أهل الكتاب . وهذا الحديث الشريف من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ، فهذه الحروب المدمرة والمستمرة بين دول العالم الإسلامي – بل وفي الدولة الواحدة – إن هي إلا أُثر من آثار الحسد والبغضاء ، ومن آثار الغفلة عن مكايد الأعداء .
- ففي الحسد يقول الله عز وجل عن أهل الكتاب : {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة : 109] . وفي سورة النساء يقول الله عن اليهود بصفة خاصة : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء : 51] . ويبين الله سبب هذا جحود والعناد فيقول سبحانه : {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ ۚ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)} [النساء : 55]
- وأما عن البغضاء فيقول الله عز وجل :  {فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ ۚ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)} [المائدة : 14] . وفي شأن اليهود يقول الله عز وجل : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۚ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة : 46] .
ولمّا كان للحسد كل هذه المضارّ والآثار السيئة ، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة عن التحاسد : منها الحديث السابق ، وأيضًا ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا" [مسلم] . وفي حديث آخر : "لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا، وَيُشِيرُ إلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ" .
وسيأتي مزيد بيان عن الحسد وآثاره والوقاية منه في نهاية الحديث عن العين .
ثانيًا : عَدَّ الباحث العين الشريرة من الخرافات .
وتصحيحًا لهذا الوهم أو تصويبًا لذاك الفهم ، أذكر ما جاء في السنّة المطهّرة عن العين والإصابة بها . فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "الْعَيْنُ حَقٌّ ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ" . ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم "العين حقّ" أي أن أثرها ثابت موجود . وحكى محمد بن سهل بن حنيف رضي الله عنهما واقعة شخصية أصيب فيها أبوه بأثر العين ، فيقول : "خرج رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وسارُوا معه نحوَ مكَّةَ، حتى إذا كانوا بشِعْبِ الخَرَّارِ مِن الجُحْفةِ، اغتسَلَ سَهْلُ بنُ حُنَيفٍ، وكان رجُلًا أبيضَ، حسَنَ الجسمِ والجِلْدِ، فنظَرَ إليه عامرُ بنُ ربيعةَ أخو بني عَدِيِّ بنِ كَعْبٍ وهو يغتسِلُ، فقال: ما رأَيْتُ كاليومِ ولا جِلْدَ مخبَّأةٍ، فلُبِطَ بسَهْلٍ، فأُتِيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقيل له: يا رسولَ اللهِ، هل لك في سَهْلٍ؟ واللهِ، ما يَرفَعُ رأسَهُ، وما يُفِيقُ، قال: هل تتَّهِمون فيه مِن أحدٍ؟ قالوا: نظَرَ إليه عامرُ بنُ ربيعةَ، فدعَا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عامرًا، فتغيَّظَ عليه، وقال: علامَ يقتُلُ أحدُكم أخاه؟ هلَّا إذا رأَيْتَ ما يُعجِبُك برَّكْتَ؟ ثمَّ قال له: اغتسِلْ له، فغسَلَ وجهَهُ ويدَيْهِ، ومَرْفِقَيْهِ ورُكْبتَيْهِ، وأطرافَ رِجْلَيْهِ، وداخلةَ إزارِهِ في قَدَحٍ، ثمَّ صَبَّ ذلك الماءَ عليه، يصُبُّهُ رجُلٌ على رأسِهِ وظَهْرِهِ مِن خَلْفِهِ، يُكفِئُ القَدَحَ وراءَهُ، ففعَلَ به ذلك، فراح سَهْلٌ مع الناسِ ليس به بأسٌ" [أحمد] .
ومما يزيد العين تثبيتا وتأكيدًا رقية جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم : فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه : "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد اشتكيتَ؟ ، فقال: نعم ، قال : بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك بسم الله أرقيك" . وعن السيدة عائشة رضي الله عنها "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشْتَكَى رَقَاهُ جبريلُ ، فقال : بسمِ اللهِ يُبْرِيكَ ، من كلِّ دَاءٍ يَشْفيكَ ، من شرِّ حاسِدٍ إذا حَسَدَ، و من شرِّ كلِّ ذِي عينٍ" [مسلم]
ثالثًا : جاء في مقال الخرافة : "وتناولت الدراسة موضوعات كثيرة كتحضير الأرواح والسحر والحسد ... والإيمان بوجود الأرواح والشياطين أو الجنّ" .. وفي الخرافة رقم 3 : "اعتقاد أن هناك أرواحًا طيبة وأرواحًا شريرة" .
وأقول تصحيحًا : إن هذا اعتقاد صحيح وليس خرافة . فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ" [رواه البخاري ، وكذلك مسلم عن أبي هريرة في كتاب الأدب النبوي] . ومعنى الحديث أن النفوس الطيبة يألف بعضها بعضًا ، وأن النفوس الخبيثة الشريرة يميل بعضها إلى بعض ، كما قال الله تعالى : {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور : 26] . وقد جاءت هذه الآية بعد حادثة الإفك لتقيم برهانًا آخر على أن اللبائي اصطفاهنّ الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بررة أطهار ، لأنه صلى الله عليه وسلم أطيب الخلق وأعظمهم برًّا .
رابعًا : أما كون الإيمان بوجود الشياطين أو الجنّ خرافة ، فقول لم يقل به أحد إلا أصحالب مقالة الخرافة! وهو قول يتعارض تعارضًا صريحًا وواضحًا مع كتاب الله تعالى . فإن إنكار وجود الجنّ والشياطين كإنكار وجود الإنس سواء بسواء ، وكلاهما تكذيب للقرآن والسنّة . فقد قال الله عز وجل : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات] . والشياطين والجن اسمان أو وصفان لنوع واحد من الخلق ، غير أنه غلب استعمال كلمة الشياطين للكافرين من هذا الجنس والجن للمؤمنين منهم .
وقد كانت الشياطين والجن مسخّرة لنبي الله سليمان عليه السلام فيما قَصَّه علينا القرآن الكريم : {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ (40)} [ص] ؛ {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ ۖ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء : 82] ؛ {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ : 12] . وقد أفاض القرآن في الحديث عن الشياطين في آيات كثيرة ، كما جاء في قصة آدم عليه السلام في سور : البقرة والأعراف والحجر والكهف والإسراء وطه ... ؛ وكما جاء في استماع الشياطين لتلاوة القرآن في سورة الأحقاف {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29)} ، وفي خلق الله للجنّ والإنس في سورة الرحمن : {خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)} . بل في القرآن سورة بأكملها عنوانها "الجِنّ" ومستهلّها قوله عز وجل لنبيه عليه السلام : {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} . وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "خُلِقَتِ الملائكةُ من نُّورٍ ، و خلق الجانَّ من مارِجٍ من نارٍ ، و خلق آدمَ مِما وُصِفَ لكمْ" [مسلم] .
وأخيرًا وليس آخرًا ، فإن كلمة الشيطان والشياطين ذكرت في القرآن 88 مرة ، بخلاف مرّات ذكرها في الأحاديث فكيف خفي كل هذا على صاحب الدراسة الحقلية؟! ليته جعل القرآن والسنّة حقلًا لدراسته!
خامسًا : جاء في الخرافة رقم 19 : "كل شخص له زميل أو زميلة من أهل الجن" .
وأقول : هذه حقيقة ثابتة بالقرآن والسنّة وليست خرافة . ففي صحيح مسلم في باب " تَحْرِيشِ الشَّيْطَانِ وَبَعْثِهِ سَرَايَاهُ لِفِتْنَةِ النَّاسِ وَأَنَّ مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ قَرِينًا" ، جاء الآتي :
- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ ، إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ قَالُوا : وَإِيَّاكَ ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : وَإِيَّايَ ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ"
- عن عُرْوَةَ بن الزبير رضي الله عنهما ، عن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا ، قَالَتْ : فَغِرْتُ عَلَيْهِ ، فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ ، فَقَالَ : مَا لَكِ ؟ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ ؟ فَقُلْتُ : وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ مَعِيَ شَيْطَانٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ قُلْتُ : وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ قُلْتُ : وَمَعَكَ ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : نَعَمْ ، وَلَكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ" . (قال النووي : فأسلَم أو فأسلُم برفع الميم وفتحها روايتان مشهورتان . فمن رفع فمعناه أسلَمُ أنا من شرّه وفتنته ، ومن فتح فمعناه إن القرين أسلمَ من الإسلام وصار مؤمنًا فلا يامرني إلا بخير . ا هــ .)
أما في القرآن الكريم ، فيقول الله عز وجل :
- { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37) حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)} [الزخرف] .
- { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)} [ق] .
سادسًا : جاء في الخرافة رقم 4 : "إن الدين يعترف بالسحر" .
أقول : معلوم لنا معشر المسلمين أن الدين هو كتاب الله تعالى وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم . وكلمة (يعترف) يُخبَر بها عن المذنب المتهم .. قال تعالى عن أهل النار : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك] . فلا ينبغي أن يقال عن الدين : إنه يعترف . بل الدين يُثبت أو ينفي ، ويحكم أو يقضي . هذا من حيث اللغة ورعاية مكانة الإسلام ، فلا  يُتحدث عن الدين القيّم إلا بما يليق به . أما من حيث المبدأ فأقول : إن الدين قرر وجود السحر . فذكر القرآن الكريم كثيرًا عن سحرة فرعون وقرر أن لهم تاثيرًا ، من ذلك قوله تعالى : { وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا ۖ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)} [الأعراف] . وكذلك ما جاء في سورة البقرة عن هاروت وماروت . والبرهان القاطع الدامغ على أن للسحر تأثيرًا وضررًا أمر الله تعالى أن نستعيذ من شر النفاثّات في العُقَد كما جاء في سورة الفلق ، وفُسِّرت النفّاثات بأنّهن السَّواحر (الساحرات) وأيضًا بأنها جمع نفّاثة أي النفوس التي تنفُث في العُقَد لعمل التمائم والأسحار . وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه : " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ" . أي من علّق شيئًا من التمائم والتعاويذ وما يسميه الناس اليوم بالحجاب ، وُكِل إليه أي لم يتولَّ الله تعالى حفظه ورعايته لأنه اعتمد على غيره سبحانه ولم يأخذ بالأسباب المشروعة في دينه ، منها – مثلًا – ما جاء في صحيح البخاري في كتاب الطب ، باب "الدواء بالعجوة للسحر" ، عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً ، لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ" .
وقد أمر سول الله صلى الله عليه وسلم باجتناب السحر أي تركه والبعد عنه . فعن أبي هريرة رضي الله : " أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول اللهِ وما هن قال الشرك بًالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بًالحق وأكل الربًا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" [متّفق عليه] . وقد اتفق العلماء على حرمة تعلم السحر وتعليمه وتعاطيه وقالوا إن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر كان كفراً ، وقال مالك وأحمد وجماعة من الصحابة والتابعين تعاطي السحر كفر يوجب القتل. وكأن حرمة التعليم والتعلم جاءت لأن ذلك وسيلة للعمل به .
خاتمة ونصيحة أتوجه بها لكل مسلم بصفة عامة ، ولمن يتحدثون للناس بصفة خاصة : جاء في مقدمة صحيح مسلم كلام كثير عن لزول التثبت في الرواية وأمور الدين كلها ، فمن ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة : "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ" . وفي باب "النهي عن الرواية عن الضعفاء والكذابين ومن يُرغَب عن حديثهم" : " سَيَكونُ في آخِرِ أُمَّتي أُناسٌ يُحَدِّثُونَكُمْ ما لَمْ تَسْمَعُوا أنتُمْ ولا آباؤُكُمْ، فإيَّاكُمْ وإيَّاهُم" . وأخرج البخاري ومسلم عن تميم بن أوس الداري –رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة . قلنا : لمن يا رسول الله؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" .
فهل من النصح لكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقال عن المقررات الثابتة فيهما إنها خرافة؟!! وهل يعلم القائل ضرر ذلك على عقيدته وعقيدة المسلمين الذين يتأثرون بكلامه؟! ألا فيلعلم أوّلًا أن هذا تكذيب للقرآن ، والله عز وجل يقول : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [يونس : 37] . وليعلم ثانيًا أن ردّ الحديث الصحيح تكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وتكذيبه صلى الله عليه وسلم والكذب عليه سواء ، مردّهما إلى النار والعياذ بالله .
ختامًا : { إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود : 88]