المدنية الغربية والناعقون باسمها
الأمة العربية مسلمة شرقية، فيجب أن يبقى لها دينها وشرقيتها ما جرت أنهارها،و قام إرثها شاهدا عليها، حتى تُبَدَّل الأرض غير الأرض والسموات.
سأودّع في هذه النظرة الخيال والشعر وداعَ مَنْ يعلم أن الأمر أعظم شأناً، وأجل خطراً من أن يعبث فيه العابث بأمثال هذه الطرائف التي هي بالهزل أشبه منها بالجد، والتي إنما يلهو بها الكاتب في مواطن فراغه ولعبه لا في مواطن جده وعمله.
إن في أيدينا معشر الكُتَّاب من نفوس هذه الأمة وديعةً يجب علينا تعهدها، والاحتفاظ بها والحدب عليها حتى نؤديها إلى أخلافنا من بعدنا، كما أداها إلينا أسلافنا سالمة غير مأروضة (من أكل الأرضة) ولا متآكلة، فإن فعلنا فذاك، أولا فرحمة الله على الصدق والوفاء، وسلام على الكُتَّاب الأمناء.
الأمة العربية مسلمة شرقية، فيجب أن يبقى لها دينها وشرقيتها ما جرت أنهارها،و قام إرثها شاهدا عليها، حتى تُبَدَّل الأرض غير الأرض والسموات.
إن خطوة واحدة يخطوها العربي إلى الغرب تدني إليه أجله، وتدنيه من مهوى سحيق يقبر فيه قبراً لا حياة له من بعده إلى يوم يبعثون.
لا يستطيع العربي وهو ذلك الضعيف المستسلم أن يكون من المدنية الغربية إن داناها إلا كالغربال من دقيق الخبز، يمسك خشاره، ويفلت لبابه، فخير له أن يتجنبها جهده، وأن يفر منها فرار السليم من الأجرب.
يريد العربي أن يقلد الغربي في نشاطه وخفته، فلا ينشط إلا في غدواته وروحاته، وقعدته وقومته، فإذا جد الجد، وأراد نفسه على أن يعمل عملاً من الأعمال المحتاجة إلى قليل من الصبر والجلد دَبَّ الملل إلى نفسه دبيب الصهباء في الأعضاء، والكرى بين الجفون.
يريد أن يقلده في رفاهيته، ونعمته فلا يفهم منهما إلا الأولى التأنث في الحركات، والثانية الاختلاف إلى مواطن الفسق ومخابئ الفجور.
يريد أن يقلده في الوطنية فلا يأخذ منها إلا نعيقها ونعيبها، وضجيجها وصفيرها، فإذا قيل له: هذه المقدمات، فأين النتائج؟ أسلم رجليه إلى الرياح الأربع، واستن في فراره استنان المهر الأرن(النشيط)، فإذا سمع صفير الصافر مات وجلاً، وإذا رأى غير شيء ظنه رجلاً.
يريد أن يقلده في السياحة، فلا يزال يترقب فصل الصيف ترقب الأرض الميتة فصل الربيع، حتى إذا حان حينه طار إلى مدن أوروبا طيران حمام الزاجل لا يبصر شيئاً مما حوله، ولا يلوي على شيء مما وراءه، حتى يقع على مجامع اللهو، ومكان الفجور، وملاعب القمار، وهناك يبذل من عقله وماله ما يعود من بعده فقير الرأس والجيب، لا يملك من الأول ما يقوده على طريق السفينة التي تحمله في أوبته ولا من الثاني أكثر من الجعالة التي يجتعلها منه صاحب الجريدة؛ ليكتب له بين حوادث صحيفته حادثة عودته بجمل الإجلال والاحترام مطرزة بوشائع الإكرام والإعظام.
يريد أن يقلده في العلم فلا يعرف منه إلا كلمات يرددها بين شدقيه ترديداً لا يلجأ فيه إلى ركن من العلم وثيق، ولا يعتصم به من جهل شائن.
يريد أن يقلده في الإحسان والبر، فيترك جيرانه وجاراته يطوون حنايا الضلوع على أمعاء تلتهب فيها نار الجوع التهاباً؛ حتى إذا سمع دعوة إلى اكتتاب في فاجعة نزلت في القطب الشمالي، أو كارثة أَلَمَّت بسد يأجوج ومأجوج ؛ سَجَّل اسمه في فاتحة الاكتتاب، ورصد هبته في مستهل جريدة الحساب.
يريد أن يقلده في تعليم المرأة وتربيتها، فيقنعه من عملها مقالة تكتبها في جريدة، أو خطبة تخطبها في محفل، ومن تربيتها التفنن في الأزياء، والمقدرة على استهواء النفوس، واستلاب الألباب.
هذا شأنه في الفضائل الغربية، يأخذها صورة مشوهة، وقضية معكوسة لا يعرف لها مغزى، ولا ينتحي بها مقصداً، ولا يذهب فيها إلى مذهب، فيكون مثله كمثل جهلة المتدينين الذين يقلدون السلف الصالح في تطهير الثياب، وقلوبهم ملآى بالأقذار والأكدار، ويجارونهم في أداء صور العبادات، وإن كانوا لا ينتهون عن فحشاء ولا عن منكر، أو كمثل الذين يتشبهون بِعُمَر في ترقيع الثياب، وإن كانوا أحرص على الدنيا من صيارفة اليهود.
أما شأنه في رذائلها فإنه أقدر الناس على أخذها كما هي، فينتحر كما ينتحر الغربي، ويلحد كما يلحد، ويستهتر الفسوق استهتاره، ويترسم في الفجور آثاره.
إن في عرب اليوم عيوباً جمة في أخلاقهم وطباعهم، ومذاهبهم وعاداتهم، فإن كان لا بدَّ لنا من الدعوة إلى إصلاحها فلندع إلى ذلك باسم المدنية الشرقية لا باسم المدنية الغربية.
إن دعوناهم إلى الحضارة فلنضرب لهم مثلاً بحضارة بغداد، وقرطبة، لا بباريس ورومه، وسويسرا، ونيويورك.
وإن دعوناهم إلى مكرمة، فلنتل عليهم آيات الكتاب المنزلة، وأقوال الأنبياء والحكماء، لا آيات روسو وباكون ونيوتن وسبنسر.
وإن دعوناهم إلى حرب، ففي تاريخ خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وموسى بن نصير، وصلاح الدين _ ما يغنينا عن تاريخ نابليون، وولنجتون، وواشنطون، ونلسن، وبلوخر، وفي وقائع القادسية، وعمورية، وإفريقية، والحروب الصليبية، ما يغنينا عن وقائع واترلو، وترافلغار، واستر ليتز، والسبعين.
إن عاراً عن سيلحق التاريخ الحديث، يوم يعرف المسلم المعاصر من تاريخ بونابرت، ما لا يعرف من تاريخ عمرو بن العاص، ويحفظ من تاريخ الجمهورية الفرنسية, ما لا يحفظ من تاريخ الرسالة المحمدية، ومن مبادئ ديكارت، وأبحاث دارون ما لا يحفظ من حكم الغزالي وأبحاث ابن رشد، ويروي من الشعر لشكسبير، وهوجو، ما لا يروي للمتنبي وعمر بن أبي ربيعة، وزهير بن أبي سلمى.
لا مانع من أن يُعَرِّب لنا المعرِّبون المفيد النافع من مؤلفات علماء الغرب، والجيد الممتع من أدب كُتَّابهم، وشعرائهم على أن ننظر فيه نظر الباحث المنتقد لا الضعيف المستسلم؛ فلا نأخذ كل قضية مسلمة، ولا نطرب لكل معنى أدبي طرباً متهوراً.
ولا مانع من أن ينقل إلينا الناقلون شيئاً من عادات الغربيين، ومصطلحاتهم في مدنيتهم على أن ننظر إليه نظر من يريد التبسط في العلم والتجربة والاختبار، لا على أن نقلدها، ونتقلدها، وننتحلها قاعدتنا في استحسان ما نستحسن من شؤوننا، واستهجان ما نستهجن من عاداتنا.
وبعد فليعلم كُتَّاب هذه الأمة وقادتها: أنه ليس من عادات الغربيين، وأخلاقهم الشخصية الخاصة بهم ما نحسدهم عليه كثيراً؛ فلا يخدعون أمتهم عن نفسها، ولا يفسدوا عليها دينها وشرقيتها، ولا يزينوا لها تلك المدنية تزييناً يرزؤها في استقلالها النفسي، وبعدما رزأتها السياسة في استقلالها الشخصي.
__________________________________________
اسم الكاتب: الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي رحمه الله
- التصنيف: