الارتجال

منذ 2020-10-18

الأصل بالحياة الارتجال، فقد كان الناس في بدء الأمر عفويّون، تجدهم يفعلون ويقولون بديهة بلا تصنعٍ ولا تهيئ في  كلامهم ومعاشهم وسلمهم وحربهم، ثم دخل أمر الاستعداد والتهيئ على بعض الأمور لأنها لا تصلح إلا بإعمال الفكر والمشاورة كالزواج وإنشاء الدول والمؤسسات وتقعيد القواعد وغيرها، أما بقية الأمور فبقيت على الأصل.

 

وعندما كثر الخطأ عند بعض من يرتجل رأوا أن يكونوا على استعداد مؤقت، والمرتجلون نوعان: نوع كان ارتجاله عن طول تجربةٍ وتمكّن مثل الكهول والموهوبين في مجالات معينة، وهؤلاء أخطاؤهم معدودة، ونوعٌ هم الصبيان والشباب الذين كان صوابهم معدود والخطأ مستشرٍ فيهم، وهؤلاء كانوا في أول أمرهم يرتجلون بغية التعلم والتدريب، ويكون هناك من يقيّمهم وينصحهم فيسترشدون بنصحه.

 

فإذا توسّد بعض الأمور غير أهلها، وركب الأمور الخطيرة سفهاء أفسدوا، وكذلك عندما ضعفت الملَكات وفسدت الأذواق وجهلت العقول وتاهت الفِطر كان المعتمد القراءة من الورق والاستعداد لكل الأفعال ودراسة الأمور، وذلك حتى يتقووا، ولكنهم استمروا على نزع الارتجال وتعطيل العقل فلا تكاد تجد صاحب بديهة يصيب الرأي في أمر مفاجئ، أو من يخطب في نازلة بلا استعداد ولا إعمال فكر، كما خطب أبو بكر الصديق يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وسهيل بن عمرو يوم الردة، فكان لخطبتهما أثر عظيم حين زلزلت النفوس، وكانت العرب تباده بعضها بالخطب والأشعار أحيانًا، وما زال هذا موجودًا في شعر المحاورة في الشعر الشعبي.

 

وكما يكون الارتجالٌ بالقول - وهو الأغلب -، فهناك ارتجال بالأفعال، كما يفعل القادة العسكريون في المعارك، حين تُوضع الخطط وتعسكر المعسكرات وتسير الجيوش، فإن طرأ أمر لم يتطرقوا له، وانقطع الاتصال مع القيادة العليا يبقى قائد الجيش ليس أمامه سوى أن يرتجل، فإن اعتاد الارتجال ومواجهة هذه المواقف الطارئة أفلح، وإلا انتكس فتراه يجمع مستشاريه ليضعوا له خطة، والوضع لا يسمح بذلك، لذلك يجدر بذوي المناصب أن يتعلموا كيف يرتجلون إن حدث أمر ما.

 

وأولى الناس بتعلم هذا هم المتصدرون للعامة، المتحدثون الرسميون والوزراء وأصحاب المناصب والمراكز الحساسة، الذين يتطلب عملهم الوقوف أمام منصة الإعلام، والتعرّض لبعض الأسئلة المحرجة من الصحفيين، وهذه الأسئلة إما بسوء نية، أو بحسن نية، فإن أظهر المسؤول غضبه بان نقصه وفشله، وإن أخفى ردة فعله بمهارة، وأجاب ب(الكلام الفارغ)، وهو فن لا يتقنه كثيرون، أن تتكلم بكلام لا يُفهم منه شيء كان متميزًا، والسكوت في هذه المواقف المحرجة أو إسكات السائل أو إنهاء اللقاء هو ضعف وتهرّب وينعكس سلبًا على المسؤول وجهته.

 

ولا أقول نعادي التروي والاستعداد، ونعتمد كليًّا على الارتجال في كل شؤون حياتنا، بل أن نحيي هذا الإبداع الذي أوشك أن يندثر، وأن نستثمر القدرة العقلية العظيمة في الإنسان القادرة على مواجهة أصعب المواقف واللحظات، متى ما أعطيت التدريب الملائم وتحرّوا الاستعداد الفطري في الأفراد، وبعض الأمور يجدر بكل أحد أن يتريّث بها ولا يبادر بكلمة ولا قرار، وبعضها يحسن به الرد في الحال وإلا فَقَدَ رده بعد ذلك بريقه.

 

ولا يسرني أن أرى الرجل الخطيب يختبئ خلف ورقته لا يغادرها أبدًا، فإن زعم أن فيها ترتيبًا لأفكاره ولكي لا يتشتتِ الناس حين يرتجل ويتخبط بكلامه، فالجواب: أن لديه عقل وهبه الله يفوق هذه الورقة وإمكانياتها، عقل قادر على أن يرتب الأفكار والكلام بداهة ترتيبًا منطقيًّا سهلًا، ويخرج الألفاظ والكلمات المناسبة، وتتفجر فيه الخواطر والأفكار الملائمة، فترى المستمع ينجذب إلى الخطيب المرتجل المتمكّن ويتأثر أشد من تأثره بمن يقرأ من ورقته، والموضوع يحتاج لتمرين ودربة فقط، وما بلغنا عن خطباء العرب الفصحاء أنهم كانوا يقرأون من ورقة، والإنسان إن ترك حواسه أو مهاراته ولم يستخدمها أبدًا ضعفت وربما تلفت، والاستعداد بجمع مادة الخطبة أو البحث في الأدلة وأقوال الفقهاء أو تسجيلها لأنه سيء الحفظ لكي لا يحرّف آيةً أو حديثًا أو يقوّل أحدًا مالم يقله هذا أمر لا ينازع في صحته أحد.

 

ومن خلال تأملي في ارتجال الناس بأنواعه وجدتُ أن من المعينات على الارتجال أن يحفظ الإنسان بعض الأقوال المعتادة في المواقف المشابهة، فإن كان خطيب جمعة مثلًا يحفظ مقدمة الحاجة أو مقدمة أخرى، وبعض الوصايا بتقوى الله، ويحفظ خاتمة معتادة للجُمع كقولهم: إن الله يأمر بالعدل..، مع بعض الأدعية، فيرتجل بما شاء الله له، فإن ارتُجّ في كلامه - وهذا يحدث في بادئ الأمر غالبًا - وجد محفوظه معينًا له على الثبات حتى يذهب عنه ارتجاجه، وإن كان في لقاء صحفي وهو متحدث رسمي، حفظ ما يُقال غالبًا في بداية الكلام مثل: يسعدني الانصمام إليكم والإجابة على استفساراتكم، ويحفظ بعض الأجوبة المثالية التي تصلح لكثير من الأسئلة مثل: نسعى دائمًا لخدمة المواطن والوقوف على احتياجاته..، وبعض الأجوبة الختامية مثل: وإن شاء الله سترون ما يسركم وإلى هنا انتهى الوقت أو سأغادركم إلى أمل اللقاء بكم....

 

وكذلك من المعين على الارتجال أن يتدرب المرء كثيرًا، وكما قالوا: الممارسة تؤدي إلى الاتقان، فيمارس ذلك في عزلته، ثم في حضرة الأقرباء، ويتوسّع تدريجيًا، ويحاول أن يُمرّن عقله على الارتجال كلما حدثت مواقف طارئة حتى يصبح الأمر جبلة وملكة، وإذا كان الإنسان حريصًا على الإصابة بالقول بداهة، فكيف يكون إن حضّر وزوّر!، فهو خير في ارتجاله واستعداده.


بقلم : محمد بن عبدالرب آل نواب