دلائل في التقاضي وفض المنازعات

منذ 2020-11-02

قال أهل العلم: ولو قضى مع الغضب والجوع نفذ قضاؤه إذا صادف الحق، وقد ورد في هذا الحديث ما يدل على ذلك.

بسم الله الرحمن الرحيم

روى البخاري ومسلم «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجِ الحَرَّةِ، الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: سَرِّحِ المَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ. فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ: «أَسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ المَاءَ إِلَى جَارِكَ»، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الجَدْرِ»، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: " وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ» : { {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} } [النساء: 65]

 

** المفردات والمعاني:

(الزبير) ابن العوام بن صفية بنت عبد المطلب، عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي ناداها النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت { {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} } [الشعراء:214] فقال: (يا عباس .. يا صفية عمة رسول الله .. يا فاطمة بنت محمد .. لاَ أُغْنِى عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا).

)شِرَاجِ) جمع شرج وهو مسيل الماء من المرتفع إلى السهل (الحَرَّةِ) الأرض الصلبة الغليظة ذات الحجارة السوداء، وفي المدينة حرتان.

(سَرِّحِ المَاءَ يَمُرُّ) أي أطلقه وأرسله، وإنما قال له ذلك لأن الماء كان يمر بأرض الزبير قبل أرض الأنصاري فيحبسه لإكمال سقي أرضه ثم يرسله إلى أرض جاره، فالتمس منه الأنصاري تعجيل ذلك فامتنع الزبير.

(أن كان ابن عمتك) لأنه كان ابن عمتك حكمت له بذلك، ونحوه قوله تعالى { {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ{10} هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ{11} مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ{12} عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ{13} أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ{14}} [القلم] أي لا تطعه مع هذه المثالب لأن كان ذا مال وبنين، وإنما قال الأنصاري ذلك عند الغضب وكان زلة منه رضي الله عنه

** قوله (حَتَّى يَرْجِعَ) يصل (إِلَى الجَدْرِ) الحواجز التي تحبس الماء كالجدار، والمعنى حتى تبلغ تمام الشرب

فأَمَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزبير أَوَّلًا بِالْمُسَامَحَةِ وَالْإِيثَار بِأَنْ يَسْقِي شَيْئًا يَسِيرًا ثُمَّ يُرْسِلهُ إِلَى جَاره، إدلالا على الزبير ولعلمه بأنه يرضى بذلك ويؤثر الإحسان إلى جاره، فَلَمَّا قَالَ الْأَنْصَارِيّ مَا قَالَ وَجَهِلَ مَوْضِع حَقّه، أَمَرَهُ -صلى الله عليه وسلم- بِأَنْ يَأْخُذ تَمَام حَقّه وَيَسْتَوْفِيه فَإِنَّهُ أَصْلَح لَهُ وَفِي الزَّجْر أَبْلَغ.

** عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قضى في سيل مهزور ومذينيب أن يمسك الأعلى إلى الكعبين ثم يرسل الأعلى إلى الأسفل»

وذكر عبد الملك بن حبيب أن مهزور ومذينيب واديان من أودية المدينة يسيلان بالمطر، وتتنافس أهل الحوائط في سيلهما، فقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعلى فالأعلى، والأقرب فالأقرب إلى ذلك السيل، يدخل صاحب الحائط الأعلى اللاصق به السيل جميع الماء في حائطه ويصرف مجراه إلى بيبته فيسيل فيها ويسقي به حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط إلى الكعبين من القائم، أغلق البيبة وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه لحائطه، فيصنع فيه مثل ذلك ثم يصرفه إلى من يليه أيضا، هكذا أبدا يكون الأعلى فالأعلى أولى به على هذا الفعل حتى يبلغ ماء السيل إلى أقصى الحوائط

وهذه السنة فيهما وفيما يشبههما مما ليس لأحد فيه حق معين (كمن حفر البئر بنفسه) الأول أحق بالتبدية ثم الذي يليه إلى آخرهم رجلا.

** التخاصم مما جرى على ابن آدم والمنازعات أمر بشري كل يرى الحق معه ويسعى في الوصول لتحقيقه، وغمامة الدنيا ودنوها عامل أساسي في قلب الحق والحقائق

فقوله: (إن رجلا من الأنصار) زاد البخاري روايته في كتاب الصلح «قد شهد بدرا»

قال التوربشتي رحمه الله: وقد اجترأ جمع من المفسرين بنسبة الرجل تارة إلى النفاق وأخرى إلى اليهودية، وكلا القولين زائغ عن الحق، إذ قد صح أنه كان أنصاريا ولم يكن الأنصار من جملة اليهود.

 ولو كان مغموضا عليه في دينه لم يصفوه بهذا الوصف «قد شهد بدرا» فإنه وصف مدح .. والأولى بالشحيح بدينه أن يقول هذا قول أذله الشيطان فيه بتمكنه عند الغضب وغير مستبعد من الصفات البشرية الابتلاء بأمثال ذلك. انتهى بتصرف

** الانعزالية في التفكير والتحصيل خطر عظيم، فما طلبه الأنصاري من الزبير هو تعجيل لنيل الماء قبل أوانه، وتفكيره بانعزالية عن إخوانه، وطلب النجاة لأرضه دون أرض أخيه، وكلها أحوال تنم عن حالة المرء عندما يتفاعل مع ماله ودنياه فقط، فيغيب القلب عن محياه ويستبدل بئر نبضه الإيماني والأخوي بقيعان قحط أخلاقي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ.

** قال العلماء: ولو صدر مثل هذا الكلام الذي تكلم به الأنصاري اليوم من إنسان من نسبته صلى الله عليه وسلم إلى هوى كان كفرا وجرت على قائله أحكام المرتدين [شرح النووي لمسلم]

** قوله (فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ) عن عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنهما قال: كتب أبي أو كتبت له إلى ابنه عبد الله بن أبي بكرة وهو قاض بسجستان "أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان" فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» ) [البخاري ومسلم].

وفي رواية: ( «لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان» ) [البخاري].

والنص وارد في المنع من القضاء حالة الغضب، وذلك لما يحصل للنفس بسببه من التشويش الموجب لاختلال النظر وعدم استيفائه على الوجه،  وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل منه ما يشوش الفكر، وكل حال يخرج الحاكم فيها عن سداد النظر واستقامة الحال: كالشبع المفرط، والجوع المقلق، والهم والفرح البالغ، ومدافعة الحدث، وتعلق القلب بأمر .. ونحو ذلك، وكل هذه الأحوال يكره له القضاء فيها خوفا من الغلط، وهو قياس مظنة على مظنة، فإن كل واحد من الجوع والعطش مشوش للفكر، وكأن الغضب إنما خص لشدة استيلائه على النفس وصعوبة مقاومته.

قال أهل العلم: ولو قضى مع الغضب والجوع نفذ قضاؤه إذا صادف الحق، وقد ورد في هذا الحديث ما يدل على ذلك.

وقال آخرون حديث أبي بكرة عن رسول الله يسري على غيره صلى الله عليه وسلم من الحكام للخوف عليهم فيما ينقلهم إليه الغضب من العدل في الحكم إلى خلافه، والذي في حديث الزبير فمخالف لذلك لأنه في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في تولي الله تعالى إياه وعصمته له وحفظه عليه أموره، بخلاف سائر الناس في مثل ذلك، فانطلق ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعمله، ولم ينطلق ذلك لغيره، فنهاه رسول الله عليه السلام عنه كما حدثه أبو بكرة عنه والله أعلم

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز