مع عثمان رضي الله عنه - الكرم في حياة عثمان
يقول الحسن البصري رحمه الله: أدركت عثمان على ما نقموا عليه، قلما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون فيه خيرًا، فيقال لهم: يا معشر المسلمين، اغدوا على أعطياتكم. فيأخذونها وافرة.
الكرم في حياة عثمان*
يقول الحسن البصري رحمه الله: أدركت عثمان على ما نقموا عليه، قلما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون فيه خيرًا، فيقال لهم: يا معشر المسلمين، اغدوا على أعطياتكم. فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: يا معشر المسلمين، اغدوا على أرزاقكم. فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا على السمن والعسل. الأعطيات جارية، والأرزاق دائرة والعدو منفي، وذات البين حسن، والخير كثير، وما مؤمن يخاف مؤمنًا، من لقيه فهو أخوه من كان، ألفته ونصيحته ومودته، قد عهد إليهم أنها ستكون أثرة، فإذا كانت أن يصبروا... ولو أنهم صبروا حين رأوها لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق والخير الكثير، قالوا: لا والله ما نصابرها. فو الله ما ردوا ولا سلموا، والأخرى كان السيف مغمدًا عن أهل الإسلام ما على الأرض مؤمن يخاف أن يسل مؤمن عليه سيفًا، حتى سلوه على أنفسهم، فوالله ما زال مسلولاً إلى يوم الناس هذا، وأيم الله إني لأراه سيفًا مسلولاً إلى يوم القيامة.
يقول أبو العباس السراج رحمه الله: قال لي أبو إسحاق القرشي يومًا: من أكرم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: عثمان بن عفان. قال: كيف وقعت على عثمان من بين الناس؟ قلت: لأني رأيت الكرم في شيئين: في المال والروح، فوجدت عثمان جاد بماله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاد بروحه على أقاربه. قال: لله درك يا أبا العباس.
تقول جدة محمد بن هلال رحمها الله، وكانت تدخل على عثمان وهو محصور، فولدت هلالاً، فقعدها يومًا، فقيل لعثمان بن عفان: إنها قد ولدت هذه الليلة غلامًا. قالت: فأرسل إليّ بخمسين درهمًا وشقيقة سنبلانية، وقال هذا عطاء ابنك وكسوته، فإذا مرت به سنة رفعناه إلى مائة.
رُوِي أنه كان له على طلحة بن عبيد الله -وكان من أجود الناس- خمسون ألفًا، فقال له طلحة يومًا: قد تهيأ مالك فاقبضه. فقال له عثمان: هو لك معونة على مروءتك.
وجاءه رجل فقال له: ذهبتم يا أصحاب الأموال بالخير، تتصدقون، وتعتقون، وتحجون، وتنفقون. فقال عثمان: وإنكم لتغبطوننا؟ قال: إنا لنغبطكم. قال عثمان: "فوالله لدرهم ينفق أحد من جهد خير من عشرة آلاف غيض من يفيض".
وكان رضي الله عنه يعتق كل جمعة رقبة في سبيل الله منذ أسلم، فجميع ما أعتقه ألفان وأربعمائة رقبة تقريبًا.
وكان في بعض الأحيان يدخل مع التجار في مساومات شيقة، يلفتهم فيها إلى ما عند الله سبحانه وأنه خير وأبقى، فعن ابن عباس قال: قحط المطر على عهد أبي بكر الصديق فاجتمع الناس إلى أبي بكر فقالوا: السماء والأرض لم تنبت والناس في شدة شديدة، فقال أبو بكر: انصرفوا واصبروا فإنكم لا تمسون حتى يفرج الله الكريم عنكم. قال: فما لبثنا أن جاء أجراء عثمان من الشام، فجاءته مائة راحلة بُرًّا- أو قال طعامًا- فاجتمع الناس إلى باب عثمان فقرعوا عليه الباب، فخرج إليهم عثمان في ملأ من الناس فقال: ما تشاءون؟ قالوا: الزمان قد قحط، السماء لا تمطر، والأرض لا تنبت، والناس في شدة شديدة، وقد بلغنا أن عندك طعامًا، فبعنا حتى نوسع على فقراء المسلمين. فقال عثمان: حبًّا وكرامة، ادخلوا فاشتروا. فدخل التجار فإذا الطعام موضوع في دار عثمان، فقال: يا معشر التجار، كم تربحونني على شراء من الشام؟ قالوا: للعشرة اثنا عشرة. قال عثمان: قد زادوني. قالوا: للعشرة خمسة عشرة. قال عثمان: قد زادوني. قال التجار: يا أبا عمرو، ما بقي بالمدينة تجار غيرنا فمن زادك؟
قال: زادني الله تبارك وتعالى بكل درهم عشرة، أعندكم زيادة؟ قالوا: اللهم لا. قال: فإني أشهد الله أني قد جعلت هذا الطعام صدقة على فقراء المسلمين.
فهل يفتح الله تعالى آذان عباد المال ومحتكري قوت العباد شحًّا وجشعًا إلى صوت هذه العظمة العثمانية، حتى تدلف إلى قلوبهم فتهزها هزة الأريحية والعطف، وتوقظ فيها بواعث الرحمة والإحسان بالفقراء والمساكين والأرامل واليتامى وذوي الحاجات من أهل الفاقة والبؤس الذين طحنتهم أزمة الحياة، واعتصرت دماءهم شرابًا لذوي القلوب المتحجرة من الأثرياء؟ فما أحوج المسلمين في هذه المرحلة من حياتهم إلى نفحة عثمانية في إنفاق الأموال على الفقراء والمساكين والمحتاجين! تسري بينهم تعاطفًا ومؤاساة وبرًّا وإحسانًا.
ولقد بلغ السخاء والكرم من عثمان مبلغه حتى عُرِف بذلك بين الناس، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلم من عثمان أنه يتمنى أي إشارة نبوية للبذل والعطاء، يُحَدّث عبد الله بن سلام رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عثمان رضي الله عنه يقود ناقة تحمل دقيقًا وسمنًا وعسلاً، فقال صلى الله عليه وسلم: أنخ. فأناخ، فدعا ببرمة، فجعل فيها من السمن والعسل والدقيق، ثم أمر، فأوقد تحته حتى نضج، ثم قال: كلوا. فأكل منه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: هذا شيء يدعوه أهل فارس الخبيص".
وبعد أن بني الرسول صلى الله عليه وسلم مسجده وكثر المصلون والعباد، ضاق بهم المسجد وتمنى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتري أحد أصحابه الأغنياء الأرض المجاورة للمسجد ليضمها إليه، فقال مرغبًا: "من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون فيها كالمسلمين وله خير منها في الجنة؟" فأسرع عثمان واشترى تلك الرقعة من الأرض بخمسة وعشرين ألفًا، وبعد فتح مكة رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يوسع المسجد الحرام، فعرض على أصحاب أحد البيوت الواسعة الملاصقة للمسجد أن يتبرعوا به، فاعتذروا بأنهم لا يملكون سواه وليس عندهم مؤنة ما يستطيعون تشييد بيت غيره، فترامت الأنباء إلى عثمان، فأقبل إليهم واشتراه بعشرة آلاف دينار، وضمه للمسجد الحرام، وبعد أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واجهتهم مشكلة الماء الذي يشربون، وكانت هناك بئر ليهودي تدعى بئر رومة تفيض بالماء العذب وكان يبيع ماءها للمسلمين، وفيهم من لا يجد ثمن ذلك، فتمنى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتريها أحد من المسلمين ويجعلها في سبيل الله تفيض على الناس بغير ثمن فقال: "من يشتري رومة فيجعلها للمسلمين، يضرب بدلوه في دلائهم وله بها مشرب في الجنة؟"
فسارع عثمان لتلبية رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعًا فيما عند الله من الثواب العظيم، وذهب إلى اليهودي وساومه على شرائها، فتأبى عليه فساومه عثمان على النصف، فاشتراه منه باثنتي عشر ألف درهم، فجعله للمسلمين على أن يكون البئر لعثمان يومًا ولليهودي يومًا، فكان المسلمون يستقون في يوم عثمان ما يكفيهم يومين، فلما رأى اليهودي ذلك قال لعثمان: أفسدت عليّ ركيتي، فاشتر النصف الآخر. فَقَبِل عثمان ذلك واشتراه بثمانية آلاف درهم، وجعل البئر كلها للمسلمين، للغني والفقير وابن السبيل، تفيض بمائها بغير ثمن.
وفي غزوة تبوك جهز جيش العسرة بتسعمائة وخمسين بعيرًا، وأتم الألف بخمسين فرسًا، وألقى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ألف دينار، وجاء بسبعمائة أوقية ذهب صبها بين يدي رسول الله حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلب يديه ظهرًا لبطن ويدعو له ويقول: "غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت، وما أخفيت وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، ما يبالي عثمان ما عمل بعد هذا".
يروي عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه أن عثمان بن عفان جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة، فنثرها في حجره، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول: "مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ، مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ".
وفي واحدة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم أصاب الناس جهد وضيق، حتى ظهرت الكآبة في وجوه المسلمين والفرح في وجوه المنافقين، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال: "والله لا تغيب الشمس حتى يأتيكم الله برزق". وكان في الجيش عثمان المعطاء الفياض وسمع ببشرى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد علم أن الله ورسوله سيصدقان، فاشترى أربع عشرة راحلة بما عليها من الطعام، فوجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتسعة.
فلما رأى ذلك رسول الله قال: "ما هذا؟" قالوا: أهدى إليك عثمان، فعُرف الفرح في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، والكآبة في وجوه المنافقين.
يقول ابن مسعود راوي الحديث: "فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رفع يديه حتى رئي بياض إبطه يدعو لعثمان دعاءً ما سمعته دعا لأحد قبله ولا بعده بمثله: اللهم أعط عثمان، اللهم افعل بعثمان".
رغم اشتهاره رضي الله عنه بالغنى والثروة والمال الوفير، فإنه قد اشتهر بالزهد في متاع الدنيا وزينتها، أخرج الإمام أحمد من حديث شرحبيل بن مسلم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يطعم الناس طعام الإمارة، ويدخل إلى بيته فيأكل الخل والزيت.
وكذلك أخرج الإمام أحمد من حديث الهمداني قال: رأيت عثمان نائمًا في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين.
وكذلك أخرج الإمام أحمد من حديث ميمون بن مهران قال: أخبرني الهمداني أنه رأى عثمان بن عفان على بغلة وخلفه غلامه نائل وهو خليفة.
وعن حميد بن نعيم أن عمر وعثمان رضي الله عنهما دعيا إلى طعام، فلما خرجا قال عثمان لعمر: قد شهدنا طعامًا لوددنا أنا لم نشهده، قال: لم؟ قال: إني أخاف أن يكون صنع مباهاة.
وحينما يكون الزاهد متوسطًا في المعيشة فإن زهده لا يلفت النظر كثيرًا ولا يثير العجب، ولكن حينما يكون غنيًّا فإن زهده يكون مدهشًا للمتأملين وعبرة للمعتبرين؛ ذاك لأن كثرة المال تغري بالانصراف نحو الملذات والتوسع في النفقات، فلا بد ليكون الغني زاهدًا من استيعابه لفقه القدوم على الله حتى يكون مهيمنًا على نفسه مذكرًا لقلبه، فتكبر الآخرة في عينه، وتصغر الدنيا في نفسه، وهكذا كان عثمان رضي الله عنه الذي كان من أعظم الأثرياء في الإسلام، قد غلبت قوة إيمانه شهوته وهواه، فكان من أعظم الزاهدين، وضرب من نفسه مثلاً لجميع الأغنياء بإمكان الجمع بين الغني والزهد في الدنيا.
عن عمران بن عبد الله بن طلحة، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه خرج لصلاة الغداة، فدخل من الباب الذي كان يدخل منه، فزحمه الباب فقال: انظروا. فنظروا فإذا رجل معه خنجر أو سيف فقال له عثمان رضي الله عنه: ما هذا؟ قال: أردت أن أقتلك. قال: سبحان الله ويحك! علام تقتلني؟ قال: ظلمني عاملك باليمن. قال: أفلا رفعت مظلمتك إليّ، فإن لم أنصفك -أو أعديك- على عاملي أردت ذلك مني؟ فقال لمن حوله: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، عدو أمكنك الله منه. فقال: عبد همَّ بذنب فكفه الله عني، ائتني بمن يكفل بك، لا تدخل المدينة ما وليت أمر المسلمين. فأتاه برجل من قومه، فكفل به، فخلى عنه.
وقد كانت هذه الخلال في عثمان دعائم محبة له في قلوب المسلمين، وقد اتفقت كلمة أهل الأخبار على أن عثمان رضي الله عنه قضى أكثر عهده وهو أحب إلى الناس من عمر، بشدة عمر، ولين عثمان ولإقبال الدنيا على الناس في زمان عثمان وامتلاء أيديهم من الغنائم، روي عن الشعبي أنه قال: لم يمت عمر بن الخطاب حتى مَلّته قريش، وقد كان حصرهم بالمدينة، وقال: أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد، فإن جاء الرجل منهم ليستأذن في الغزو قال له: قد كان لك في غزوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبلغك، وخير لك من غزوك اليوم ألاَّ ترى الدنيا ولا تراك. وكان يفعل هذا بالمهاجرين من قريش ولم يكن يفعله بغيرهم من أهل مكة، فلما وَلِي عثمان خلَّى عنهم، فانتشروا في البلاد وانقطع الناس إليهم، وكان أحب إليهم من عمر.
ومن عجيب الأمر وغامض الحكمة أن هذه الصفات التي كانت دعائم محبة لعثمان في قلوب الناس هي نفسها التي كانت نوافذ الأحداث الكارثة والعظائم القاصمة، فوداعة عثمان ولينه وتعطفه ورأفته وحلمه جاءت بعد بطش عمر وشدته، فعمر بن الخطاب يخفق رأس سعد بن أبي وقاص بطل القادسية، وأحد أعضاء مجلس الشورى المرشحين لمنصب الخلافة؛ لأن سعدًا زاحم الناس وتخطى إلى عمر، فأراد عمر أن يريد أن سلطان الله لا يهاب أحدًا، ولكن عثمان وحلمه أطمعا جهجاهًا الغفاري في أن يأخذ من يد عثمان وهو على المنبر عصا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب عليها، فيكسرها، وحلم عثمان رضي لعبد الرحمن بن عوف أن يرد هبته وهو خليفة المسلمين بغير إذنه، ذكر الطبري أن إبلاً من إبل الصدقة قدم بها على عثمان فوهبها بعض ولد الحكم بن أبي العاص، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فأخذها وقسمها بين الناس وعثمان في داره.
* بحث منشور على موقع قصة الإسلام
أبو الهيثم محمد درويش
دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.
- التصنيف: