أدب الحوار

منذ 2020-11-25

يقول الإمام الشافعى رحمه الله( ما ناظرت أحدا إلا رجوت أن يظهر الله الحق على لسانه)

الحمد لله رب العالمين ، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا . أمابعد : فإن الإسلام دين يقوم على الإقناع ، ويأبى الإكراه على الإعتقاد ( { لا إكراه فى الدين} ) ( { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } ) وينادى بالحوار القائم على أسس سليمة ، المراعى للآداب السامية فى الحوار .

ولقد حفلت نصوص السنة المطهرة والسيرة العطرة بمواقف سامية غدت أسسا لكل حوار بناء يقوم على احترام الطرف الآخر ويبغى الوصول إلى الحقيقة دون زيف أوتضليل .

فمن هذه الآداب العظيمة : الإخلاص والتجرد لطلب الحق فالمسلم الحق هو الذى يتجرد لطلب الحق ، ولا عليه أن يظفر أو أن يظفر غيره ، المهم هو أن يصلا معا إلى الحق ، يقول الإمام الشافعى رحمه الله( ما ناظرت أحدا إلا رجوت أن يظهر الله الحق على لسانه) فليس الغرض من الحوار أن يعلو ذكرك ، أو أن يثنى الناس عليك ، إنما ينبغى أن يكون الهدف من الحوار هو ظهور الحق ، سواء كان الحق فى قولى أو فيما ذهب إليه الطرف الآخر .

ولقد حفظ لنا التاريخ نموذجا عاليا لأدب الحوار يبدوا التجرد لطلب الحق واضحا فيه ، هذا النموذج هو المناظرة التى جرت بين الإمامين العظيمين الإمام الشافعى وإسحاق بن راهويه فى مسألة طهارة جلود الميتة حيث كان الإمام الشافعى يرى طهارة جلد الميتة إذا دبغ ،وكان إسحاق يرى عدم طهارته ، وكان الإمام أحمد بن حنبل حاضرا فقال الإمام الشافعى دباغها طهورها .

قال إسحاق : ماالدليل ؟ قال الشافعى : حديث ميمونة أن النبى ﷺمر بشاة ميتة فقال : هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به ؟ فقال إسحاق : وما تقول فى حديث ابن عكيم : أتانا كتاب رسول الله قبل موته بشهر (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولاعصب ) وهذا الحديث يشبه أن يكون ناسخا للحديث الأول لتأخره .

فقال الشافعى : هذا كتاب وأما حديثى فسماع . يقصد أن السماع أقوى من الكتاب .

فقال إسحاق : إن النبى ﷺ كتب إلى كسرى وقيصر كتبا وكانت حجة عليهم .

فسكت الإمام الشافعى رحمه الله .

الغريب فى الأمر أن الإمام أحمد أخذ برأى إسحاق والأمر الأشد غرابة أن إسحاق أخذ برأى الشافعى مع أن الذى يبدوا من المناظرة أن إسحاق قد ظهر قوة مذهبه ، لكنه التجرد فى طلب الحق كما قلت لك .

ومن آداب الحوار سماع حجة الطرف الآخر وعدم مقاطعته : وهذا يبدوا واضحا فى سماع النبى من عتبة بن ربيعة لماقال له : يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة ، والمكان في النسب ، وإنك أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها ‏‏, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ قل يا أبا الوليد ، أسمعْ ؛ قال ‏‏:‏‏ يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رَئيِّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه , ورسول الله جالس يسمع ، حتى إذا فرغ عتبة قال له رسول اللهﷺ: أفرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم قال رسول اللهﷺ: فاسمع منى فتلا عليه رسول الله آيات من سورة فصلت حتى بلغ فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فوضع عتبة يده على فم رسول الله ﷺوناشده الرحم أن يكف .

فنرى هنا أن رسول الله ظل ينصت إلى كلام عتبة على رغم مافيه من خطأ ، لكن النبى صلى الله عليه وسلم أعطاه حقه فى أن يتكلم ويعرض رأيه فى وضوح ولم يقاطعه وهذا هو الواجب فى الحوار أن يستمع كل طرف إلى الآخر باهتمام ، ويترك له المجال متسعا للإدلاء برأيه والإفصاح عن حجته . ومن أدب الحوار أن تنزل الطرف الآخر منزلته وتعطيه قدره ، فتناديه بلقبه العلمى إن كان يحمل لقبا علميا ، أوتكنيه بكنيته إن لم يكن ممن يعرف بلقب علمى ،كما رأينا من تكنية الرسول ﷺلعتبة بأبى الوليد وكما وقع من الإمام الشافعى فى مناظرة أخرى لإسحاق فى كراء بيوت مكة حيث استدل الإمام الشافعى على جواز كرائها بأدلة من الكتاب والسنة وفعل الخلفاء الراشدين ، ورد إسحاق بأقوال للتابعين كمجاهد وعطاء ، فقال له الشافعى : أنت إسحاق الذى يقولون عنه إنه إمام أهل خراسان ؟ قال إسحاق : هكذا يقولون . فقال الشافعى : ما أحوجنى إلى أن يكون غيرك مكانك فكنت آمر بعرك أذنيه ، أقول لك :قال رسول الله ﷺوتقول قال عطاء ومجاهد وطاوس وهل لأحد مع رسول الله حجة ؟ فهنا نرى الإمام الشافعى مع تخطئته للإمام إسحاق إلا أنه لم يسئ إليه ، وضرب المثل بغيره ، فلم يقل له : ما أحوجنى إلى عرك أذنك إنما ساق الكلام كأنه يتحدث عن غائب فصحح الخطأ ولام على مجانبة الصواب دون أن يجرح وحفظ للمحاور مكانته .

ومن آداب الحوار: الإتفاق على موضوع محدد للحوار حتى لايتشتت الحديث فى وجهات شتى ولايصل المتحاوران إلى رأى محدد فى قضية واحدة . فلما خرج الخوارج واعتزلوا ، طلب ابن عباس من على رضى الله عنه أن يذهب لمناظرتهم ، فلما ذهب إليهم اتفق معهم على أن تكون المناظرة فى النقاط المحددة التى ينقمونها على على رضى الله عنه وأخذ عليهم العهد إن أجابهم عنها أن يرجعوا عن خروجهم على على ، فلما أجابهم رجع منهم ثمانية آلاف . فلولم يحدد ابن عباس النقاط التى سيتم الحوار فيها ، ربما أدى ذلك إلى تشتت الحوار ودخوله فى مواضيع شتى دون الوصول إلى حل للأمر الذى ذهب ابن عباس من أجله .

ومن آداب الحوار: الإتفاق على مرجع يفصل عند الإختلاف .

فقد تطول المناظرة ولايسلم أحدالفريقين للآخر ، ولو لم يكن هناك شخص أوهيئة تفصل أوتحكم لأحد الفريقين لربما لاتصل سفية الحوار إلى شاطى لترسوا عليه . ومن الآداب تحرير الألفاظ وتحديد المعنى المراد بكل لفظ ، والبعد عن الألفاظ الموهمة . فلا بد من تحديد الألفاظ وعدم استعمال الألفاظ التى تحتمل معان كثيرة ، ولا يجوز استعمال الألفاظ الموهمة التى تحتمل معان كثيرة دون تحديد المعنى المراد منها . وسأذكر فى هذا موقفا أشبه بالطرفة ، وقد وقع ونقله من حضره . يذكرون أن شابا خطب فتاة ولما جاء موعد عقد الزواج قال من سيتولى العقد (القاضى ) لولى أمر الفتاة : ابنتك بكر ؟ فقال الرجل : لا ولقد كانت البنت بكرا لم تتزوج قبل ذلك فوقعت الكلمة على أهل المجلس كالصاعقة ، لولا أن أحد الجالسين تدارك الموقف وقال للرجل : ماتعريف كلمة بكر عندك ؟ قال بكر يعنى أول الأولاد . فقال القاضى نحن نسألك الآن هل هى بكر أم ثيب ؟ ولا نسألك عن كونها أول الأولاد أم لا ؟ قال الرجل : هى بكر بكر. فلو لم ينطق الرجل ويطالب بتحديد المعنى المقصود من اللفظ الموهم لربما أدى ذلك إلى فساد عظيم وشر مستطير ،لهذا يجب تحرير الألفاظ والبعد عن الألفاظ الموهمة لكى لايقع سوء فهم من أحد المتحاورين للآخر.

هذه رؤوس أقلام نبهنا بها على ماوراءها وكما قالوا حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق . والله من وراء القصد
كتبه
المعتز بالله الكامل