الهجرة غير الشرعية والحفاظ على الأنفس

منذ 2020-11-26

فإنَّ الله عزوجل قد أجرى هذا الكون على سننٍ كونيَّة لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، ولا تعطي مسلمًا لمجرَّد إسلامه، وتمنع كافرًا لكفره، بل هي لا تُحابى أحدًا.

عناصر الخطبة:

1- الإسلام يدعوا إلى العمل.

2- الضرب في الأرض سبيل لطلب الرزق.

3- حفظ النفس أحد الضرورات الخمس.

4- الإلقاء بالنفس إلى التهلكة والتغرير بالنفس من الكبائر.

 

الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله ربه بين يدي السَّاعة هاديًا ومبشرًا ونذيرا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد:

فإنَّ الله عزوجل قد أجرى هذا الكون على سننٍ كونيَّة لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، ولا تعطي مسلمًا لمجرَّد إسلامه، وتمنع كافرًا لكفره، بل هي لا تُحابى أحدًا.

 

ومن هذه السنن أنَّ رزق الله لا ينالُ إلا بالعمل، فمن عمل أُعطى ومن تكاسل مُنع، هذه بتلك، ولا يظلم ربُّك أحدًا.

 

وقد بيَّن الله عزَّوجل لأبى الأنبياء (آدم عليه السَّلام) أنَّ الراحة المطلقة لا تكون إلاَّ في الجنَّة، وأنَّه إن أُخرج من الجنَّة فإنَّه سيصيبه الشقاء والتَّعب {فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 117 - 119].

 

فالرَّاحة الحقيقية لا تكون إلا في الجنَّة، فأما الدنيا فلابُد فيها من التَّعب والتقلُّب لطلب الرزق.

 

وقد خلق الله عباده للعمل، فلا مكان في دين الله للبطالة، وليس الكسل دينًا، وما الكسل إلاَّ رذيلة خُلُقيَّة واجتماعيَّة تتأخَّر بها الأمم وتضيع بها قيمة الأفراد والمجتمعات.

 

لقد كان أشرف الخلق يعملون، فهؤلاء أنبياء الله ورسله، وهم صفوة الله من خلقه، وأحبُّ خلقه إليه، كانوا يعملون، فكان آدم عليه السلام فلاَّحا يحرث الأرض ويزرعها بنفسه، وهو الذي خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته، ونوحٌ عليه السَّلام كان نجَّارًا، وإبراهيم عليه السلام كان بنَّاءً، وإدريس عليه السَّلام كان خيَّاطًا، وإلياس عليه السَّلام كان نسَّاجًا، وداود عليه السَّلام كان حدَّادًا، ومحمد صلى الله عليه وسلم وموسى عليه السَّلام كانا يرعيان الغنم.

 

وليس في الإسلام عملٌ حقير، إنما يشرف العمل بإتقانه، والتَّفاني في تجويده، ويصير حقيرًا بخلوِّه من الإتقان والإحسان قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله يُحبُّ إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه» رواه البيهقي في "الشعب" وهو حديث صحيح.

 

فلم يحدِّد النبي عملًا يُحب الله من عبده أن يُتقنه، إنَّما جاء العمل نكرة في سياق الإثبات فأفادت الإطلاق، فأيُّ عمل مادام حلالًا فإنَّ الله يُحب ُّ من عبده أن يُتقنه.

 

ولقد جعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الكسب النَّاتج عن عمل اليد أشرف العمل فقال حين سأله بعض أصحابه: أيُّ الكسب أطيب؟ قال: «عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور» أخرجه الطبراني وصححه الألباني.

 

بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الطعام ما يأكله الإنسان نتيجة عمل يده فقال صلى الله عليه وسلم : «ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإنَّ نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» (رواه البخاري).

 

إنَّ الأمم العظيمة إنما تتقدَّم بالعمل وتزدهر بإتقانه، وتعلوا قيمتها بين الأمم بسواعد أبنائها، وإنما تتخلف الأمم بتكاسل أبنائها وخلودهم إلى الراحة والدعة.

 

ولقد أباح الإسلام لأبنائه أن يضربوا في الأرض سعيًا وراء لقمة العيش، وبحثًا عن الكسب الشريف، قال تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ»  [الملك: 15].

 

بل أجاز العلماء السفر لطلب الرزق وإن كرهه الوالدان ولم يأذنا فيه، قال الإمام النَّووي رحمه الله في "المجموع": (إذا أراد الولد الَّسفر لطلب العلم فقد جزم المصنِّف في أوَّل كتاب السِّير بأنَّه يجوز بغير إذن الأبوين، قال: وكذلك سفر التِّجارة).

 

لكن الشريعة مع حثها على العمل وترغيبها فيه جاءت بحفظ الأنفس، وجعلت ذلك من الضرورات الخمس التي اتفقت الشرائع جميعًا على المناداة بها، فلا يحلُّ للمسلم أن يعمل عملا يعرض نفسه فيه للتَّلف، أو روحه للضياع.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العلمين،  «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ»  [الشورى: 25، 26].

 

وأشهد أن لا إلٰه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرا.

 

أمَّا بعد:

فلقد أباح الإسلام الضرب في الأرض سعيًا وراء لقمة العيش، وطلبًا للرزق الحلال، شريطة ألاَّ يعرِّض المرؤ نفسه للتًّلف، قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}  [البقرة: 195].

 

وقال عزَّ وجلَّ:  {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29].

 

فإذا كانت هجرة المرء من وطنه لطلب الرزق ستؤدى إلى فقد حياته يقينًا أو غلب ذلك على ظنه ظنًا غالبًا فلا يجوز حينئذٍ للمسلم أن يُقدم على ذلك، إذ أنَّ طلب الرزق مباح، والإقدام على ما فيه تلف النَّفس من الكبائر، بل هو أكبر الكبائر بعد الشرك بالله عز وجل.

 

إنَّ ما يقدم عليه بعض الشباب من الهجرة غير الشرعيَّة بطرقٍ غير مشروعة، وبوسائل محفوفةٍ بالأخطار لهو قتل للنَّفس وإزهاقٌ للروح، والإنسان بنيان الربِّ لا يحلُّ له أن يقدم على إتلاف هذا البنيان، ولا يجوز له أن يتعلل بأنها نفسه يملكها ويتصرَّف فيها كيف يشاء، فهي ليست ملكه على الحقيقة وإنَّما هي ملك لله، خوَّل له التصرُّف فيها وِفق ما أذِن الله به، فلا يحلُّ له أن يتصرَّف فيها إلاَّ في حدود ما أذِن الله به، ويوم أن يُقدم على مثل هذا العمل المحفوف بالأخطار الذى يغلب على الظنِّ تلَف النفس فيه فتذهب نفسه يلقى ربَّه وهو عليه غاضب.

 

يا معشر الشباب المسلم:

أنتم ملك لله، وأنفسكم هبة الله إليكم جعلها أمانةً عندكم، فحافظوا عليها ولا تعرِّضوها لما يزهقها فإن الله عزوجل يقول فيمن هذا حاله: ( بادرني عبدى بنفسه حرَّمت عليه الجنة ) رواه البخاري.

 

أسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم الرزق الحلال، وأن يجعلنا وإياكم معظِّمين لأمره، منتهين عما نهى الله عنه، وأستغفر الله لي ولكم ..

___________________________________

الكاتب: المعتز بالله الكامل