مكافحة الفساد في السُّنة وهدي الخلفاء الراشدين

منذ 2020-12-17

قال عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه: (مَن استعملَ رَجُلًا لمودَّةٍ، أو لقرابةٍ، لا يستعملُهُ إلا لذلك؛ فقد خان اللهَ ورسولَه والمؤمنين) رواه ابنُ أبي الدنيا.

الحمد لله الذي بيَّن لعباده ما فيه صلاحُ دينهِم ودُنياهم، وحذَّرهم مما فيه فسادُ أحوالهم وأموالهم، والصلاة والسلام على مَن وضَّحَ لأُمَّته طريق الخير ليسلُكوه، ونهاهم عن طريق الشرِّ والفسادِ ليحذروه، وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بهديه واقتفوا أثره وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

 

أما بعد: فاتقوا الله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}  [الأعراف 56].

 

 

عباد الله: لقد نهى الله جل وعلا في كتابه العزيز عن الفساد والإفساد، ووضَّح وسائل العلاج، وبيَّن منهج الصلاح والسداد، قال سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَاد} [البقرة 205]، وقال جلَّ ذِكره: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116]، إلى غير ذلك من الآيات التي تنبِّه على خطورة الفساد والإفساد في الأرض، والعواقِب الوخيمة لأهله إن لم يَتناهوا عنه، ويأخذوا على يدِ الْمُفسدِ لتسلَمَ سفينةُ المجتمع من الغرق، وقد جاء في السُّنة النبوية بيانٌ لهذا الخطرِ، وتحذيرٌ منه؛ فجاءت التوجيهات النبوية للتحذير أولًا، ثم العلاج ثانيًا، (قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: «ما ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلا في غَنَمٍ بأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ على الْمَالِ والشَّرَفِ لِدِينِهِ»  (رواه الترمذي) وقال: (حسَنٌ صحيح)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (بيَّن صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أنَّ حِرصَ المرءِ على المالِ والشَّرَفِ والرئاسة يُفسِد الدِّينَ مثلَ أو أبلغَ من إفسادِ الذئبينِ الجائعينِ إذا أُرسِلا في زريبةِ غَنَمٍ) انتهى.

 

الفَسَادُ في اللغةِ: قال الراغب الأصفهاني: (الفسادُ خُروج الشيءِ عن الاعتدالِ قليلًا كان الخروج عنه أو كثيرًا، ويُضادُّه الصلاح، ويُستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الاستقامةِ) انتهى.

 

والمعنى الاصطلاحي للفسادِ: يَدُورُ على ما ذُكرَ في المعنى اللغوي من أنه ضدّ الصَّلاح، وأنه خُروج الشيء عمَّا كان عليه مِن الاعتدالِ والسلامةِ، والفساد والإفساد كما هو مُنكرٌ فطرةً فهو مُنكرٌ شرعًا، ومُحذَّرٌ منه في جميع الشرائع.

 

 

أيها المسلمون: لقد بيَّنت السُّنة النبوية الأسباب المؤدية إلى الفساد المالي والإداري لتُجتنب، وبيَّنت أسبابَهُ، وسُبُلَ علاجه، ومما لا شكَّ فيه أنَّ العلاج النبوي للفساد وغيره أهم وسائل العلاج بعد العلاج بكتاب الله جل وعلا، ومعرفة بعض وسائل العلاج مما يُسهِّلُ على مَن وَقَعَ في الفساد الرجوع عنه.

 

 

عباد الله: لقد وجَّهت السُّنة النبوية وهدي الخلفاء الراشدين إلى الوقايةِ من الفساد الإداري والمالي، عبر التوجيهات التالية:

 

أولًا: اعتبارُ الكَفَاءة في الاختيار: قال عمر رضي الله عنه: (إني لأتَحرَّج أنْ أستعملَ الرَّجُلَ وأنا أجدُ أقوى منه) انتهى، ولَما عَزَل شُرحبيل بن حَسَنة وعيَّن بدلًا منه معاوية، قال له شُرحبيل: (أَعَن سُخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، إني لكما أُحب، ولكني أريد رجلًا أقوى من رجل) انتهى، وقال عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه: (مَن استعملَ رَجُلًا لمودَّةٍ، أو لقرابةٍ، لا يستعملُهُ إلا لذلك؛ فقد خان اللهَ ورسولَه والمؤمنين) رواه ابنُ أبي الدنيا.

 

 

ثانيًا: التحذير من كسب المال مِن غير حلِّه، «ذكَرَ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ»؟ (رواه مسلم)، ولَمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وكانوا بوادي القُرى، قُتل له غلامٌ يُقال له مِدْعَم، (قَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الجَنَّةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلاَّ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا» فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ النَّاسُ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ، أَوْ: شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ» (رواه البخاري ومسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: «فَرُدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمَخِيطَ، فَإِنَّ الْغُلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَارًا وَنَارًا وَشَنَارًا» رواه الإمام أحمد وحسَّنه مُحقِّقو المسند.

 

فالمحافظة على المال العام من أوجب الواجبات وأعظم الطاعات، وخيانة ذلك من الفساد في الأرض، ومحاربة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وخيانة لولاة الأمور، وصاحبُه مُتوعَّدٌ بدخول النار، والعياذ بالله.

 

 

ثالثًا: التحذير من الرّشوة، وقد تحدثنا قبل ثلاث سنوات عن الرِّشوة وعظمِ جُرْمِها.

 

 

رابعًا: منع المسؤول من التجارة، لأن الناس سيُحابُونه لأجل مكانته، ولَما ظهر الثراء على الحارث بن كعب، وقد كان مسؤولًا في زمن خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سأله عمر عن سبب ثرائه: فقال: خرجت بنفقة معي فاتجرتُ بها، فقال عمر: أمَا والله ما بعثناكم لتتجروا، وأخذ منه ما حصل عليه من رِبح، وقد كان رضي الله عنه يُحصي ثروات وُلاتهِ قبل تعيينهم، خشية من استغلال المنصب الذي يشغله الوالي، فاعتاد عمر رضي الله عنه أن يُلزمهم عند توليتهم بتقديم تصريح بممتلكاتهم، فإذا زادُوا عليها من الكسب أخذ منهم شطر الزائد أو كلَّه.

 

 

خامسًا: إنشاء ديوان للمراقبة والتفتيش، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول مَن أنشأ نظام التفتيش في الإسلام، وقد وضع على كلِّ مسؤول عَيْنًَا لا يُفارقُه، وكان يندبُ وكيلًا منه يجمع شكايات الناس، ويتولى التحقيق فيها بنفسه، وكان يجتمع بالولاة والعُمال كلَّ عامٍ في موسم الحج، وعزم قبل استشهاده أن يذهب لكلِّ إقليمٍ ويمكث عند الناس شهرين، لكي يستطيع أهل كل إقليم الوصول إلى الخليفة رضي الله عنه، وقد أنشأت حكومتنا وفقها الله هيئة باسم: هيئة الرَّقابة ومكافحة الفساد، للعمل على حماية النزاهة ومكافحة الفساد.

 

رزقني الله وإياكم النَّزاهةَ وأداء الأمانة، وحفظ المال العام على الوجه الذي يُرضيه عنَّا.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.

 

أما بعد: فإن من أعظم ما يُكافَح به الفساد: أنْ يُربِّي الفرد نفسه على الرَّقابة الذاتية، وإذا صَلُحَ الفردُ صَلُح المجتمع، وإذا سَعَى كلُّ فردٍ لإصلاح نفْسِهِ صَلُح المجتمع، فالرقابة الذاتية تحمل على محاربة الفساد بقناعة دون الحاجة إلى زواجر وروادع، وتشكل المجتمع على الطُّهْرِ والنَّقاءِ والنزاهةِ، وإن إبراز السبل والوسائل لعلاج ظاهرة الفساد مِن أهم ما يُعين من تولَّى شيئًا من أمور المسلمين على أن يتقي الله سبحانه وتعالى، وأن يحرص على البعد عن الفساد بجميع أنواعه؛ لتعمَّ البركة في المجتمعات الإسلامية، ومن هذه السُّبُل والوسائل:

 

أولًا: استشعارُ مراقبة الله عز وجل: سُئل صلى الله عليه وسلم: (ما الإحسان؟ قالَ: «أنْ تَخْشَى اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فإنكَ إنْ لا تَكُنْ تَرَاهُ فإنهُ يَرَاكَ» (رواه مسلم)، وهذا من أعظم الضمانات لمكافحة الفساد في أي مجتمع من المجتمعات، إذ هو رقابة ذاتية تبعث الشخص على عدم الإقدام على الفساد، خوفًا من الله ورهبةً منه، وطمعًا فيما عنده.

 

 

ثانيًا: تنمية الأخلاق، وتعزيز جوانبها بالأبعاد الشرعية: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» رواه أحمد وصحَّحه مُحقِّقو المسند، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ» رواه الترمذي وقال: (حسن صحيح)، فعلى المسلم بالتخلُّقِ بالأخلاقِ المانعةِ للفسادِ والإفساد.

 

 

ثالثًا: الإرشاد والتوجيه: وذلك بالتوعية بالأحكام الشرعية للتصرفات الإفسادية: ببيان وقاية الشرع للمال العام، وإبراز العقوبة الأخروية التي رتبها الشرع على هذه التصرفات: ومن أبرزها: قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ، أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ» رواه مسلم، وقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم خيانة الأمانة من خصال المنافقين، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» متفق عليه، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا، فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (رواه مسلم).

 

 

رابعًا: الاحتساب على المفسدين: قال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» (رواه مسلم)، فعلى كُلِّ مسلمٍ أن يُبلِّغ عن جرائم الفساد ومُرتكبيها.

 

 

خامسًا: إحالة مَن وقع في الفساد إلى القضاء، وهذا من علاج الفساد بعد وقوعه، لكي ينتهي ويرتدع غيرُه.

_______________________

المؤلف: الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري