عفو أهل العلم عمَّن ظلمهم وآذاهم

منذ 2020-12-27

قال الإمام الشافعي رحمه الله: لما عفوتُ ولم أحقد على أحدٍ *** أرحتُ نفسي من غمِّ العدوات

 

 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فالله جل جلاله من أسمائه الحسنى "العفوُّ" قال عز وجل: ﴿  {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}  ﴾ [الحج: 4] وقال سبحانه وتعالى: ﴿ { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } ﴾ [النساء: 43] وقال عز وجل: ﴿  {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}  ﴾ [النساء: 99].

قال العلامة ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (النونية):

وهُو العفُوُّ فعفوُهُ وسع الورى *** لولاهُ غار الأرض بالسكانِ

 قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: "العفوّ" من أسماء الله تعالى.. والعفُوُّ هو المتجاوز عن سيئات عباده مع القدرة على الانتقام منهم، ولهذا جمع بينهما في قوله: { { إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } } [النساء:149] والعفو مع القدرة هو الذي يُمدحُ، أما العفو مع العجز فهو نقص.. إذن العفو هو التجاوز عن سيئات العباد، كما قال تعالى: ﴿  {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}  ﴾ [الشورى:25].

فالله عز وجل لم يزل ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفاً، ولولا عفوه ما ترك على ظهرها من دابة، قال العلامة السعدي رحمه الله: والتقصير الواقع من الخلق يقتضي العقوبات المتنوعة، ولكن عفو الله ومغفرته تدفع هذه الموجبات والعقوبات، فلو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعفو ولا يعاقب، سُئلت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ــــ(79)

فقالت: « لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح» . [أخرجه الترمذي وغيره].

والعفو من مكارم الأخلاق، ومن معالي الآداب، من رزقه فقد رزق خيراً كثيراً، وهو سبب لعلو المنزلة، ورفعة الدرجة، فعن الحسن رحمه الله قال: كانوا يقولون: أفضل أخلاق المؤمنين العفو.

ومن عفي عن ظالمه، فليبشر بالأجر الكبير والثواب العظيم من الله الكريم، قال الله سبحانه وتعالى:﴿  {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}  ﴾ [سورة الشورى/40]

ومن عفي عن غيره، زاده الله بذلك عزاً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله رجلاً بعفو إلا عزاً وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» [أخرجه مسلم]

ومن عفي عن غيره ارتاح وطابت نفسه، قال الإمام الشافعي رحمه الله:

لما عفوتُ ولم أحقد على أحدٍ *** أرحتُ نفسي من غمِّ العدوات

 ومن عفى عن غيره تعرض لأسباب عفو الله عنه، فهو جل جلاله عفو يُحبُّ من يعفو عن عباده، فمن رام عفو الله عز وجل عنه، فليعفو عن ظالمه، قال العلامة السعدي رحمه الله: ومن أخصِّ أسباب العفو والمغفرة: أن الله يُجازي عبده بما يفعله العبد مع عباد الله، فمن عفي عنهم عفي الله عنه، ومن غفر لهم إساءتهم إليه وتغاضي عن هفواتهم نحوه غفر الله له، ومن سامحهم سامحه الله.

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وهو عز وجل يحبُّ العفو، وقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة أن تقول حين سألته ماذا تقول إن وافقت ليلة القدر؟ أن تقول: (اللهم إنك عفو تُحبُّ العفو فاعف عني )...فهو يُحبُّ أن يعفو عن عبده، ويحبُّ من العبد أن يعفو عن إخوانه، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[التغابن:14]

ومن صفات أهل الجنة العفو عن الناس، قال الله سبحانه وتعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:133-134] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم فلا يبقي في أنفسهم موجدة على أحد وهذا أكمل الأحوال ولهذا قال {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } فهذا من مقامات الإحسان

ولقد ضرب أهل العلم أروع الأمثلة، في العفو عن ظالميهم، ابتغاء الأجر والثواب من الله الكريم، ومن أبرز العلماء الذين عفوا عمن ظلمهم:

الإمام مالك بن أنس رحمه الله:

ضربه أحد خلفاء الدولة العباسية فعفى عنه، وقال: والله ما ارتفع منها سوط على جسمي إلا وأنا أجعله في حلٍ من ذلك لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم

الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:

قال محمد بن عبدالله الخرقي رحمه الله: بتُّ ليلة مع أحمد بن حنبل، فلم أره ينام إلا يبكي إلى أن أصبح، فقلت: يا أبا عبدالله، كثر بكاؤك الليلة فما السبب؟ فقال لي: ذكرت ضرب المعتصم إياي، ومرَّ بي في الدرس {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه} [سورة الشورى/40] فسجدت وأحللته من ضربي في السجود، وقال: كل من ذكرني ففي حل إلا مبتدعاً، وجاءه رجل فقال له: يا أبا عبدالله أنا كنتُ ممن حضر ضربك يوم الدار، وقد أتيتك فإن أحببت القصاص فأنا بين يديك، وإن رأيت أن تحلني فعلت، فقال: على أن لا تعود لمثل ذلك، قال: نعم،قال: قد جعلتك في حلّ.

قال أبو الفضل صالح: قال لي أبي: مررت بهذه الآية ﴿  {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}  ﴾ [الشورى:40] فنظرت في تفسيرها، فإذا هو ما حدثني به هاشم بن القاسم، حدثني المبارك، حدثني من سمع الحسن، يقول: إذا جثت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة، ونودوا: ليقم من أجره على الله عز وجل، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا، قال أبي: فجعلت الميت في حلٍّ من ضربه إياي، ثم جعل يقول: وما على رجل ألا يعذب الله تعالى بسببه أحداً.

 الإمام أبو جعفر الطبري رحمه الله:

قال أبو بكر بن كامل صاحب أبي جعفر الطبري رحمهما الله: حضرت أبا جعفر حين الوفاة، فسألته أن يجعل كل من عاداه في حلّ... فقال: كل من عاداني، وتكلم عني في حلّ، إلا رجلاً رماني ببدعة.

الحافظ عبدالله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني رحمه الله:

قال: كل من بيني وبينه شيء، فهو حل، إلا من رماني ببغض علي رضي الله عنه.

الإمام إبراهيم عبدالواحد المقدسي رحمه الله:

خرج مرة إلى قوم من الفساق فكسر ما معهم فضربوه ونالوا منه حتى غشي عليه فأراد الوالي ضرب الذين نالوا منه، فقال: إن تابوا ولزموا الصلاة فلا تؤذهم وهو في حلّ من قِبلي، فتابوا ورجعوا عما كانوا عليه.

الشيخ عبدالإله بن عمر بن أبي بكر المقدسي رحمه الله:

أنكر منكراً فضربهُ الذي أنكر عليه، وكسر ثنيته، ثم أنه مُكّن منه، فلم يقتص منه. 

شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة، عالم قلَّ أن يوجد مثله، له صفات وسجايا كثيرة، كُتبت فيها المؤلفات، منها: عفوه عن ظالمه، فقد سجن بسبب خصومه الذين نابذهم ما عليه في الاعتقاد والسلوك، فلما قدر عليهم عفا عنهم، قال القاضي ابن مخلوف المالكي: " ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نبق ممكنا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا"

وكان رحمه الله يقول: أنا أحللت كل من آذاني، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه.

قال تلميذه العلامة ابن القيم رحمه الله: جئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني، وتنكر لي، واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله، فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا الكلام، فسرُّوا به، ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه.

قال العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله: من نظر في سير المصلحين وما أُلف من كتب مفردة في إذايتهم مثل كتاب " المحن " لأبي العرب وغيره لم ير عالماً لحقنه من صنوف الأذايا من سجن وغيره مثل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى...وكان سجنه سبع مرات، أربع بمصر بالقاهرة والاسكندرية، وثلاث مرات بدمشق، وجميعها نحو خمس سنين، وجميعها كذلك باستعداء السلطة عليه من خصومه.

إلى أن قال: السجنة الثانية: كان مما جرى فيها أن أخاه الشرف، ابتهل ودعا الله عليهم... فمنعه الشيخ وقال له: بل قل: اللهم هب لهم نوراً يهتدون به إلى الحق.

فلله ما أعظمه من أدب جم، وما أعظمه من خلق رفيع، وهضم للنفس، وبحث عن الحق، وإن هذه - وأيم الله – فائدة تساوي رحلة، وأين هذه من حالنا إذا نيل من الواحد شيء غضب وسخط، وجلب أنواع الدعاء على عدوه، فاللهم اجعل لنا ولمن آذانا فيك نوراً نهتدي به إلى الحق.

الإمام المزي رحمه الله:

قال الإمام الذهبي: آذاه أبو الحسن بن العطار وما رأيته يتكلم فيه ولا فيمن آذاه.

الإمام الشوكاني رحمه الله:

آذاه بعض الناس، وسعى للتأليب عليه، لكنه لم ينجح، ثم إن هذا المؤذي أُصيب بفقر مُدقع، وفاقة شديدة، وكان يفد إلى الشوكاني يشكو حاله وما هو فيه من الجهد والبلاء، فكان الشوكاني يبذل جهده في منفعته وسدّ فاقته، يقول رحمه الله: وهكذا جماعة من... المبالغين في إنزال الضرر بي، أرجعهم الله إلى راغمين وأحوجهم لمعونتي مضطرين، فلم أعاقب أحداً منهم بما أسلفه، ولا كافيته بما قدمه.

الشيخ أبو الوفاء ثناء تسري رحمه الله:

خرج للمسجد فتعرض له شاب من القبوريين يريد قتله، فضربه بحديدة على قفا رأسه، فجرح الشيح جرحاً شديداً ثم شفاه الله، أما الشاب فتم القبض عليه وحُكم عليه بالسجن أربع سنوات مع الأشغال الشاقة فسجن، فلما علم الشيخ  أن عائلته ليس لهم من ينفق عليهم بعده عيّن لهم راتباً شهرياً طوال بقاء مدة بقاءه في السجن فلما خرج من السجن جاء للشيخ وشكره واختار التمسك بالكتاب والسنة.

الشيخ عبدالرحمن الأفريقي رحمه الله:

قام أحد أعدائه بشجِّ رأس ابن له، وقُبض عليه وسُجن، وكان فقيراً، فشفع فيه الشيخ فلم تُقبل شفاعته، فأنفق الشيخ على عائلته حتى خرج من السجن، فلما عرف ذلك ثاب إلى نفسه، وعاد إلى الحق.

الشيخ عبدالعزيز بن صالح بن مرشد رحمه الله:

وجد مجموعة من الشباب على لهو طرب وغناء، فأنكر عليهم فقابلوه بالأذى والسباب، فبلغ ذلك من له سلطة في تأديبهم، فخيّر الشيخ في أن يؤدبهم أو يعفو عنهم فرغب رحمه الله في العفو والصفح عنهم، والدعاء لهم بالصلاح.

الشيخ عبدالحميد بن باديس رحمه الله:

كان موصوفاً بالحلم والتسامح، يُروى إن إحدى الجماعات الصوفية المنحرفة، التي ضاقت ذرعاً بمواقفه، أوعزت...إلى نفر من أتباعها باغتياله..غير أن الغادر الذي همَّ بهذه الجريمة لم يفلح في تنفيذها ووقع في قبضة أعوان الشيخ.. إلا أن أخلاق الشيخ العالية جعلته يعفو وينهى أصحابه عن الفتك به.

 الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله:

وشى به بعض للناس، وطُلِب للحضور لمدينة الرياض، وذهب للرياض وبفضل من الله وكرمه تلاشت هذه الوشاية، وعاد الشيخ لبلده عنيزة، فكانت أول دعوة لباها لتناول القهوة، هي دعوة أحد الذين وشوا به.. أما بقية الذين وشوا به فأراد الناس الانتقام منهم، ولم يوقف هذا عنهم إلا الشيخ، الذي صار يبدي لهم الأعذار، ويصفهم بالمجتهدين، وأنهم لم يقصدوا إلا الخير.

 الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله:

دخل عليه رجل كبير السن من الجهال، واختلف معه في أمر، فتكلم الرجل على الشيخ، ونال من عرضه، والشيخ ساكت لا يرد عليه، ثم سافر الشيخ، وتوفي الرجل، فلما عاد الشيخ أُخبر بموته، فترحم عليه، وصار يدعو له، وذهب إلى قبره، وصلى عليه ودعا له.

اللهم يا كريم ارزقنا الاقتداء بهؤلاء، واجعلنا ممن يعفو عمن ظلمه وآذاه، واجعل ذلك من أسباب عفوك عنا يا رحمن يا رحيم.

                        كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ