تجديد البعد العقلي

منذ 2020-12-27

إن العقل البشري نعمة عظمى من الله جل وعلا وله قدرات هائلة، هي أكثر مما يظن. ويمكن القول: إنه أشبه بعملاق نائم !

الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الشخصية مركّب فذ من الجسد والروح والنفس والعقل، ولها بعدٌ اجتماعي عظيم الأثر في وجودها. وإن كل نمو إيجابي في أي جانب من جوانبها ينعكس عليها جميعاً، كما أن أي خلل يصيب أي جانب منها يعود بالضرر عليها جميعاً.
يستمد الاهتمام بالبعد العقلي نوعاً من التميز من خلال أن التفكير الجيد شرط لتنمية كل شيء في الحياة: التربية والاجتماع والاقتصاد والسياسة والعلاقات...
ويعد أي تطوير لأي جانب من جوانب الشخصية بالغ الأهمية؛ حيث إن الرؤية الإسلامية تؤسس مقولة: ( الإنسان أولاً ). أضف إلى هذا أن التقدم المادي والعضوي قد يكون محدداً بأسوار تجعل المضي فيه أمراً عسيراً أو مستحيلاً، على حين أن أمداء النمو أمام البعد العقلي والروحي فسيحة جداً.


إن العقل البشري نعمة عظمى من الله جل وعلا وله قدرات هائلة، هي أكثر مما يظن. ويمكن القول: إنه أشبه بعملاق نائم ! وقد دلّت الدراسات النفسية والتربوية، وأبحاث الكيمياء والفيزياء والرياضيات أن ما تم استخدامه من إمكانات العقل لا يزيد على 1% من إمكاناته الحقيقية. الحاسب الآلي (كراي) حاسوب عملاق يزن سبعة أطنان، فإذا عمل بطاقة 400 مليون معادلة في الثانية مدة مئة عام، فإنه لن ينجز سوى ما يمكن للدماغ البشري أن ينجزه في دقيقة واحدة ] {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14].


يمكن القول: إن لـ (العقل) شكلاً ومضموناً؛ فشكله تلك القدرات والإمكانات التي زوّد الله تعالى بها أدمغتنا، مثل القدرة على خزن المعلومات واسترجاعها، ومثل القدرة على التخيل والتحليل والتركيب... وهذه متفاوتة بين الأشخاص متساوية على نطاق الأمم.
ومضمون العقل منه ما يعود إلى مجموعة المبادئ الفطرية العالمية التي لا تختلف بين شخص وآخر، مثل إدراك عدم إمكانية اجتماع الضدين، وإدراك أن الكل أكبر من الجزء، وإدراك استحالة القيام بعمل خارج دائرتي الزمان والمكان.
ومنه ما يعود إلى شيء مكتسب مرتبط بالثقافة السائدة، وهذا في الحقيقة يتشكل من مجموعة المفاهيم المترابطة والراسخة التي يحاول الناس من خلالها استيعاب الواقع الموضوعي وتنظيمه وتكييفه مع حاجاتهم... وهذا النوع من المضمون مطلّ بالضرورة على مبادئ التفكير الفطرية ومرتبط بها.
العقل من خلال شكله ومضمونه ينتج شيئاً نسميه: (العقلانية). وبما أن (الثقافة) تختلف في مبادئها وقيمها وجمالياتها ورمزياتها بين أمة وأخرى، فإن المتوقع من العقلانية أن تتسم بطابع النسبية، بسبب الدور البالغ للثقافة في تكوينها. ولذا فليس ثمة عقلانية صافية أو محايدة أو مطلقة. ولعلنا نستشف هذا من النسق القرآني؛ فهو إذا جمع بين الحكمة والتي هي مركّب من الذكاء والمعرفة والإرادة والكتاب في موطن واحد، يقدّم الكتاب أولاً، وكأنه يرمي إلى ضرورة تأطير (الحكمة) بالكتاب (الوحي) حتى تكتسب نوعاً من المرجعية، وحتى تتخلص من النسبية التي تضفيها عليها الثقافة.
إن بُنانا الفكرية ليست معصومة من رياح التغيير العاتية؛ فهي باعتبارٍ مّا انعكاس لما يجدّ من نظريات وآراء علمية واجتهادية مبثوثة في جميع مجالات الحياة؛ ولذا فإن علينا أن نمتلك أعلى درجة من اليقظة والحذر حتى نصون عقولنا من البرمجات الثقافية والبيئية التي تحول دون استيعاب الواقع على النحو الصحيح، ودون التطوير البعيد المدى الذي نحتاجه.


شروط للتجديد:
إن التجديد في أي جانب من جوانب الحياة، يتضمن دائماً نوعاً من التخلي عن بعض المألوفات، كما يرتب تكاليف جديدة، ويتطلب ضبطاً أكثر للذات، ولهذا كله كان شاقاً على النفس.
إن أول شرط من شروط التجديد: هو معرفة (الثوابت) على نحو جيد، والتفريق بينها وبين (المتغيرات) وتتجلى الثوابت في الغاية الكبرى للوجود الإنساني، وفي المبادئ والقيم العليا التي نؤمن بها، إلى جانب الأحكام القطعية الواقعة
خارج نطاق الاجتهاد. إن التجديد المستمر كبير التكلفة، ومفتاح معايشته هو أن يكون في داخل المرء (جوهر) يستعصي على التغيير، ويمثل الفلك الذي تدور فيه جميع المتغيرات، وتخدمه.
والشرط الثاني: هو امتلاك ما يكفي من الخيال والوعي للإحساس بالنهاية التي نرنو إليها.
والشرط الثالث للتجديد: أن يوقن المرء أن في إمكانه أن يغير عاداته الفكرية والنفسية والسلوكية، وذلك يتوقف على القدرة على مجاهدة الأهواء والأوهام والكسل الذهني، والإخلاد إلى المألوفات.
إن التجديد للبعد العقلي يتم بالتخلص من طرق التفكير الخاطئة، وباكتشاف الإمكانات، والآفاق التي تزيد في كفاءة تصوراتنا، وتحسّن مستوى محاكمتنا العقلية؛ ولعلي أسوق من ذلك ما يسمح به الوقت على النحو الآتي:
يدّعي معظم الناس أنهم قادرون على عزل أفكارهم عن مشاعرهم، وأن بإمكانهم أن يحملوا مشاعر تعاطفية نحو أمر ما على الرغم من كونهم يحملون أفكاراً سيئة عنه. والحقيقة أن أفكارنا ومشاعرنا، تتناوب التأثير والتأثر في معظم الوقت، وهناك توافق بينها. والنجاح المتوالي يوجِدُ حالة نفسية تظلل جميع حياة الفرد، وتجعله يعتقد أنه ناجح فعلاً. ويحدث العكس عندما تتوالى أحداث الإخفاق على الإنسان. في كلتا الحالتين تبدو الصورة التي نكونها عن أنفسنا كأنها الصورة الوحيدة الصحيحة، ونتصرف بعد ذلك على هدي من معطياتها. والحقيقة أن الأمر ليس كذلك؛ فحين يزور خمسة من الناس مكاناً لا يعرفونه من قبلُ، فالمألوف أن تكون لهم حياله وجهات نظر متعددة، وسيكون بعضها أكثر مطابقة للحقيقة من بعضها الآخر. كثير من الناجحين في وظائفهم أصيبوا بأمراض مزمنة كقرحة المعدة حرمتهم نعمة الاستمتاع بالحياة، وكثير منهم خسروا أنفسهم، بما أهملوه من شأن آخرتهم.... وبعض من أخفق في دراسته يملك إمكانية هائلة للنمو الحر والنجاح في ميدان تجاري أو وظيفي أو اجتماعي... ولذا فإن من الحيوي ألا نعتقد أن النجاح الذي حققناه في أي مجال هو الذروة التي لا ذروة بعدها؛ فالمهم ليس الصعود إلى القمة، وإنما كم يمكن البقاء عليها، وألاّ يمكن أن نكون واهمين في تصورنا للقمة، وأن تكون الحقيقة غير ذلك؟
في المقابل حالات الانكسار والهزائم التي نمر بها لا تعني نهاية العالم، بمقدار ما تعني أن علينا أن نفكر بطريقة جديدة، وأن نبحث عن مجالات جديدة.
ولذا كان من الضروري أن يسأل الواحد منا نفسه: كيف أستطيع أن أفكر في هذا الأمر بطريقة أخرى؟ وكيف يستطيع غيري أن ينظر إليه؟ وما وجهات النظر الأخرى حياله؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تشكل تمريناً عقلياً يحسن أن نجرّبه من وقت إلى آخر.
إن الذي يحول بيننا وبين رؤية الخيارات العديدة المغايرة لما نعتقده ونفضله هو ما استقر في نفوسنا من الانحياز إلى مشاعرنا ومألوفاتنا وطرق تفكيرنا، وهذا الانحياز مصدر كبير من مصادر الحرمان من التجديد، والحرمان من مشاركة غيرنا في رؤية الأشياء على نحو أكثر رحابة.

2- النظرة المتعمقة:
إن العقل الذي وهبه الله جل وعلا لنا يتمتع بقدرات هائلة كما ذكرنا لكنه يظل في النهاية محدوداً. وأكثر الأفكار التي نمتلكها هو وليد التجربة وثمرة المعاناة، أي هو خبرة حياتية متولدة من اشتباك منظومات المعارف والرموز والمبادئ إلى جانب ألاعيب الهوى وأنماط السلطة وأشكال تحقيق المصلحة والاهتمام بالذات... ولذا فيجب ألا نعتبرها دائماً نهائية، فصدق الأفكار يظل مرتهناً لما تسفر عنه نتائج إنزالها إلى الميدان العملي الذي كثيراً ما يفقدها تماسكها ويعيد إنتاجها من جديد على وجه الإثراء والتوسيع، أو على وجه الانتهاك والتأويل. وهذا يعني أن علينا ألا ننتظر الفوز برؤية نهائية، نسترشد بها في مواصلة البناء وتخطي العقبات؛ فالأعمال العقلية المتزايدة، لا تؤدي بالضرورة إلى تقدم عقلاني مطرد؛ فالنكوص والتراجع من الأمور الواردة بكثرة في هذا الميدان؛ بل إن للتقدم العقلي مفرزات جانبية شديدة الخطورة، ولا سيما إذا ما تأتى للعقل أن يتحرر من القيود والقيم الأخلاقية؛ ثم إن المسيرة الحضارية لا تمضي على هدي أفكار ومخططات يتخيلها مثقفون حالمون متفائلون بمستقبل البشرية على صعيد الفهم والعلم والحوار والرشد والنمو الصحيح، وإحقاق الحق، وتجسيد القيم النبيلة... فهناك أيضاً المصالح والأهواء والشهوات والقصور الذاتي والظروف المعاكسة... وكل ذلك يجعل من ميادين الحياة مصانع سيئة لإنتاج الأفكار وتطبيقها. وهذا يعني أن علينا حتى نستمر في التجديد العقلي أن نسعى دائماً إلى تفحّص برامجنا وقراءة أحوالنا، وإقامة علاقات نقدية مع ذواتنا وإنتاجاتنا؛ حيث النقص شيء ملازم لنا. وليس المطلوب أن تصبح المحاكمة العقلية لدينا كاملة، وإنما مداومة فضح الممارسات الفكرية الخاطئة، وكشف زغل أعمال العقل؛ فالكمال في كل شأن ليس شيئاً نستحوذ عليه، وإنما هو شيء نناهزه، ونحاول الاقتراب منه. وما لم نتعامل مع منتجاتنا الفكرية والمعرفية، ومع تجاربنا وأحداث العالم من حولنا على هذا النحو، فإن كثيراً من مكتسباتنا الفكرية والنهضوية يمكن أن يتعرض للخطر، أو يصبح موضع تساؤل.

3- التفكير المتوازن:
تجديد البعد العقلي يتطلب أن يدرب الواحد منا نفسه على التفكير المنهجي المتكامل الذي يستجيب لكل ما يطلبه النجاح في الوصول إلى نتائج جيدة، وأحكام صائبة. وإذا أراد الواحد منا أن يفكر في موضوعٍ مّا فعليه أن يفعل الآتي:
أ- أن يجهز المعلومات التي تتعلق بموضوعه. ولا بد أن يكون على وعي بنوعية المعلومات المتاحة؛ إذ إن هناك طبقتين من المعلومات: طبقة المعلومات الحيادية التي تمثل الحقائق الثابتة التي انقطع حولها النزاع، وطبقة المعلومات المعتقَدة لبعض الأشخاص، والتي هي أقرب إلى أن تكون رؤى شخصية لهم.
المعلومات الثابتة تمثل معطيات يجب احترامها خلال عملية التفكير. أما المعلومات الأخرى فتساعدنا على إضاءة القضية وتحسّن اختيارنا فيها.

ب- لدى كل واحد منا عواطف حول القضية موضع البحث، ونحن نحاول عدم الاعتراف بها، وأحياناً لا نكون على وعي بها، ومن ثَمّ فإنها تؤثر في التفكير، وتوجهه على نحو غير سويّ. المطلوب أن نُخرِج عواطفنا إيجابية كانت أم سلبية إلى منطقة الوعي، ونعترف بها، ثم نحاول إبعادها عن دائرة التفكير.

ج- لا بد أن نعطي وقتاً للتفكير الناقد الذي يركز على سلبيات القضية موضع النظر. والتفكير الناقد هو تفكير منطقي، لكنه سلبي، وهو كثيراً ما يكون مبنياً على حقائق وصادقاً، وإن كان لا يشترط أن يكون منصفاً دائماً. وعلينا أن نتذكر أن التفكير هو على مستوى مّا تفكير بنائي؛ حيث لا يستغني أي عمل جيد عن المراجعة وإعادة النظر، وفي ذلك شكل من أشكال نموّه. وهذا لا يُنسينا أيضاً أن النقد شديد الإغراء؛ حيث إنه يمنح صاحبه تفوقاً سريعاً على النظراء، ولذا فينبغي الحذر من الانزلاق إليه بحيث نبدو أننا لا نحسن غيره. ولعل خير ضمانة لذلك هو أن يظل التفكير النقدي على علاقة جدلية بتفاعلات القضايا التي نوجهه إليها.

د- في مقابل التفكير الناقد، هناك التفكير الإيجابي، وهو التفكير الذي يركز على الإيجابيات؛ ففي حالة التفكير في إقامة مشروع تجاري مثلاً يُبرز التفكير الإيجابي كلّ الأدلة والمعطيات التي تؤكد احتمالات الربح ويتم إسدال الستار على كل ما يشير إلى احتمالات الخسارة. تبرز قيمة التفكير الإيجابي حين يستطيع الكشف عن الإيجابيات الخفية للقضية. والحقيقة أن الناجحين ينتبهون دائماً إلى جوانب النفع الخفية، وبذلك يسبقون غيرهم. إن من الثابت أنه لا يُغلق باب حتى يفتح باب آخر، لكن قصورنا الثقافي والتربوي يجعلنا نُشغَل بالباب الذي أُغلق عن الباب الذي فُتح ! ومع هذا فلا بد من القول: إن الخط الفاصل بين التفكير الإيجابي والاندفاع المتفائل المتهور، هو خط ضيق، ولذا فإمكانات الخلط بينهما ستظل متوفرة دائماً.

هـ- لا بد بعد هذا أن نستخدم التفكير الإبداعي الذي يحاول أن يستخرج من معطيات ناقصة حلولاً جيدة، أو رؤى ناضجة. ولا بد من القول: إن أكثر التفكير الذي نتشبع به في بيئاتنا الثقافية مهيّأ لمعالجة المعلومات، مثل المنطق والإحصاء والرياضيات، وتنسيق المعارف... أما التفكير الإبداعي، فإنه يحاول إيجاد أشكال جديدة تضاف إلى ما لدينا من تراكيب ندرك من خلالها المحيط. التفكير المبدع يحتاج إلى الوقت؛ والعجلة هي عدوه الأول. وقد تعودنا أن نقبل أو نتشبث بالحل الذي يظهر لنا لأول وهلة؛ مع أن الثابت أننا حين نمعن التفكير فإن الأفكار الجيدة لا ترد إلى الذهن أولاً وإنما في آخر المطاف. والمطلوب هو أن نوفر الوقت لاستخراج أكبر قدر ممكن من الرؤى والحلول والاحتمالات، ثم نعكف على اختيار الأكثر مناسبة لاحتياجاتنا وإمكاناتنا.

التفكير المعوجّ:
إننا حين نمارس التفكير في أي موضوع، نستخدم في الحقيقة عدداً من العناصر البالغة التعقيد، مثل مبادئنا العقلية، وثقافتنا العامة، وعاداتنا الفكرية والنفسية، بالإضافة إلى المعلومات المتعلقة بالمسألة موضع التفكير؛ ثم إننا لا نستخدم كل ذلك في فراغ، فهناك دائماً ضغوط واعتبارات ظرفية واجتماعية، تكتنف تفكيرنا في الأمور. وبما أن كل ما ذكرناه لا يكون في العادة كاملاً ولا نقياً، فإن علينا ألا نتوقع أن يكون باستطاعتنا دائماً النجاح في الوصول إلى تصورات وأحكام راشدة. ولذا فإننا سنظل بحاجة إلى محاصرة أنماط التفكير الخاطئة على نحو ما يصنع الفلاح حين يزيل الأعشاب الضارة من أرضه قبل أن يلقي بذوره.
وفي اعتقادي أن الفائدة من تعلم طرق تفكير جديدة، ستظل محدودة ما لم نتمكن من تعرية الممارسات التفكيرية الخاطئة والتضييق عليها إلى أبعد حد ممكن. وهي في الحقيقة أشكال وألوان؛ ويمكن أن نسلط الضوء على بعضها على وجه السرعة.

1- المسلَّمات الثقافية:
نحن إذ نفكر ننطلق من مبادئ ومسلّمات ثقافية، وتلك المسلّمات، لا تؤمّن تسايل عمليات التفكير فحسب، وإنما تريح العقل من عناء البحث والتمحيص أيضاً، أي تؤمّن له نوعاً من العطالة والسكون، ومن هنا تنبع جاذبيتها وخطورتها في آن واحد. لو فتشنا في عقولنا لعثرنا على مخزون ضخم من المسلّمات المتعلقة بالناس والأفكار والأحداث. وتصنيفاتُ الأمم والشعوب بعضها لبعض نموذج حي على ذلك: فالشعب الفلاني محتال، والشعب الفلاني كسول، والشعب الفلاني ماهر.. ووسائل الإعلام في الغرب (العقلاني) تقترب من أن تصم كل مسلم بالتطرف والإرهاب؛ مهما تكن درجة التزامه. أما العرب في نظرها فهم شعوب مهووسة بالتبذير والجنس، تتخبط في الجهل، وتعشق الفوضى... وتلك الصور الذهنية، تشكل مشاعر الناس، وتوجه سلوكهم، وتنظم ردود أفعالهم.
إنسان القرن الحادي والعشرين مع أنه يتحدث باستفاضة عن العولمة، والقرية الكونية، وتلاقح الثقافات إلا أنه غير قادر على الانعتاق من كثير من المسلّمات الثقافية المتخلّفة، فهناك انجذاب شديد نحو الإقليمية والعنصرية والطائفية، أي هناك انسحاب من عالمية الرؤية والثقافة والإحساس المشترك في الوقت الذي تتسع فيه عالمية التجارة، ويتسايل انتقال المعلومات والأشياء !

2- إسقاط المعلومات غير الملائمة:
حين نكوّن اعتقاداً ما فإن القوى غير الواعية فينا تحشد على نحو غير مرئي كل الأدلة والبراهين التي تقوّيه، وتجعله غير قابل للنقاش؛ وحين تأتينا معلومات تناقض ما انتهينا إليه، فإن أكثرنا يحاول الإفلات من التغييرات التي تقتضيها المعلومات الجديدة بأساليب شتى. وعلى سبيل المثال إذا بلغنا عن شخص نثق به، ونحترمه احتراماً شديداً أنه كان في حياته عاقاً لوالديه، فإننا عوضاً عن أن نحاول التحقق من تلك المعلومة والتغيير في نظرتنا عند ثبوتها، فإننا نسلك مسالك عديدة حيالها، كلها غير سويّ: فقد نقول: إن الذين رووا ذلك حاقدون عليه. وقد نقول: إن أبويه توفيا وهو صغير قبل أن يُكلّف. وقد نقول: إن أبويه كانا يعاملانه بقسوة؛ فله نوع من العذر فيما فعله. وقد نقول: إن عقوقه لهما كان لمصلحتهما لأنهما لم يكونا على معرفة بها... وهكذا فإن المعلومة المناقضة لما نعرفه عن فلان تُعامَل بإهمال شديد، ومن ثَمّ فإنه لا يتم تخزينها، ويصبح الأمر كما لو أن العقل ليس فيه ( خانة ) مستعدة لقبول المعلومة المشوّشة. وهذه الحالة بعيدة الأثر في تشويه المركّب العقلي لكثير من الناس. وأعتقد أن كثيراً من بطء تقدمنا في فهم التاريخ يعود إلى هذه المسألة.

3- الضلال في تفسير الظواهر:
لو تساءلنا: هل الضلال الذي ينشأ من اختراع أمور لا أصل لها أعظم، أو الضلال الذي ينشأ من تفسير أمور موجودة تفسيراً خاطئاً؟
لكان الجواب من غير تردد: أن الضلال الذي يجتاح حياتنا الفكرية من وراء التفسيرات الخاطئة أعظم بكثير من الضلال الذي ينشأ من الكذب الصراح. نجد في خبراتنا اليومية من يقول: إن فلاناً متفوق؛ لأن أباه لا يكلّفه أي شيء، فهو متفرغ للدراسة. وفلان منحرف؛ لأنه نشأ يتيماً، فلم يتلق التربية المناسبة. والبلد الفلاني ثري؛ لأن فيه أنهاراً غزيرة. والشعوب الإسلامية متخلفة؛ لأنها تقع تحت ضغوط مؤامرة كبرى... ولو أجَلنا النظر في هذه التفسيرات لوجدنا أنها جميعاً محتملة، وليست قطعية، فهناك طلاب أثرياء، ومفرّغون للدراسة، ومع ذلك يرسبون. وهناك أعداد ضخمة من الأيتام ذوي السلوك الحسن والسيرة الحميدة، وهناك وهناك...
إن تفسير الظواهر الكبرى بعامل واحد من أكثر الأخطاء الفكرية انتشاراً، وهو الذي يقبع خلف عدد، لا ينتهي من التصورات والأحكام العوجاء والظالمة.

4- تأثير الهالة:
قدرة الناس على مناقشة الأفكار ومعرفة مزايا الأشياء على نحو دقيق محدودة، ولذا فإنهم يتشبثون بأي شيء يمكن أن يساعدهم على استيعاب ما يرغبون في استيعابه. وحين يتفوق إنسان في مجال ما فإنه يكوّن لنفسه (هالة) ويترك انطباعاً بالجدارة والثقة لدى الآخرين. وبتأثير تلك الهالة ينسى الناس جوهرية (الاختصاص) ويسألون المعجبين بهم عن أشياء ليس هناك أي دليل على تفوقهم في معرفتها. وصار من المألوف اليوم أن يُقبل الناس على استخدام نوع من الصابون أو العطر أو معجون الأسنان... لأن النجم الفلاني يستخدمه، أو ظهر في إعلان عنه. وطالما سُئل رياضيون وفنانون عن قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية، وطالما انفعل الناس بأجوبتهم أكثر من انفعالهم بأجوبة بعض المختصين !
وفي عصرنا الحاضر صار للحقيقة العلمية هالة كبيرة؛ فنحن نحترمها أشد الاحترام، ونحاول الاستفادة من مؤشراتها، لكن كما أن من السهل على أي واحد أن يتاجر بعملة زائفة، فمن السهل أيضاً أن يتاجر بعض الناس بالحقائق العلمية.
وقد وقع كثير من الناس ضحية لتناول أدوية وعقاقير تخلصهم من السمنة أو الصلع أو غير ذلك... حيث بُهروا بالشرح العلمي لميزاتها وخصائصها. هذا كله يدعونا إلى أن نتعلم المزيد عن كيفية ( تقويم المعلومات ) الواردة إلينا، وأن نسأل أهل الذكر في كل علم وفن.

5- المبالغة:
نحن لا ندرك الأشياء بطريقة مباشرة، وإنما عبر وسيط ثقافي وفكري ونفسي أيضاً، مما يجعل رؤيتنا لها قابلة للكثير من الخصوصية، ومن ثَمّ للكثير من الانحراف. المبالغة مرض واسع الانتشار؛ والبنية التحتية له بنية فكرية شعورية؛ فالإدراك القاصر، وضعف المحاكمة العقلية، مما يدفع إلى المبالغة على النحو الذي تدفع إليه المصالح والأهواء والأمراض النفسية، والانطباعات الخاصة والخاطئة.

وللمبالغة تجليات كثيرة، نستعرض بعضها من أجل تسليط الوعي عليها:
بعض الناس يميلون إلى تضخيم كل الأشياء، وكأنها (مجموعة كوارث) فهم يتوقعون الأسوأ دائماً، فأي ألم مفاجئ يصيب الواحد منهم، هو دليل على وجود مرض خطير، وأي خطأ يقع فيه يمكن أن يحرمه من وظيفته !
- هناك من يميل إلى (تعميم الافتراض) فلأن شيئاً ما قد وقع فهذا يعني أنه سيقع دائماً؛ فإذا نسي موظف عنده تنفيذ أحد طلباته، قال له: إنك تنسى دائماً ما أطلبه منك. وإذا تبين له أن إحدى الإذاعات كذبت في خبر من الأخبار، حكم بأن تلك الإذاعة لا تصدق أبداً !
- تتجلى المبالغة في بعض الأحيان في صورة قراءة لما في عقول الآخرين؛ حيث يعتقد بعض الناس أنه يملك شفافية خاصة لمعرفة ما يدور في أذهان العباد، وما تنطوي عليه سرائرهم، فإذا توجهت إليه شركة بسؤال ظنّ أنها سألته؛ لأنها لم تعثر على شخص آخر بإمكانه أن يجيب عن أسئلتها. وإذا واجه مشكلة، ولم يتدخل فيها أحد من أصدقائه؛ فذاك ليس لأنهم يريدون المحافظة على خصوصيته، وإنما بسبب إهمالهم له، أو شماتتهم به، وإذا نصحه شخص بنصيحة، فذاك ليس بقصد إصلاحه، وإنما بقصد تحطيمه أمام نفسه، وهكذا...


- تترجم المبالغة في بعض الأحيان شكلاً من أشكال عدم الاتزان؛ فترى بعض الأشخاص يتحولون من النقيض إلى نقيضه بسرعة البرق؛ فبسبب كلمة أو حركة يمكن لأي شيء أن ينقلب رأساً على عقب. ويبدو أن هذا النوع من المبالغة، هو في الأصل ظاهرة نسوية [1]، لكن للرجال أيضاً نصيبهم منها، وطالما سمعنا من يقول: إن كنت تستطيع أن تقول ذلك فهذا يعني أن علاقتنا لا تعني أي شيء. ومن يقول: خطأ واحد يفسد الأمر كله.
- كثيراً ما تتجلى المبالغة في ظاهرة الإسراف في المدح والذم، وهذه الظاهرة عالمية، لكن يمكن أن نقول هذه المرة: إنها ظاهرة عربية في المقام الأول؛ فنحن من أكثر أمم الأرض تمادياً في المدح خاصة وقد تجاوزت المبالغة في المديح لدى بعض الناس مرحلة الكذب الصراح إلى مرحلة الكذب المركب والمعقد، والذي يحتاج إلى منهاج خاص من أجل كشفه !
وأعتقد بعد هذا وذاك أن تحسن مستوى التفكير لدينا سيظل مرتبطاً بمدى ما يسود حياتنا من مناقشة ومصارحة، وبمدى ما تحرزه الأمة من تقدم على الصعد الإنسانية المختلفة.
إن تجديد البعد العقلي، يحتمل الكثير من الكلام، لكن الوقت المتاح لا يسمح بأكثر مما قلناه، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لما هو خير وأبقى.

________________________
(1) ورد في الحديث الشريف: (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط).