الميكانيزمات النفسية الدفاعية كصوارف عن الحق..النرجسية
يعتبر الملحد نفسه إنساناً فوق البشر، يعتقد بمعتقدٍ لا يعتقده إلا الخاصّة؛ وذاك عبر تمجيد "الأنا" le Moi، وتحقير المجتمع ككلٍّ بدينه وتقاليده وثقافته، وليس هذا مرهوناً بالمجتمع الإسلامي، بل حتى المجتمعات الغربيّة التي تدين بدينٍ معيّن...
هي مرّاتٌ عديدةٌ؛ تلك التي يدخل فيها الملحد مدشّناً لحوارٍ عقديٍّ أو تساؤلاتٍ اشتباهيّةٍ بقوله : " قرأتُ القرآن كاملاً، وكتب التفاسير كلّها، والحديث والعقيدة والفقه " ! ممهّداً بذلك على محاوره، أنه ملحدٌ متمكّنٌ من الإسلام، ينزل منزلته كمنزلة عالمٍ شرعيٍّ كفر عن علمٍ وليس عن جهلٍ، يحاول فيها بذلك التدليس على الطرف الآخر؛ لكي يضفي نوعاً من المصداقيّة والمشروعيّة لتساؤلاته تلك؛ فيتسامى بوهمٍ إمّا للتلبيس على مسلمٍ له حظّ قليلٌ في العلم، أو لكي يستعرض عضلاته على أهل الحقّ، أو لكسبِ منزلةٍ اجتماعيّة داخل طائفته الإلحاديّة!
وتلك الدعوات كلها لا تجد لها تحقيقاً في الواقع؛ فكم من ملحدٍ ادعى ذلك في حوارٍ صوتيّ مباشرٍ، فما إن سألناه حول اسم مؤلّفٍ أو كتابٍ حتى دخلَ في صمتٍ، كأنه أصيبَ بسكتةٍ قلبيّةٍ زهقت بها روحه !
فمثل هذا الادعاء يكون نتيجة ميكانيزمٍ دفاعيٍّ نفسيٍّ يسمّى : النرجسية le Narcissisme، وهي غالباً ما تكون عند أصحاب الشخصيّة النّرجسيّة المغرورةٍ، لكنّها قد تستعمل أيضاً عند أصحاب الشخصيّة العاديّة، نظراً لأحوالَ وظروف مؤقّتةٍ يعيشها الشخص.
ونحن لا يعنينا استعمالها في إطارٍ جنسيٍّ كما هو مشهورٌ في علم النّفس، بقدر ما تعنينا أشكال استعمالاته في بناءِ فلسفةٍ مذهبيّةٍ عند المخالف، وتمظهراتها في الحوارات العقديّة.
هذا الميكانيزم هو نتيجة تصوّراتٍ قبليّة رسخت في ذهن الملحد حول الدين والمتديّنين، باعتبارهم مجموعةٌ من المتخلّفين يعتقدون في دينٍ " أسطوريٍّ " في نظره، أي شعورٍ بالدونيّة infériorité، يسقطه على مخالفه، بالرغم من أنّ هذا المتديّن أو ذاك قد يصل إلى مراكز مرموقةٍ علميّا، وقد يجمع بين تخصصاتٍ عدةٍ لم يبلغها الملحد نفسه !
فيعتبر الملحد نفسه إنساناً فوق البشر، يعتقد بمعتقدٍ لا يعتقده إلا الخاصّة؛ وذاك عبر تمجيد "الأنا" le Moi، وتحقير المجتمع ككلٍّ بدينه وتقاليده وثقافته، وليس هذا مرهوناً بالمجتمع الإسلامي، بل حتى المجتمعات الغربيّة التي تدين بدينٍ معيّن يخالفه المعنيّ، حتى لو كان في الصين أو اليابان أو الولايات المتحدة الأمريكيّة وغيرها ! فيدخل الملحد حواره ظانّاً منه أنه يستطيع إفحامَ مخالفه بسهولةٍ تامّةٍ، ولا يدري أنّه مرتكزٌ على فكرٍ هشّ الأركان، ضعيفِ الأسس، لكنّ الانغلاق على الذّات والاكتفاء بمطالعة فكرٍ وحيدٍ هو السّبب الرئيس في هذا الظنّ القبليّ اللاشعوريّ؛ حتّى إن أفحمَ من كلّ الجهات ردّ السبب في عدم استطاعة ذاك المتديّن فهم ما يقوله هو، وليس إلى هشاشة الطرح !
فكيف له وهو المثقّف في أن يعتقد برسالةٍ نبيٍّ أميٍّ، ودينٍ انتشرَ بين البدو قبل ألف عامٍ ويزيد؟ وإن كان هذا الدين له قوةٌ حجاجيّة كبرى ويحمل أفكاراً تقدميّةً كثيرةً! فهو لا ينظر إلى أصل الرسالة على أساس أنها آتية من خالق الكون، بل آتيةٌ عن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلّم ! -1-
في حين أنه يتناسى أن مجملَ أفكاره " المعاصرة" هي آتيةٌ عن أقدم من العصر الرسالي، بل هي أفكارٌ ظهرت عند اليونان قبل الميلاد وتمّ تجميلها ما بين القرن 18 والقرن 20 !
فأول ملحد في التاريخ هو دياغوراس من ميلوس Diagoras de Mélos، عاش 475 قبل الميلاد، ثم ثيودور القوريني Théodore de Cyrène ، 465 قبل الميلاد، وأول "لا أدري" في التاريخ هو بروتاغوراس Protagoras ، 490 قبل الميلاد ! وكلهم عاشوا في اليونان القديمة أو بلاد الإغريق كما يسميها آخرون وقبل التقويم المسيحي بقرون، -2-.
ولم يكن مذهبا منتشرا كما هو الحال في عصرنا، ثم جاء جون ميسليي -3-، وشوبنهاور، وماركس وفيورباخ وغيرهم.. ليقدموا أفكار أولئك بصبغةٍ جديدة!
إنك أيها الملحد بتساميك الباطل نتيجة النرجسية، لا تساهم إلا في صدودك عن الحق، فتستمر الغشاوة على عينيك ولا تدري بأن الإلحاد ماهو إلا انتكاس في تاريخ البشرية. فلا تحسب أن في انتشاره خير للفرد والجماعة. بل هو شر نفسيّ ومجتمعيّ إن ساد، كان للبشرية موعد مع العدمية والحيرة والظلم والتقهقر.
Haut du formulaire
_________________________________
هوامـش المقال
-1- يمكن للقارئ مطالعة الأدلة على وجود الله ودلائل النبوة على موقع إسلام ويب.
-2- كتاب المؤرخ الروماني - قبل الميلاد - ماركوس تيليوس سيسيرو الموسوم بـ " في طبيعة الآلهة"، كتاب دانييل لويس مونيي " المناظرات الفلسفية الأدبية لدياغوراس "، كتاب جون أوكنور الموسوم "ثيودور القوريني ".- مراجع فرنسية-
-3- يخطيء من يظن أن أول ملحدٍ في العصر الحديث هو شوبنهاور، بل هو الفيلسوف الفرنسي جون ميسيلي، في كتابه " مذكرات الأفكار والمشاعر "-مرجع فرنسي-
______________________________
اسم الكاتب: أبو عبد الرحمن الإدريسي
- التصنيف:
- المصدر: