كرسي الإمام
الإمام أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي هو من الطبقة الأولى من فقهاء الشافعية فهو صاحب الإمام الشافعي وتلميذه، امتُحن الإمام البويطي في محنة خلق القرآن، حيث أُخرِج من مصر إلى بغداد، وثبت على رأيه في ذلك الأمر، وقال: "هو كلام الله غير مخلوق"، فحُبس حتى مات سنة 231 هـ
كلنا يعلم عن فتنة القول بخلق القرآن الكريم التي ابتدعها المعتزلة في عهد الخليفة العباسي المأمون واستمرت في عهد المعتصم والواثق حتى انتهت بعد سنواتٍ من عهد المتوكل، وقد امتُحن بسببها الكثير من العلماء، وسجن منهم من سجن وعذب منهم من عذب وقُتل منهم من قُتل، فتأوَّل بعضهم لنفسه فقال خوفًا واضطرارًا بخلق القرآن، وثبت على القول بأن القرآن الكريم كلام الله تعالى أنزله على نبينا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة جبريل عليه السلام، ثبت على هذا القول علماء كانوا هم أئمة الهدى في ظلام تلك الفتنة العظيمة، وكان من المبرزين منهم: الإمام الذي وصفه الحافظ الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" بسيد الفقهاء ألا وهو الإمام أبو يعقوب يوسف بن يحيى البُويطي - رحمه الله تعالى -.
أُتي بالبُويطي من مصر إلى بغداد في عهد الواثق، مكبلًا بالسلاسل والحديد في يديه ورجليه، ليس خوفًا من هربه من الجند، وإنما زيادةً في الامتهان لعالمٍ جليل من علماء الأمة الذين لم نعرف لهم قدرهم حتى في زمننا هذا، فأُخِّروا عن قيادة الأمة لأمجادها كما كانت في سابق عهدها، وقدِّم عليهم من لا يستحق التقديم ولا التكريم!.
قبل مثول البُويطي بين يدي الخليفة الواثق كان يقول: "إنما خلق الله الخلق بكن، فإذا كانت مخلوقةً فكأنَّ مخلوقًا خُلق بمخلوق، ولئن أُدخلتُ عليه لأصدُقنَّه - يعني: الواثق -، ولأموتنَّ في حديدي هذا حتى يأتيَ قومٌ يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قومٌ في حديدهم"، وفعلًا حضر البويطي بين يدي الواثق وقاضي قضاته ابن أبي دؤاد وامُتحن فلم يُجبهم، وثبت على القول بأن القرآن الكريم كلام الله تعالى، فزُجَّ به في السجن حتى توفي فيه رحمه الله تعالى وأسكنه أعالي جنانه.
وإن مما يُثير الغرابة والدهشة فيما تعرَّض له الإمام البويطي أنه قد أُحضر من مصر إلى بغداد، ولا يخفى ما في ذلك من بُعد المسافة لا سيما في ذلك الزمان الذي لم تكن فيه السيارات ولا الطائرات كما هو الشأن في هذه الأيام، كما أن وسائل الإعلام لم تكن متطورة لديهم كما هو الشأن في هذا العصر، وإنما كانت بسيطة جدًّا تعتمد على البريد والمراسلات والرسل وما إلى ذلك، ولم يكن لديهم مثل ما هو موجود لدينا من القنوات الفضائية والشبكة العالمية "الإنترنت" ولا وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة التي جعلت الأخبار والحوادث تنتقل في ثوانٍ معدودة، فكيف علم الواثق وقاضي قضاته ابن أبي دؤاد بأن البويطي لا يقول بخلق القرآن الكريم وإنما يقول بأنه كلام الله تعالى ؟!
أخذت بالبحث عن هذه الجزئية فإذا بالحافظ الذهبي – وغيره – يُجيب عن هذا التساؤل: بأن هناك من أقران البُويطي من سعى به إلى الخليفة الواثق وقاضي قضاته ابن أبي دؤاد المعتزلي؛ حسدًا وغيظًا من المكانة التي كان عليها البُويطي، حيث كان رحمه الله من أخصِّ تلاميذ الإمام الشافعي، وكان الشافعي يقدمه على بقية تلاميذه لنجابته وسعة علمه وفقهه، وكان يُحيل إليه بعض المستفتين ليفتيهم، فيرجع إليه المستفتي بفتوى البويطي فيقره عليها، وفي مرض الإمام الشافعي تنازع بعض تلاميذه وكان البويطي منهم فيمن يخلف الشافعي في الدرس على كرسيه لتعليم الناس، فبلغ ذلك الشافعي فحسم الأمر، وقال: "ليس أحدٌ أحقُّ بمجلسي من يوسف، ليس أحدٌ من أصحابي أعلمَ منه".
خلَفَ الإمام البويطي الإمام الشافعي في حلقته، وكانت تلك الحلقة أعظم حلقة في المسجد، وكل ذلك أثار بواطن نفوس بعض أقرانه الذين لم يرتضوا أن يجلس البويطي على كرسي الإمام الشافعي، رغم تقديم الشافعي له من جانب، وسعة علم البويطي من جانب آخر، فقد كان مستحقًا لهذا الكرسي بكل جدارة، فسعى به من سعى إلى الخليفة الواثق وقاضي قضاته ابن أبي دؤاد في بغداد للتنكيل به وامتهانه وزجه بالسجن، فكان ما كان، وكل ذلك من أجل كرسي في الدنيا!.
قلت عندما قرأت هذا الأمر: أبلغ بنا الحال أن نفعل ببعضنا البعض هكذا من أجل كرسي في الدنيا؟! وإذا كان هذا هو حال بعض من يفترض أن يكونوا قدوةً للناس، وفعلوا ببعضهم البعض كل ذلك، فما الذي بقي لمن لم يكن لديه علمٌ من الكتاب ولا من السنة؟! أين الدين والأخلاق والمروءة؟! أين الخوف والخشية من الله تعالى؟!
وإن ما ذكرته ليس مجرد حادثةٍ مذكورة في ترجمة عالمٍ من العلماء وفقيهٍ من الفقهاء وإنما هي حادثة متكررة في حياتنا اليومية وفي كثير من مجتمعاتنا وبلداننا اليوم، حتى أخذ البعض يتفنن في كيفية إيذاء أقرانه وأصحابه بل ويتلذذ بذلك ويستمتع! لا يردعه عن ذلك خوف من الله ولا من عقابه، وبلغ السوء مبلغه في أقوامٍ أصبحوا شهداء زور وهم يتقدمون الناس في الصلاة ويعظونهم على المنابر! حقيقةٌ لا بد علينا من تداركها والتنبه لها، أقول هذا إعذارًا إلى الله، ورأفةً وشفقةً على حال البعض ممن وقعوا في هذا الأمر، أدركوا أنفسكم قبل فوات الأوان.
كون فلان قرينًا لك وقد فاقك وقُدِّم عليك لا يمنحك أي حق بانتقاصه، ولا الحط من قدره، ولا الوشاية به، ولا الكذب والافتراء عليه، حتى لو لم تكن موافقًا له ولم يكن بينك وبينه ألفة ووُد، فالله تبارك وتعالى يقول في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المائدة: 8].
رحم الله من كان إمامًا في العلم، قدوةً في العمل، زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة.
__________________________
د. أحمد عادل العازمي
- التصنيف:
- المصدر: