الصدق في الأقوال والأفعال والهمم
الإسلام يطالب المسلم أن يكون صادقاً في أخلاقه في عطاءه في نيته في نصحه في مشورته في دعوته .....
أيها الإخوة المؤمنون أحباب رسول الله صلي الله عليه وسلم اليوم موعدنا لنتحدث عن وصية الإسلام لكل مؤمن ومؤمنة أن يتقوا الله تعالي وأن يكونوا مع الصادقين . قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}
يكفي أن تعلم أخي أن الله سبحانه وتعالى اختار الصدق من بين الصفات كلها فوصف به حديثه ووصف به قوله ووصف به فعله قال {(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ) [وقال ] (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ) [وقال] ( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ )}
وبالصدق مدح الله الأنبياء والرسل عليهم السلام فمدح بالصدق ابراهيم وقال {(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا) } ومدح بالصدق اسماعيل فقال {( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا )} ومدح بالصدق إدريس فقال {(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا )} وامتدح بالصدق نبينا صلي الله عليه وسلم فقال {(وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ )}
بعض الناس يتخيل أنه مأمور بالصدق فقط إذا حدّث الناس يعتبر نفسه صادقاً لمجرد أنه يصدق في كلامه وهذا الفهم لا يعبر عن الحقيقة الكاملة للصدق الذي دعا إليه الإسلام في أيات الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام .
الإسلام يطالب المسلم أن يكون صادقاً
في كلامه وفي الحديث الشريف: «اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة وفيه ( اصدقوا إذا حدثتم )»
الإسلام يطالب المسلم أن يكون صادقاً في عبادته هو يتكلم بالكلمة هو يسجد السجدة هو يمد يده بالعطية وهو صادق فيها لا يريد من الناس شكرا ولا مدحاً ولا ثناءاً لا يريد إلا الله والدار الآخرة ولسان حاله {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}
الإسلام يطالب المسلم أن يكون صادقاً في عبادته في توبته في دعاءه في ذكره لله سبحانه وتعالي
الإسلام يطالب المسلم أن يكون صادقاً في أخلاقه في عطاءه في نيته في نصحه في مشورته في دعوته .....
الصدق يهيمن الصدق يحيط ويشمل حياة المسلم من الألف إلي الياء ليكون المؤمن صادقاً في عاداته وفي معاملاته وفي سلوكه وعباداته وفي التنزيل الحكيم
{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}
الأمر الدقيق أيها المؤمنون في السنة النبوية
بيانها أن المؤمن يمكن أن يتخلق بالأخلاق كلها حسنها وسيئها ويمكن أن يتصف بالصفات كلها من غير أن تؤثر هذه الصفات سلباً علي إيمانه بدرجة كبيرة ...
الآن من العلوم الحديثة ما يعرف بعلم الطباع .. فلان من الناس من طبعه أنه مرح وفلان من طبعه أنه جاد وفلان اجتماعي وفلان انطوائي وفلان سخي وفلان يحسب لكل درهم حسابه فلان من فرط حبه للمال يبخل به من فرط تعلقه بممتلكاته يحرص عليها ويضن بها وفلان من فرط حبه للحياة يجبن ويخاف ..
كل هذه الطباع وأصحابها علي رؤوسنا وفي حديث النبي عليه الصلاة والسلام إن المؤمن يطبع علي الخلال كلها .. ) لكن معنا استثناء قال النبي عليه الصلاة والسلام « يطبع المؤمن علي الخلال كلها إلا الخيانة والكذب»
مستحيل وألف ألف مستحيل
أنّ مؤمناً كامل الإيمان يكون خائنا أو كذاباً قد يكون المؤمن بخيلاً وقد يكون المؤمن جبانا ولكن لا يكون المؤمن خائنا ولا كذابا ...
يطبع المؤمن علي الخلال كلها إلا الخيانة والكذب لماذا ؟ لأن الخيانة والكذب لا يجتمعان مع الإيمان في قلب واحد إن وجد أحدها أُخرج الآخر وفي الحديث ( لا إيمان لمن لا أمانة له و لا دين لمن لا عهد له )
وعند البيهقي في شعب الإيمان وعند مالك في الموطأ من حديث صفوان بن سليم أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيكون المؤمن جبانا ؟ قال نعم فقيل أيكون المؤمن بخيلا ؟ قال نعم فقيل أيكون المؤمن كذابا ؟ قال لا ...
وبناء علي ذلك :
إذا رأيت أو تعاملت مع أحد ووجدته خائنا أو كذاباً فاعلم أن وراء خيانته ووراء كذبه خللا وفساداً في عقيدته وإيمانه ..
ها هو الإمام الزهري عليه رحمة الله:
ذلكم المحدث الكبير الذي يدخل على هشام بن عبد الملك فيقول هشام للعلماء وكانوا حوله من الذي تولى كِبر الإفك في حادثة الإفك ؟
وكان هشام يدعي أن الذي تولى كبره هو علي رضي الله عنه فقال هشام لـ سليمان بن يسار من الذي تولى كبره؟
قال عبد الله بن أُبيّ فقال هشام كذبت هو علي بن أبي طالب فقال سليمان الأمير أعلم بما يقول ثم قال للآخر من الذي تولى كبره؟ فأجابه وكذَّبه...
ثم وصل الدور إلى الإمام الزهري عليه رحمة الله ذلكم الرجل الذي نحسب أنه أسَّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، فقال له هشام من الذي تولى كبره في حادثة الإفك ؟
قال عبد الله بن أُبيّ عليه من الله ما يستحق قال كذبت ...
فانتفض الإمام الزهري وقال أنا أكذب لا أبا لك! والذي لا إله إلا هو لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت والذي لا إله إلاَّ هو لقد حدثني سعيد وعروة وعبيدة وعلقمة عن عائشة بأن الذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي فارتعد هشام وانتفض وقال هيَّجناك يا إمام سامِحْنا سامِحْنا...
المؤمن يبيع ويشتري وهو صادق لا يكذب :
وفي الحديث «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ »
وفي الحديث الآخر « التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ الْمُسْلِمُ مَعَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
المؤمن في علمه وعمله صادق المؤمن في سلوكه ومعاملاته صادق المؤمن في عباداته صادق .. لا يكذب لماذا ؟
لأنه مؤمن بالله مصدق بالله صادق في اعتماده علي الله حسن الظن بالله يعلم يقينا أن الأمة لو اجتمعت علي أن ينفعوه بشئ لم ينفعوه إلا بشئ قد كتبه الله له فلماذا يكذب ؟!
المؤمن يعلم أن الأمة لو اجتمعت علي أن يضروه بشئ لم يضروه إلا بشئ قد كتبه الله له فلماذا يكذب ؟!
المؤمن له وجه واحد له لسان واحد صريح واضح لا يتلون لا يمكر لا يخدع لا يراوغ لا يتلاعب لأنه صادق لا يكذب ولو كان مازحاً وفي الحديث يقول النبي عليه الصلاة والسلام ( أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء و إن كان محقا و أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب و إن كان مازحا و أنا زعيم بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه .
أما الإنسان المنافق :
فهو يتنفس كذباً له أكثر من وجه وله أكثر من لسان يجري الكذب علي لسانه جريان الماء في العود الأخضر يكذب إذا باع يكذب إذا اشتري يكذب إذا اقتضي يجري الكذب في بدنه جريان الدم في العروق يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب ....
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }
جعل الله في الصدق مفتاحاً لأبواب الخير كلها :
مفتاحاً لأبواب السعادة في الدنيا والآخرة من لوازم الصدق أن يرحم أن يتواضع والصادق تتوقع منه كل مكرمة
ولهذا قال الرسول الكريم «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا »
ومن الكذب جعل الله تعالي مفتاحاً لأبواب الشر كلها :
ومفتاحاً لأبواب الشقاء في الدنيا والآخرة ومن لوازم الكذب أن يتكبر أن يغدر وتوقع من الكذاب كل نقيصة ( وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا » ..
الخطبة الثانية
بقي لنا في ختام الحديث أن نقول:
لكل مؤمن ومؤمنة أنت في بيتك قدوة فما نتصف به من الأخلاق سنراها لابد في أولادنا فمن شابه أباه فما ظلم الرجل الصادق والمرأة الصادقة أولادهما لا يكذبون لسبب بسيط أنه إذا استقام الأصل استقام الفرع أما إذا كان العود أعوج فمن المحال أن يستقيم الظل والعود أعوج ...
في صفوف الإعدادي درسنا قصة جميلة :
لا أزال أذكرها رغم مرور ما يقارب الثلاثين من الأعوام لأنها كانت معبرة وهادفة
إنها قصة أبي اليزيد البَسطاميّ الصوفيْ في السنوات الأولي بعد مولده مات أبوه وتركه في الدنيا يتيما وكان له أما صالحة ترملت عليه وأحسنت إليه ووهبته لله تعالي ..
كانت حرصة علي أن تلقنه من العلم ما ينفعه فما كان منها إلا أن قامت فباعت كل ما تملك من أثاث ومتاع حتي جمعت له مقدر أربعين دينارا من ذهب وقالت له هذا هو المال خذه واخرج مع هذه القافلة إلي أرض الحجاز فتحفظ القرآن وتتعلم حديث النبي عليه الصلاة والسلام ...
وقبل أن تخرج القافلة أوصته أمه بأن يتخلق بكل خلق حسن وأخذت عليه عهداً من الله وميثاقاً ألا يكذب ولو قرِّضَ بالمقاريض ..
وخرج أبو اليزيد مع القافلة فلما كانوا ببعض الطريق أغار عليهم قطاع الطريق فسلبوا ونهبوا كل ما في القافلة من العير والمال والمتاع فلما أتوا علي أبي اليزيد سأله أحدهم أمعك مال يا غلام ؟
قال نعم معي أربعين دينارا ..
ضحك اللصوص منه وتركوه ..
فلما رجعوا وتذاكروا ما كان من أمر القافلة قال أحدهم لقد سألنا غلاماً صغيراً عما معه من المال فقال معي أربعين دينارا فقالوا ائتونا به فلما أُتي به قيل يا غلام ما معك ؟
قال معي أربعين دينارا قيل وأين هي ؟
قال في هذا الكيس لا تنقص دينارا واحدا ...
فدهش اللصوص وقال أحدهم يا بني ما حملك علي أن تقول ما قلت ؟
قال عهد بيني وبين أمي ألا أكذب ولو قُرِّضت بالمقاريض وما كنت لأنقض عهد أمي ..
كان في كلمة الغلام عظة وعبرة استوجبت ندم اللصوص فقالوا تخاف أن تنقض عهد أمك ولا نستحي نحن أن ننقض عهد الله لله علينا ألا نسرق بعد اليوم أبدا ثم ندموا علي ما كان منهم وردوا المظالم إلي أهلها ..
هذه هي التربية الصدق ينبت الصدق والأمانة تنبت الأمانة {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا}
محمد سيد حسين عبد الواحد
إمام وخطيب ومدرس أول.
- التصنيف: