حزمة حطب أم وظيفة؟
لا تنتظر أن تكون موظفًا حتى يأتيك المال والرزق! ولكن اطلب الرزق سواء كان من وظيفة أو من حزمة حطب، فإن كنت تطمح لوظيفة معينة فاعمل من كسب يدك حتى يرزقك الله هذه الوظيفة دون أن تجلس عاطلًا ليس لك عمل يغنيك عن الناس.
اجتمع خمسة من الأخوة في المجلس يتبادلون الحديث، فقال أحدهم: هل علمتم أن فلانًا يحتل المرتبة الأولى في عداد الملايين! قال الآخر: وفلان نافسه في الصدارة لما يملك من الشركات والعقارات! قال الثالث: إن التاجر الفلاني لديه شهادة في الإدارة والاقتصاد مما جعله يعرف كيـف يدير أمواله! قال الرابـع: لكن فلانًا لم يستطع أن يجمع الأموال على كثـرة تعلمه وكـدحه في الحيـاة، وفلانًا مستور الحال يكفيه دخله الشهري! فقال الخامس: رويدكم أيها الأحبة، أعطوني دقائق وثوانٍ حتى أوضح لكم! قالوا: تفضل، فقال:
إن الله سبحانه وتعالى خبيٌر بما يناسب عباده، بصيرٌ بأحوالهم، قد تكفّل بأرزاق العباد، ولحكمته جعل منهم الغني والفقير، قال سبحانه: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27].
لقد ثبت في "الصحيح" من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل الله إليه المَلَك فينفخ فيه الروح ويُؤمر بكتب أربع كلمات بكتب رزقه وأجله وشقيٌّ أو سعيد..» الحديث.
إن من أعظم أفعال الربِّ جلَّ وعلا رزقه لعباده مؤمنهم وكافرهم، ويدل عليه توحيد الربوبية فهو الرازق جل وعلا، ويدل عليه توحيد الأسماء والصفات فمن أسماءه "الرزاق"، وما كان الله ليخلق خلقًا ثم يتركهم سدى وعبثًا دون أن يرزقهم، قال سبحانه بعد أن ذكر أنه خلقهم للعبادة: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 57، 58].
ومن حكمة الله أنه سخَّر لعباده ما في السماوات وما في الأرض؛ من أجل أن يتفرغ العبد لطاعة ربه، ويجعل ما وقع في يده من خير ومال في طاعة الله سبحانه، إلا أن هذا الرزق مقدّر عند الله جل وعلا، فَكُلٌّ قد كُتب له رزقه منذ ولادته وحتى وفاته، فلن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فهذا غني، وهذا متوسط في غناه، وهذا فقير، فهو سبحانه حكيم في تدبيره، فقد جاء في الحديث: أن من العباد من لا يصلح له إلا الغنى ومن العباد من لا يصلح له إلا الفقر.
واعلموا أيها الأحبة أن هذا الرزق إنما يحصل بالدعاء وفعل الأسباب والمشي في الأرض لطلبه، قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]، وانظر إلى مريم وهي تلد ابنها عيسى - عليهما السلام - كيف أمرها الله بفعل الأسباب وذلك بهز النخلة حتى يسقط الرطب لتأكل، والله قادر على رزقها بدون تعب ولا هز.
وأعظم ما تميز به أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام هو الأكل مما عملت أيديهم، وما ذاك إلا لتواضعهم ومعرفتهم بالله جل وعلا أنه لا يخلق خلقًا دون أن يرزقهم، وعِلْمِهم أن الله قد خلق أسبابًا ومسببات، فما من شيء إلا وله سبيل يوصل إليه، ولا يمكن عبور هذا السبيل إلا بفعل الأسباب النافعة والمباحة والمشروعة التي تُسَهّل الوصول إلى هذا الشيء.
ولذلك تقرؤون يا إخوتي في كتاب الله أن موسى عليه السلام لما عزم على البقاء في مَديَن وتزوج بالمرأة رعى الغنم عند والدها عشر سنين طلبًا للرزق له ولأهله مع أنه كليم الله، بل وصفه الله في كتابه بالوجاهة، حيث قال: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]؛ أي: معظمًا.
والنبي صلى الله عليه وسلم رعى الغنم على قراريط لأهل مكة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في "صحيح مسلم" أن زكريا كان نجارًا، وداود كان لا يأكل إلا من عمل يده عليهم الصلاة والسلام.
وانظروا إلى الصحابة رضي الله عنهم لما علموا أن رزق الله لا بد فيه من فعل الأسباب والمشي في الأرض ظهر فيهم الأغنياء والتجار، بل منهم من يجهز الجيش وحده، ومنهم من ينفق الأموال الطائلة في سبيل الله، مع ذلك كانوا أتقى البشر وأطوعهم لله ورسوله وأكثرهم بُعدًا عن الدنيا وزخرفها، لأن هذه الأموال كانت في أيديهم وليست في قلوبهم، وقد جعلوها عونًا لهم على طاعة الله ورسوله.
والإنسان يا أحبتي كلما كان نشيطًا في طلب رزقه متوكلًا على ربه دون بغي أو طغيان وإسراف، كلما كان قلبُهُ أكثر راحة في عبادة الله تعالى، فعنده ما يسد حاجته من الرزق، وكلما كان الإنسان عاطلًا، ليس في شيء من أمر الدنيا والآخرة، ولا همة له إلا الكسل والدَعة، كلما كان أكثر غفلة وبطالة ونومًا، فلا هو بالشخص الذي ذهب يطلب رزقه، ولا هو بالرجل الذي اغتنم وقت فراغه بما ينفعه في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: «أحرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز... »، وهذا عام في أمر الدنيا والآخرة. قال عمر بن الخطاب: « إن السماء لا تمطر ذهبا »، وصدق رضي الله عنه.
ومما يفرح المؤمن أن يجد شبابًا وفتياتٍ قد غُرس في نفوسهم حب العمل الشريف الذي يكون سببًا في رزقهم في هذه الدنيا، فتجدهم منذ نعومة أظفارهم وهم يتعلمون ويكدحون حتى ينالوا أعلى المناصب، أو يحصلوا على وظيفة مرموقة في المجتمع، وهذا بحمد الله طموح كبير، ولكن المشكلة أن تتعلق النفوس والقلوب بهذه المناصب أو الوظائف فهذا مما لا ينبغي أن يكون.
فكم من شاب أو فتاة بحاجة إلى العمل الشريف الذي يسد حاجته وحاجة أسرته ويسد وقت فراغه، ولكن تأخر عن العمل بسبب أنهما تعلقا بوظيفة يطمحان إليها!! مع أن رزق الله جل وعلا ليس محصورًا على عمل معين أو وظيفة معينة، فكم من غني يضرب به المثل وهو لا يحمل الشهادة الجامعية، بل لربما لم يحمل معه من الشهادات إلا الابتدائية!! نعم، لأنه قد علق قلبه بالله، وعلم أن الرزق من عند الله سبحانه، سواء طلبه من وظيفة أو من زراعـة أو من تجـارة أو من صناعـة أو بيع أو شـراء أو غير ذلك، بل إنك لو بحثت عن شخص ثري معدود من أصحاب الملايين قد ملك الأموال من الوظيفة لم تجد ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: «لو أنَّكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا»؛ (رواه الترمذي وحسنه).
وقال أيضًا مبينًا هذا المنهج العظيم وهو طلب الرزق من أي سبب حلال ونافع: «لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها، فَيَكُفَ اللهُ بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه» (متفق عليه).
فالمهم أن يبذل المرء السبب ويتوكل على الله جل وعلا ويتقه؛ لأن التقوى سبب عظيم للرزق: «ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب».
كٌل في مجاله وميدانه واختصاصه، الرجل في ميدانه والمرأة في ميدانها، قال ابن باز رحمه الله:
« فالرجل يقوم بالنفقة والاكتساب، والمرأة تقوم بتربية الأولاد والعطف والحنان والرضاعة والحضانة والأعمال التي تناسبها كتعليم الصغار وإدارة مدارسهن والتطبيب والتمريض لهن ونحو ذلك من الأعمال المختصة بالنساء ». [1 / 419 من فتاوى الشيخ رحمه الله].
أخيرًا.. زبدة القول أيها الأحبة: لا تنتظر أن تكون موظفًا حتى يأتيك المال والرزق! ولكن اطلب الرزق سواء كان من وظيفة أو من حزمة حطب، فإن كنت تطمح لوظيفة معينة فاعمل من كسب يدك حتى يرزقك الله هذه الوظيفة دون أن تجلس عاطلًا ليس لك عمل يغنيك عن الناس.
أتمنى أيها الأخوة: أن أكون قد وفقت في توضيح الأمر لكم، وكيف أن الناس فيهم الغني والفقير والمستور، قالوا: جزاك الله خيرًا فقد أفدت وبينت.
______________________________
الكاتب: صالح بن محمد الطامي
- التصنيف:
- المصدر: