فوائد من مصنفات العلامة ابن عثيمين: الحذر من الدنيا

منذ 2021-02-17

قال الشيخ رحمه الله: الدنيا ليست خيرًا وليست أبقى، فمتاعها قليل، وما جاء فيها من صفوٍ، فإنه يُكدر، قال الشاعر الحكيم:

{بسم الله الرحمن الرحيم }


الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد:

كلما كثر المال كثُرت الفتن:

قال الشيخ رحمه الله: حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ فقال:  «سبحان الله!» تعجُّبًا من هذين الأمرين: ما أنزل من الخزائن، وما أنزل من الفتن، والخزائن خزائن الدنيا التي تفتح على المسلمين، والفتن ما يحصل بمعية هذه الخزائن من الفتن؛ لأنه كلما كثر المال كثرت الفتن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والله ما الفقر أخشى عليكم؛ وإنما أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم» .

وقال رحمه الله: الغالب أن من كثر ماله قلَّ عمله؛ لأن دنياه تُلهيه، وكثير من الناس نجدهم كانوا في الأول على حال الاستقامة والثبات والأعمال الصالحة الكثيرة، فلما كثرت أموالهم أغرَّتهم، وصدوا كثيرًا، ورُبما كانوا لا يحبُّون هذا؛ لكن رغمًا عنهم تُكرههم الدنيا أن ينصاعوا لها، ولو أنهم كانوا مُقلِّين، لكان أطيب لهم في الغالب.

وقال رحمه الله: الزمان يتغيَّر ويتغيَّر إلى ما هو أشرُّ، نرى اختلافًا كثيرًا بين سنين مضت وسنين الوقت الحاضر.

حدثني من أثق به أن هذا المسجد مسجد الجامع كان لا يؤذن لصلاة الفجر إلا وقد تم الصفُّ الأول، يأتي الناس إلى المسجد يتهجَّدون، أين المتهجِّدون اليوم إلا ما شاء الله؟ قليل! تغيَّرت الأحوال.

 حذَّر المؤمن من نعيم الدنيا أن تكون طيباته قد عجلت له:

قال الشيخ رحمه الله: على المرء أن يحذر من هذا النعيم العظيم الذي نتمتَّع به في هذه البلاد، وليعلم بأن من سبقنا من سلف هذه الأمة كانوا حين فُتحت عليهم الدنيا يُحذِّرون منها هذا الحذر، وهذا عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه كان صائمًا، والصائم يشتهي الطعام إذا أفطر؛ لكنه لما قُدِّم له طعامه تذكَّر إخوانه ممن سلف، ثم جعل رضي الله عنه يبكي، فترك الطعام وهو يشتهيه، وهكذا ينبغي للمؤمن أن يعتبر ويتَّعظ بما يجري في وقته وقبل وقته، وأن يخشى من بسط الدنيا وفتحها أن تكون طيِّباته عُجِّلت له، فإن الدنيا لو كانت هي المقصودة، وهي السعادة، لكان أحق الناس بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يمضي عليه الشهران والثلاثة ما يُوقد في بيته نار؛ وإنما طعامه الماء والتمر، وما شبع ثلاث ليالٍ تباعًا من خبز البر.

خطورة الرفاهية والترف:

قال الشيخ رحمه الله: نحن عشنا حياة الرفاهية وعشنا ما قبلها، وجدنا أن العيشة الأولى خيرٌ من هذه بكثير، هذه فيها أشياء مريحة للبدن من أشياء مُبردة، وماء بارد، وظل بارد، وسيارات فخمة، وغير ذلك، وفيما سبق ليس الأمر هكذا؛ لكن راحة القلب والطمأنينة وتعلُّق القلب بالله عز وجل أكثر بكثير مما هو عليه الآن.

وقال رحمه الله: الناس كلما ازدادوا في الرفاهية، وكلما انفتحوا على الناس انفتحت عليهم الشرور، إن الرفاهية هي التي تدمر الإنسان؛ لأن الإنسان إذا نظر إلى الرفاهية وتنعيم جسده غفل عن تنعيم قلبه، وصار أكبر همِّه أن ينعم هذا الجسد الذي مآله الديدان والنتن.

وقال رحمه الله: الحذر من لعبِ أعداء المسلمين بالمسلمين حيث يغزونهم بوسائل؛ ليلهوهم عما خلقوا له من عبادة الله، وعما ينبغي أن يكونوا عليه من العزة والكرامة، فإن هذه الوسائل هي في الحقيقة حَبٌّ مسموم للدجاج، تغترُّ به تجده حبًّا منتفخًا ليِّنًا فتفرح به، وتبتلعه بسرعة؛ ولكنه يُقطِّع أمعاءها. 

وقال رحمه الله: الناس يذهبون إلى كل مكان ليرفِّهوا عن أنفسهم، ليزيلوا عنها الألم والتعب لكن لا يزيل ذلك حقًّا إلا الإيمان فالإيمان الحقيقي هو الذي يؤدي إلى الطمأنينة فالنفس المطمئنة هي المؤمنة مؤمنة في الدنيا آمنة من عذاب الله يوم القيامة

وقال رحمه الله: المسلمون مع الأسف الشديد أكثرهم في غفلة وفي ترفٍ، ينظرون إلى ما يترف به أبدانهم وإن أتلفُوا أديانهم.

وقال رحمه الله: قول الله تعالى: ﴿  {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ }  [المؤمنون: 64]، وتأمَّل هذا مع قوله تعالى: ﴿  {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا }  [الإسراء: 16]، يتبين لك أن للتَّرف عواقبَ وخيمةً، وأن غالب الانحراف إنما يأتي من التَّرف، وأن الذي ينبغي للإنسان أن يتباعد عن التَّرف ما أمكنه، ولستُ أقولُ: لا تتمتعوا بنعم الله، بل تمتعوا بها؛ لكن لا تجعلوها أكبر همِّكم، بحيث يجعل الإنسان نفسه كالمخلوق لهذا الأمر، كما هي حال كثير من الناس اليوم، فإن الناس اليوم عندما يتحدثون تجده يتحدث عن المال وكثرته، وعن الترف والإرفاه والترفيه، والمنتزهات، والألعاب التي أقل ما فيها أن تُلهي الناس عمَّا هو أنفع منها، وربما تُلهيهم عن الأمور الواجبة، وما أشبه ذلك؛ لكن لا تجد إلا النادر من يتحدث بنعمة الإسلام، والقلب إذا انشغل باللهو فسد وصُدَّ عن الله عز وجل، وعن الإقبال عليه، وصُدَّ عن ذكر الله عز وجل.

الاتِّعاظ بمصارع الدنيا:

قال الشيخ رحمه الله: من العجب أن مصارع الدنيا التي وعظت بها بنيها كثيرة، ولكن عن مصارعها عموا...ما أكثر ما نرى من الأغنياء يعودون فقراء، فبينما يتكفف الناس إليهم أيديهم، صاروا يتكففون الناس! فمثل هؤلاء، الموت خير لهم من الحياة؛ لأنهم ذاقوا الذل بعد العز، وكم من إنسان قوي العضلات، في عنفوان شبابه، ونضارة وجهه، أُصيب بحادث أهزله بعد السمن، واغبرَّ وجهُه بعد النضارة، وصار من رآه يرقُّ له، ويحزن عليه، وكم من إنسان بنى وأمَّل، وذهب خياله إلى زمن بعيد ولكنه لم يسكن ما بنى, وكم من إنسان غرس، وحرث، يؤمل أن يستمتع بثمرات ما غرس، وما زرع؛ ولكن يحال بينه وبينه، وخذ من هذه الأمثلة الكثير!

وكم من أناس نحن عَلِمناهم في عصرنا وسمِعنا عنهم فيما سبقنا كانوا كثرة مجتمعين، أخ مع أخيه مع أبنائهم، مع بناتهم، مع أهليهم مجتمعين في بيت، أو في بيوت متقاربة، وعلى أحسن ما يكون من الأنس والفرح والسرور، فإذا بهم يتفرَّقُون بموت أو مصائب أو فقر أو عدو أو غير ذلك، أليس هذا واقعًا؟! بلى واقع وكثير فلماذا لا نتَّعِظ؟! يجب علينا أن نتَّعظ بما تعظ به الدنيا بنيها, ولكن كيف نتعظ؟!ليس الاتِّعاظ معناه أن نبكي إذا ذكرنا هذه الأحوال؛ بل الاتعاظ أن نتخذ منها عبرة وأن هذه الدنيا ليست دار مقرٍّ وليست دار نعيم مقيم وأن الآخرة هي دار المقر وهي دار النعيم المقيم، فنأخذ من هذه الدنيا ما نجعله سُلَّمًا للآخرة، كأنما تقدم الثمن لسلعة منتظرة وحينئذٍ تربح الدنيا والآخرة ولا أحد ألذ وأعم عيشًا وأطيب قلبًا وأهدأ بالًا مثل المؤمن العامل للصالحات ﴿  {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } ﴾[النحل: 97]فيجب أن نلاحظ هذا الأمر

الدنيا ما فيها من صفوٍ لا بدَّ من كدرٍ، فلا تؤثر على الحياة الآخرة:

قال الشيخ رحمه الله: الدنيا ليست خيرًا وليست أبقى، فمتاعها قليل، وما جاء فيها من صفوٍ، فإنه يُكدر، قال الشاعر الحكيم:

فيوم علينا ويـوم لنا = ويوم نُساءُ ويوم نُسرُّ

فلا تكاد تمرُّ عليك عشرةُ أيام صافية بدون كدر؛ بل لا بدَّ من كدرٍ، إمَّا في نفسك، أو أهلك، أو بلدك، ثم مع ذلك لا يدري الإنسانُ في أيِّ ساعة يدعوه الداعي وفي أيِّ لحظةٍ، فكم من إنسان سقطت منهُ اللقمة من يده ومات، وسقط منه، فنجان الشاي ومات، فمن السفه أن نُؤثر الحياة على الحياة الآخرة؛ ولهذا قال تعالى: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}  [الأعلى: 17].

                               كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ