تنظيم الوقت

منذ 2021-02-20

لا تظنَّ أخي أنَّ في الجدّيَّة في تنظيم الوقت والمحافظة عليْه مشقَّة، وأنَّ الجادّين المحافظين على أوقاتِهم لا يستمتِعون بحياتِهم؛ بل الأمر بِخلاف ذلك؛ فأكثَر النَّاس سعادة وأطْيَبُهم عيشًا وأشْرحهم صدرًا هم الجادّون الَّذين صرَفوا أوقاتَهم فيما يقرِّبُهم إلى ربِّهم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفُسِنا وسيئات أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومَن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحْده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71].

أمَّا بعد:
فالوقت هو رأس مال المرءِ؛ فهو حياته، فحياة الواحد منَّا ما هي إلاَّ أيَّام وأسابيع وشهور وسنون، والمرء في هذه الحياة في تجارة مع ربِّه؛ {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [فاطر: 29]، ثمَّ بعد الموت يظهر الرَّابح من الخاسر والكلُّ يندم؛ فالمحسن يودُّ أن لوِ ازداد في عمله، والمفرِّط يندم على تفريطه ويتمنَّى الرجعة للدُّنيا مرَّة ثانية ليستدرك ما فات؛ {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99 - 100].

معاشر الإخوة:
أوقات الفراغ من إجازات أو غيرها أكثرُ النَّاس خاسرٌ فيها، لا ينتفع بها تمام الانتفاع، فلا تكون سببًا في رفْع درجاته أو الحطِّ من سيِّئاته؛ فعنِ ابن عبَّاس - رضِي الله عنْهُما - قال: قال النَّبيُّ - صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم: {نِعْمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من النَّاس: الصحَّة والفراغ} (رواه البخاري).

فأسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يَجعلنا جميعًا ومَن تَحت أيدينا من تلك القلَّة التي أنار الله بصيرتَها، فاستغلَّت أوقات الفراغ في النَّافع من القوْل والعمل.

فمَن يُريد أن يكون من هذه القلَّة، فلا بدَّ أن ينظِّم أوْقات فراغِه ويَجعل لنفسِه أهدافًا يعْمل على تحقيقِها، فنحنُ على أبْواب إجازة والبعْض من المتقاعدين وكبار السِّنِّ في إجازة دائمة، فهلْ وضعْنا لأنفُسِنا أهدافًا لتحقيقِها، ووضعْنا برنامجًا يوميًّا نلتزِم به ننظِّم به أوقاتَنا؟

هل استشعرنا أهميَّة الوقت وأنَّه أنفس ما نملكُه، فهو أنفس من المال:

فَالوَقْتُ أَعْظَمُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ        وَأَرَاهُ  أَسْهَلَ  مَا  عَلَيْكَ  يَضِيعُ

انظروا، الطلاب والطَّالِبات أيَّام الاختِبارات حينما يستشعِرون أهميَّة الوقت، وأنَّ له أثرًا في حياتِهم، يستغلُّون كلَّ لحظة من الوقت، فالواحد في السيَّارة وفي البيْت وفي المدرسة ممسكٌ بكتابِه تارةً، ويُدارس زميلَه تارة أخرى، ويستظْهِر حِفْظَه تارة أخرى.

فلوِ استشْعَرْنا أهميَّة الوقت لمَّا فرَّطْنا فيه، ولستُ أُذيع سرًّا إذا قلت لكم: مِن النَّاس المتقدِّمين والمتأخِّرين مَن يُحافِظ على وقتِه ويستثْمِره كحال الطلاب أيَّام الاختبارات أو أشدَّ، فلننظم لهذا الركب.

مَن ينظم وقته يرى أنَّ الوقت قليل لا يتَّسع لفعل كلِّ ما يريد، أمَّا مَن لا ينظِّم وقتَه تجِدُه في مللٍ يرى أنَّ الفراغ عبءٌ عليْه، يتمنَّى العوْدة للعمل بعد فترة وجيزة من الإجازة لأنَّه لم ينظِّم وقتَه، فهو يتخبَّط في وقتِه ليس له أهداف يوميَّة يسعى لتحقيقِها.

ومن المعاذير التي يعتذِر بها البعض منَّا: أنَّ الواقع الذي يعيشُه يَمنعه من تنظيم وقتِه؛ فالنَّاس سببٌ في ضياع وقتِه، وهذا ليس بصحيح؛ فإذا كان الواحد منَّا جادًّا في وقتِه وعُرِف ذلك عنه، راعى النَّاس ذلك ولم يأْتوا إليْه إلاَّ في الأوقات التي حدَّدها، خُذوا مثلاً: لا يزورُنا أحدٌ في مقارّ أعمالِنا إلاَّ نادرًا؛ لأنَّهم يعلمون أنَّنا في هذا الوقت مشغولون بالعمل لا نرحِّب بزيارتهم، فيحْجمون عن الزيارة.

ولو حصل أن حاولَ أحدٌ أن يخلَّ بتنظيمِك لوقتك فيتعامل مع هذه الحال بِما يناسبها، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص.

ولا تظنَّ أخي أنَّ في الجدّيَّة في تنظيم الوقت والمحافظة عليْه مشقَّة، وأنَّ الجادّين المحافظين على أوقاتِهم لا يستمتِعون بحياتِهم؛ بل الأمر بِخلاف ذلك؛ فأكثَر النَّاس سعادة وأطْيَبُهم عيشًا وأشْرحهم صدرًا هم الجادّون الَّذين صرَفوا أوقاتَهم فيما يقرِّبُهم إلى ربِّهم، فكيف يستوْحِش مَن يخلو بربِّه؟! كيف لا يشعر بالسَّعادة من أتْعَبَ بدنه في خدمةِ سيِّده، وترَكَ شهوتَه رضًا لربِّه، فأخلفه لذَّة العبادة؟! كيف يشعر بالضِّيق مَن يتْلو كتاب ربِّه ويدرس سنَّة نبيِّه؟! الجادُّون استغْنَوا بمخالطة الخاصَّة عن كثرة مخالطة العامَّة، فتجد الواحد منهم بينه وبين أهل العلم السَّابقين ودٌّ ومحبَّة يعرف عنهم أكثر ممَّا يعرفه عن أهل حيِّه.

ليس معنى تنظيم الوقْت أن يحرِم الشَّخص نفسَه من حوائجها أو أن يَمْنَعها ممَّا جُبِلَتْ عليه، فليعط نفسَه حظَّها من الرَّاحة ومن الشَّهوات المباحة، فهذا مدْعاة تجدد نشاطِها وعدمُ فتورها.

ومن تنظيم الوقت أن يُجعَل للأهل وقتٌ، ولصلة الرحم وقتٌ، ولزيارة واستِقْبال المعارف والأصدقاء وقتٌ.

عن أبي جُحيفة قال: آخى النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين سلْمان وأبي الدَّرداء، فزار سلْمان أبا الدَّرداء فرأى أمَّ الدَّرداء متبذِّلة، فقال لها: ما شأنُك؟ قالت: أخوك أبو الدَّرداء ليس له حاجةٌ في الدُّنيا، فجاء أبو الدَّرداء فصنع له طعامًا فقال: كُلْ، قال: فإنِّي صائم، قال: ما أنا بآكِل حتَّى تأكُل، قال: فأكَل، فلمَّا كان اللَّيل ذهب أبو الدَّرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثمَّ ذهب يقوم، فقال: نَم، فلمَّا كان من آخِر اللَّيل، قال سلمان: قم الآن، فصلَّيا، فقال له سلمان: "إنَّ لربِّك عليْك حقًّا، ولنفسك عليْك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه"، فأتى النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فذكر ذلك له، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم: «صدق سلْمان» (رواه البخاري (1968).

جِماع الأمر في تنظيم الوقْت والاستِمْرار عليه أمران:
الأمر الأوَّل: أن يعرف الواحد منَّا نفسَه وطاقتَها، فلا يحمِّلها أكثر ممَّا تُطيق ولا يقْطع عنها عادتها مرَّة واحدة، فهذا مظنَّة الانقطاع وعدم الاستِمْرار، فليس المهمّ: ماذا عمِلْت اليوم بل المهمّ: هل أستطيع الاستِمْرار على هذا العمل؟ وقد نبَّه النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لِهذا الأمر عدَّة من أصحابِه، كعبد الله بن عمرو حينما نَهاه عن كثرة الصيام والقيام، وقال له: (( «فإنَّكَ إذا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْناكَ ونَفِهَتْ نَفْسُكَ [أي: ملَّت وسئِمت العبادة] لِعَيْنِكَ حَقٌّ ولِنَفْسِكَ حَقٌّ وَلأهْلِكَ حَقٌّ، قُمْ ونَمْ، وصُمْ وأفْطِرْ»  (رواه البخاري (1153)، ومسلم (1159).

وقال للحولاء بنت تُوَيْت - وكانت تصلِّي اللَّيْلَ كلَّه ولا تنام-: «خُذوا من العمل ما تُطيقون» (رواه البخاري (1151)، ومسلم (785).

الأمر الثاني: أن تحمِل النَّفس على ما تَميل إليه من أبواب الخير، فلا يمكن أن نطلُب من الناس أن يكونوا عبَّادًا يصومون النَّهار ويقومون الليل، ولا أن نطمح أن نجْعل النَّاس كلّهم علماء، أُنْس الواحد منهم ولذَّته الكتُب، ولا أن نطمح أن نَجعل النَّاس كلّهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، لا يَخافون في الله لومة لائم، وهكذا في بقيَّة أبواب الخير، ومن تجتمع فيهم أكثر خصال الخير هم أقلّ من القليل، ولنا في أصْحاب رسول الله أسوةٌ حسنة؛ فمِنْهُم من برز في الجهاد وقيادة الجيوش، ومنهم من برز في قيادة النَّاس وسياستهم، ومنهم من برز في العلم، ومنهم من برز في العبادة، ومنهم من برز بالزُّهد، ومنهم من برز في الشِّعر والمنافحة عن الإسلام ورسوله، والكلُّ محلّ محبَّة رسول الله وثنائِه عليهم.

وممَّا يَحسن إيراده ما ردَّ به الإمام مالك على أحدِ عبَّاد عصره، حيث أشار عليه بترْك العلم والتعليم والإقْبال على العبادة، قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (7/ 185): [كتب] عبدالله بن عبدالعزيز العمري العابد إلى مالكٍ يحضُّه على الانفراد والعمل، ويرغب به عن الاجتِماع إليه في العلم، فكتب إليه مالكٌ أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - قسم الأعمال كما قسَّم الأرزاق، فرُبَّ رجُلٍ فتح له في الصَّلاة ولم يفتح له في الصَّوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصِّيام، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصَّلاة، ونشْر العلم وتعليمه من أفضل أعمال البرِّ، وقد رضيتُ بما فتح الله لي فيه من ذلِك، وما أظنُّ ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير، ويَجب على كلِّ واحدٍ منَّا أن يرضى بما قُسِم له، والسَّلام.

عباد الله:
إذا كان الأمر كذلك، فليحمل كلُّ واحدٍ منَّا نفسه على باب الخير الَّذي تَميل إليه، ولا يحمِّلها أكثر من طاقتها حتَّى لا تنقطع به في أثْناء سيره إلى ربِّه.

فممَّا يستغلّ فيه وقت الفراغ: الجلوس في المسجِد للذِّكْر، وانتظار الصَّلاة، لاسيما بعد صلاة المغرب وصلاة الفجْر.
وممَّا يستغل به وقت الفراغ: الصيام والقيام.
وممَّا يستغل به وقت الفراغ: السياحة في الأرض، والدَّعوة إلى الله بالكلِمة أو الكتيب أو الشَّريط، وإنكار المنكرات على قدْر الوسْع.
وممَّا يستغل به وقت الفراغ: حفظ القُرآن كله أو بعضه ومراجعة المحفوظ.
وممَّا يستغل به وقت الفراغ: حضور الدّروس العلميَّة ومدارسة العلم وحفظه.
وممَّا يستغل به وقت الفراغ: التعاوُن مع الجهات الخيريَّة التطوعيَّة في الأمور الدعويَّة والإغاثيَّة.
وممَّا يستغل به وقت الفراغ: الاحتِساب على المنكرات لمنْعِها أو التَّقليل منها.
وممَّا يستغل به وقت الفراغ: صلة الأرْحام وزيارة الأصدقاء وأهل الفضْل.
وممَّا يستغل به وقت الفراغ: العمرة وزيارة المدينة مع المحافظة على مَن معه.

أخي، إن عجزت عن أبواب الخيْر، فلا أقلَّ أن لا تعمل ما يضرُّك في آخرتك، ويفسد عليك دينَك ودنياك، فحينما قال أبو ذر: يا رسولَ الله، أرأيت إن ضعُفتُ عن بعض العمل؟ قال له النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم-: «تكفُّ شرَّك عن النَّاس؛ فإنَّها صدقة منك على نفسك»  (رواه البخاري (2518) ومسلم (84).

فلا أقلَّ من أن نكفَّ شرَّنا وشرَّ مَن تحت أيدينا، ونحفظهم من أن يؤذُوا أو يؤذَوا.

____________________________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان