عندما يختم الله على القلوب

منذ 2021-02-21

يقول الله تعالى شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6].

يقول الله تعالى شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6].

هؤلاء لا يتمتَّعون بمزايا التقوى، وليست لديهم أرضية للتقوى كي تزدهر بالهدى، وهم الذين كفروا، ويأبَون الإيمان، وبالتالي لا يكونون خاضعين للهُدى القرآني.

 

الكفر بالنسبة لهؤلاء عملية مُمَنهجة، فقد اتخذوا من الكفر منهاجًا أساسًا لحياتهم، وثبتوا فيه، حتى باتوا في حالٍ يرفضون فيها أي حوارٍ من شأنه أن يُخفِّف من الكفر المترسِّخ في ذواتهم، أو يتزحزحوا عنه قِيدَ أنملة؛ مثل السارق الذي اتخذ من السرقة منهاجًا لمعيشته، فإنه لا يشعر بالظفر إلا إذا سطا على شيء، ولا يسعى إلى اكتشافٍ بمتعةِ قبض الأجر لقاء جهد، بل يمدُّ يد السرقة؛ كمثل الذي اتخذ من الزنا منهاجًا لحياته، فهو يلبث زانيًا مهما تزوَّج، ومهما أنجب من بنينَ وحَفَدة؛ ذلك أن به نظرة الزنا، وهو ينتهج منهج الزنا من خلال أي امرأةٍ يلتقيها، إن كل امرأة بالنسبة إليه هي امرأةٌ يمكن لها أن تخضع للزنا، وما ذلك إلا لأنه ينطلق من نفس موبوءة بلوثة الزنا.

 

ويأتي ذلك على سلوكيات شائنة متعددة؛ مثل: الرياء، والنميمة، والوشاية، والفتنة، والنفاق، إنها علامات من علامات الكفر، وهي تتويجٌ طبيعي لمنهج الكفر، كما أن تلك الخصال الحميدة هي تتويج طبيعي للتقوى المكلَّلة بالهُدى.

 

أخرج ابن المنذر عن السدي في قوله: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6]، قال: (أَوَعظْتَهم أم لم تَعِظْهم).

 

الكفر هو جحود وإنكار، وهو مذموم في جميع الأحوال، حتى بين الناس، وقد جاء في حديث الكسوف أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ورأيت النارَ، فلم أرَ منظرًا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء» قيل: بمَ يا رسول الله؟ قال: «بكفرهن» قيل: أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنتَ إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأتْ منك شيئًا، قالت: ما رأيتُ منك خيرًا قط» (أخرجه البخاري وغيره).

 

سيكون بوسعِك هنا أن تتأمَّل بديع التناسق والتماسك والتكامل في هذه الآيات، ومدى ترابطها مع بعضها البعض، وهذا من شأنه أن يُفكِّك بنية شخصية الكافر، ويقدِّمها إليك.

 

إنه لا يؤمن {بِمَا أُنْزِلَ} [البقرة: 4] إلى النبي صلى الله عليه وسلم، {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ} [البقرة: 4] قبله، وهذا يقودُه إلى عدم يقينه بالآخرة، إنها منطلقات ثابتة ينطلق منها لممارسة سلوك الكفر، وهو بذلك لا يكون {عَلَى هُدًى مِنْ} [البقرة: 5] ربه، ولا تصيبه مكرمات فلاح ربه.

 

ثم يقول تبارك وتعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7].

لكن لِماذا يحدث هذا؟ وكيف يمكن للإنسان أن يبلغ مرحلةً من الكفر لم يعد قابلًا فيها لتلقِّي الإنذار، فيُصبح من ملَّة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]؟

 

هنا يُخبر الله تعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم ببيانِ الآية السابقة التي تثير السؤال، فقد يسأل سائل: لماذا [خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهم]؟

 

الختم هو التوثيق الذي لم تعد الوثيقة قابلة للتغيير بعد وضعه عليها، فذلك ختم الله على قلوبِ الذين يبلغون مراحلَ متقدِّمة من الكفر، وبذلك يبلغ الله تعالى حتى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن أمرَ هؤلاء أصبح مفروغًا منه؛ من كثرة ترسُّخهم في كل أشكال الكفر والشر والنفاق، حتى بيَّن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6]، وهؤلاء ليسوا من الكافرين الذين يُمكِن لهم أن يتوبوا، ويتقبَّل الله توبتهم، بل حتى الشرك يمكن أن يقبل الله توبة التائب منه، لكن هؤلاء بلَغوا مراحل في كل أشكال الكفر، حتى استحقوا أن يختمَ الله على قلوبهم.

 

وفي سورة [التوبة -الآية80] يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80]، فأخبره بأنه لن يَغفِر لهم، ويظهر هؤلاء في سورة [يس: الآية 10] -أيضًا-: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس: 10]، كما يظهرون في سورة [المنافقون: الآية 6]: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون: 6].

 

♦ لذلك قيل بأن الله تعالى قد وصف قلوبَ الكفار بعشرة أوصاف: (بالختم، والطبع، والضيق، والمرض، والرَّيْن، والموت، والقساوة، والانصراف، والحمية، والإنكار):

• فقال في الإنكار: {قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 22].

• وقال في الحمية: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26].

• وقال في الانصراف: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127].

 

• وقال في القساوة: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]، وقال: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 74].

 

• وقال في الموت: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]، وقال: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36].

 

• وقال في الرَّيْن: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].

• وقال في المرض: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [محمد: 29].

• وقال في الضيق: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125].

 

• وقال في الطبع: {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3]، وقال: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155].

• وقال في الختم: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7].

 

يتبيَّن لك هنا بأن هؤلاءِ لم يَعُدْ يحرِّكهم شيء، فإن استمعوا إلى القرآن كان مَثَلهم مَثَل الذي لم يستمع، وإن رأَوا آيات الله في الإنسان والكون، ما حرَّك ذلك في قلوبهم شيئًا؛ لكونهم بلغوا مراحل من الجحود والتغلغل في الكفر، فـ{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7]، وكفرُهم هو الذي أوصَلَهم إلى هذا الختم.

 

روى ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَثَل القلب مَثَل ريشةٍ تُقلِّبها الرياح بفَلاةٍ»، ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم يا مثبِّتَ القلوبِ، ثبِّتْ قلوبَنا على طاعتِك».

 

• ﴿  {وَعَلَى سَمْعِهِمْ}  ﴾ [البقرة: 7]، الختم لا يكتفي بالقلب فحسب، بل يكون على السمع أيضًا؛ لأن السمع يكون قد أصابه عطبٌ، وهذا يؤدِّي إلى عدم الاستجابة لِما يسمع، فالسمع واللا سمع بالنسبة إليه سيَّان؛ لأن السمع مشارك في عملية تلقي الإنذار والتفاعل معه، وهو ركن أساس من الأركان الثلاثة؛ التي هي: (القلب، والسمع، والبصر)، فالختم على القلب وعلى السمع.

 

• أمَّا البصر، فقد بيَّن الله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7]: حجابٌ؛ فلا يرون آيات الله الماثِلة أمام أبصارهم بسبب الـ {غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] التي غدت عليها؛ نتيجة توغُّلهم في دركات الكفر.

 

• {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7]، بذلك فقد استحقوا عذابًا عظيمًا، جرَّاء كل ذاك التاريخ المَقِيت الذي خلَّفوه، وقد ألحقوا الأذى والظلم بأنفسهم، وبمَن تمكنوا منهم، لقد مارسوا الشر والعدوان على الناس؛ ففي الصحيحين وغيرهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شر الناس مَن تركه الناس - أو ودعه الناس - اتِّقاء فُحْشه».

 

إنه العذاب العظيم الذي هو تحصيل حاصل، وهنا تُتيح لك هذه الآية الكريمة تأمُّل ما يعانيه الكافر الذي يمضي وَفْق منهجه الكفري، وما يجنيه المؤمن في منهجه الإيماني، ستنظر إلى شخصين نقيضين:

• أمين، عفيف، صادق، طيب، نقي، جواد، وَفِيٌّ، تقي، مؤتمَن، شاكر، يقف بنورانية هيئته إزاء شخص:

• خائن، زانٍ، كاذب، خبيث، منافق، لص، واشٍ، مغتاب، نمَّام، جاحد.

 

تتأمل علامات النقيض بينهما، كل شيء فيهما يختلف عن الآخر، حتى الصوت الذي يتحدث به الأول، فإنه يختلف عن صوت الثاني، حتى النظرات التي ينظرها، فإنها تختلف عن نظرات الثاني، كذلك الثياب التي يرتديانها؛ حيث تختلف هيئة ثياب الأول عن الثاني، وينسجم كل ثوب مع تركيبة صاحبه، حتى النعل الذي يرتديه كل واحد، فإنه يكون على ذلك.

 

ويأتي ذلك إلى تركيبة الأعضاء وملامح الوجه، التقييم الاجتماعي، المنزلة في الناس، الأعمال.

هكذا، فإن الذي لا دين له، حتى أسنانه تخذله؛ لأنه يهرس بها طعامًا حرامًا، حتى لسانه يخذله؛ لأنه يجري عليه الرياء، كل عضو يسبب له ألمًا واضطرابًا، جزاءً له، حتى وجهه المُطفَأ فيه نورُ الإنسان.

 

إنه كائن فريسة لأعضائه، لوساوس نفسه، لزوجه، لولده، لعُزْلته، لنظراتِ الناس المُزْدَرِيَة إليه.

إنه يمضي في جنبات الحياة وبه ألم عظيم، حتى يخرج من الحياة خروجًا مخزيًا، مخلِّفًا سيرةً مَشينة، ذلك أنه باءَ بغضبٍ مِن الله، فختم على قلبه، وعلى سمعه، وجعل على بصره غشاوة.

 

ويمكن لأي إنسان أن يمضي في هذا النهج، كما يمكن لأي إنسان أن يتجنَّبه: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182]، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94]، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].