اتخاذ العقول أربابا

منذ 2021-02-24

العلم الذي لم يأتي من ميراث الأنبياء ليس بعلم، ولقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الفرقة الناجية هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه..

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخليله وصفوته من عباده نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين.

 

إن في تقديم العقل على النقل في أحكام الله[1]وأوامره وحدوده، لتعظيمٌ لكلام صاحب العقل على كلام الله تعالى، وفي هذا ظلم وإثم عظيم، فإن استحل العقل له حرامًا أحله، وإن حرم له حلالًا حرمه، وإن اعترض عقله أمرًا من أوامر الله، عارضه {قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67]، وإن جاء الأمر بينًا، رغب في المزيد من التبيان {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة: 68]، حينها يكون المرء قد اتخذ العقل ربًّا له، وأصبح دينه هو دين العقل، رأيه هو دليله وهذا ليس من دين الله في شيء، ولو عمل على تقديم النقل على العقل لكان خيرًا له، حينها يكون دليله هو كلام الله وهذا دين الله، وإن عمل بالعقل دون النقل فهذا ليس من دين الله، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].

 

إن الآلهة الباطلة يا عباد الله، قد تتخذ أشكالًا عدَّة قد لا ينتبه لها ولا يشعر بها الإنسان، ومن يتخذها آلهة، فقد مال عن الحق الذي هو التوحيد، وعكف على الباطل، الذي هو الشرك بالله تعالى.

 

إن الشيطان اتخذ سبلا وطرقًا عدة، سواء كانت مرئية أو غير مرئية، محسوسة أو غير محسوسة، ليصد بني آدم عن الإسلام الذي فطره الله عليه؛ {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16].

 

وعن سبرة ابن الفاكه المخزومي، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إنَّ الشَّيطانَ قعدَ لابنِ آدمَ بأطرُقِهِ، فقعدَ لَهُ بطريقِ الإسلامِ، فقالَ: تُسلمُ وتذرُ دينَكَ ودينَ آبائِكَ وآباءِ أبيكَ، فعَصاهُ فأسلمَ[2].

 

فالآلهة الباطلة ليس فقط اتخاذ المسيح إلهًا؛ {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 72]، أو اتخاذ الأصنام آلهة: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [ابراهيم: 35]، أو البشر آلهة، بل قد تتخذ وجهًا آخر لا يحسب الإنسان له الحسبان، ويكون فيما يملكه ويحسبه نعمة وهو نقمة تعود عليه بعواقب وخيمة، والذين يتخذون العقل ربًّا بتقديمه على الوحي، لا يختلفون كثيرًا عن الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا، و أشركوا بالله، حين قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، جاء عدِيُّ بنُ حاتِمٍ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكان قد دان بالنصرانِيَّةِ قبلَ الإسلامِ فلما سمِعَ النبيَّ يقرأُ هذه الآيةَ قال: يا رسولَ اللهِ إِنَّهم لم يعبدوهم. فقال: «بلى إِنَّهم حرَّموا عليهم الحلالَ وأحلُّوا لهم الحرامَ فاتَّبعوهم، فذلِكَ عبادتُهم إيّاهم» وفي روايةٍ أنَّ النبيَّ قال تفسيرًا لهذِهِ الآيةِ: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنَّهم كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلُّوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموهُ»[3] [2]،إن الله واحد أحد، وكلامه واحد، والعقول ما هي إلا أرباب متفرقة للذين قدموها على النقل، {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]. لكن المدهش في الأمر هو أن كثيرًا ممن يقدمون العقل على نصوص الوحي من العقلانيين يحتجون بالآية نفسها [التوبة: 31] ويستدلون بها على أساس أن تقديم العقل والاستغناء عن العلماء الذين يقدمون النقل، يحميهم من الوقوع فيما وقع فيه هؤلاء، في حين أن الآية تتكلم عمن يطيع مَن دون الله في معصية الله، وليس من أطاع العلماء في رضا الله، فطاعة العلماء لا تكون استقلالًا، بل تبعًا لطاعة الله، وطاعة رسوله، فهم لا يُحدِثون قولًا جديدًا أو حكمًا جديدًا في الأمور التي اختلف فيها أهل العلم قديمًا، كما أن شرع الله ثابت لا يتغير مع الزمان ولا مع الحال ولا مع المكان، فالله يعلم ما كان وما سيكون، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. إذ هم ما يبلغون إلا عن علم الله تعالى لكي يكون طالب العلم عابدًا لله على بصيرة بتعليمهم إياهم الكتاب والحكمة وليس أن يكون عابدًا لهم، {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [ال عمران: 79].

 

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف: 110]، و خير دليل على ذلك حديث الرسول صلى الله عليه و سلم حينما قال: «العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر»  رواه الترمذي، وصححه الألباني وذاك فيه إشارة إلى ما يورثونه من العلم، والتقدير عليه والأمر به دون تغيير أي حكم أو إحداث شريعةٍ أخرى، وإن مالوا عن العلم الذي كان عليه النبي محمد خاتم الأنبياء فهم ليسوا بعلماء، {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].

 

لأن العلم الذي لم يأتي من ميراث الأنبياء ليس بعلم، ولقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الفرقة الناجية هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، «... وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً، قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»[4].

 

وقد سُئلَ الامام ابن تيمية عن أحسن طرق التفسير؟ فقال: إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن؛ فما أُجمِل في مكان فإنه قد فُسِّرَ في موضع آخر، وما اختصر من مكان فقد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له.. وإذا لم نجد التفسير في القرآن، ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن.. ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح والعمل الصالح..، وإذا لم تجد التفسير في القرآن، ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين[5].

 

إن العلماء الحق يفسرون القرآن بالقرآن و القرآن بالسنة وتكون أدلتهم وحججهم من كتاب الله وسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم، في حين الذين قدموا العقل على ما كان عليه الرسول وأصحابه، يفسرون القرآن بالعقل وتكون حججهم وأدلتهم ما أوحت لهم عقولهم باسم المنطق، في حين أن العلم والحكمة من العليم الحكيم أحق وأعلى من المنطق، يقول الحارث المحاسبي:

علم العليم وعقل العاقل اختلفا   ***   بــأي مـنهـمـا قــد احـرز الشـرف 

فـالعلـم قـال أنـا أحـرزت غايته   ***   والعقل قال أنا الرحمن بي عرفا 

فأفصح العلم إفصاحًا وقـال له   ***   بـأينـا الله فـي فـرقـانـه اتــصفـا 

فبـان للعقـل أن العلـم سيـــــده   ***   فقـبَّل العقل راس العلم وانصرفا 

 

 

وقال شيخ الاسلام ابن تيمية: إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع؛ لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به، ولا العلم بصدقه موقوف على كل ما يخبر به العقل.

 

و لقد ظهر في زماننا أناس جهلاء سواء كانت تعطى لهم المنابر على الفضائيات أو يعرضون آيات الله على المنتديات والملتقيات ويعطون أراءهم مستندين على العقل ويسلكون أسلوب التشكيك والطعن في الأحاديث الصحيحة وينفرون الناس من كتب التفسير المرغوبة التي تفسر القرآن بالقرآن، وتفسر القرآن بالسنة، بحجة استعمال العقل وتعظيمه في حين ما يحق له أن يعظم هو كلام الله، وسموا صنيعهم هذا تأويلًا وانتقصوا من علم العلماء وتفاسيرهم، إما جهلا بدون قصد أو لتبقى ساحة العلم مفتوحة لأعداء الدين وأهل البدع والضلال، الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وهكذا يتخذ طلاب العلم رؤوسا جهلاء الذين اشتهروا بأنهم أهل التأويل فضلوا كثيرًا وأضلوا، وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون، وإذا قيل لهم اتقوا الله أخذتهم العزة بالإثم.

 

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، كانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ الخَيْرِ، وكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا في جَاهِلِيَّةٍ وشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بهذا الخَيْرِ، فَهلْ بَعْدَ هذا الخَيْرِ مِن شَرٍّ؟ قالَ: «نَعَمْ». قُلتُ: وهلْ بَعْدَ ذلكَ الشَّرِّ مِن خَيْرٍ؟ قالَ: «نَعَمْ، وفيهِ دَخَنٌ» قُلتُ: وما دَخَنُهُ؟ قالَ: «قَوْمٌ يَهْدُونَ بغيرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ منهمْ وتُنْكِرُ» قُلتُ: فَهلْ بَعْدَ ذلكَ الخَيْرِ مِن شَرٍّ؟ قالَ: «نَعَمْ، دُعَاةٌ إلى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَن أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا» قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقالَ: «هُمْ مِن جِلْدَتِنَا، ويَتَكَلَّمُونَ بأَلْسِنَتِنَا» قُلتُ: فَما تَأْمُرُنِي إنْ أَدْرَكَنِي ذلكَ؟ قالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وإمَامَهُمْ» ، قُلتُ: فإنْ لَمْ يَكُنْ لهمْ جَمَاعَةٌ ولَا إمَامٌ؟ قالَ «فَاعْتَزِلْ تِلكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، ولو أَنْ تَعَضَّ بأَصْلِ شَجَرَةٍ، حتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وأَنْتَ علَى ذلكَ» [6].

 

اللهمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدِ كما بارَكتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنكَ حَميدٌ مَجيد.

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصَّافَّاتِ: 180-182].

 


 

[1] الوحي المتصل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويسمى أيضا بالشرع.

 

[2] الألباني (ت 1420)، صحيح النسائي 3134.

 

[3] الألباني (ت 1420)، غاية المرام 6 - حسن- أخرجه الترمذي (3095)، وابن سعد في «الطبقات الكبرى» (289)، والبيهقي (20847) بنحوه - أخرجها الترمذي (3095) صحيح.

 

[4] رواه الترمذي (2641) وحسَّنه ابن العربي في " أحكام القرآن " (3 /432)، والعراقي في "تخريج الإحياء" (3 /284) والألباني في "صحيح الترمذي".

 

[5] ابن تيمية- أحمد بن عبد الحليم - مجموع الفتاوى - تحقيق: أنور الباز، وعامر الجزار، القاهرة- دار الوفاء، - ط2- 1426هـ 2005م -13/ 363-368 بتصرف.

 

[6] الراوي: حذيفة بن اليمان - المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاريالصفحة أو الرقم: 3606 - خلاصة حكم المحدث: [صحيح].

_____________________________

الكاتب: زهراء بنت عبدالله