نسائم الخير
يحتاج المسلم الواعي أن يدير ذاته، ويرتب أولوياته بدقَّة، وتنظيم، بحيث لا ينفرط عقد الوقت من بين أصابعه، دون أن يضرب بسهام الخير في أودية البر والعمل الصالح كلها.
إن المسلم الحصيف الذي استضاء بنور الوحي ينبغي أن يستثمر مواسم الخير، مستحضرًا قول الله تعالى: ﴿ { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} ﴾ (آل عمران: 133- 136)؛ فالآيات الكريمة طالبت أهل الإيمان والتقوى بالمبادرة والمسابقة إلى كل ما يحقق لهم مغفرة الله تعالى، ونَيْل مرضاته، ودخول جنته الواسعة، وهذا يكون بالإقبال على الطاعة، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي. وحينئذٍ يظفرون بجنة لم يُرَ مثلها قط، ثم بينت الآيات الكريمة بعض صفات المتقين الذين يستحقون كل هذا الإنعام، فهم:
- ينفقون في اليسر والعسر، والفرح والحزن، والمنشط والمكره. وقد ابتديء بالإنفاق؛ لأَن الجود بالمال - وبخاصة في حال العسرة والشدة - من أَشقّ الأمور على النفوس. وحذف مفعول {يُنْفِقُونَ}؛ ليعم كل ما يصلح للإنفاق، أو لأَن المراد وصفهم بالإِنفاق، دون نظر إلى ما ينفقون. وعبر بالفعل المضارع {يُنْفِقُونَ}؛ لإفادة التجدد والاستمرار واستحضار الصورة.
- يتحكمون في غضبهم، ويُلزمون أنفسهم الرَّوِيَّة حين تهيج طباعهم عند رؤية ما ينكر. وقد ربط بين الغيظ والغضب؛ لأن الغيظ أصل الغضب. وكثيرًا ما يتلازمان. وعبر بالكاظمين وهو اسم فاعل: لقصد الثبات والاستمرار على ضبط النفس. وفي الحديث الذي رواه معاذ بن أنس –رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: " «مَنْ كَظَمَ غيظًا وهو قادرٌ على أن يُنْفِذَه دعاه اللهُ - عزَّ وجلَّ - على رءوسِ الخلائقِ يومَ القيامةِ حتى يُخَيِّرُه اللهُ مِن الحُورِ ما شاءَ» " (أخرجه أبو داود).
يقول أبو حامد الغزالي – رحمه الله -: "أما الْقُوَّة الغضبية فانها شعلة نَار اقتبست من نَار الله الموقدة الَّتِي تطلع إِلَّا أَنَّهَا لَا تطلع إِلَّا على الأفئدة وانها المستكنة فِي ضمن الْفُؤَاد استكنان النَّار تَحت الرماد، ويستخرجها الْكبر الدفين من قلب كل جَبَّار عنيد كَمَا يسْتَخْرج النَّار من الْحَدِيد، وَقد انْكَشَفَ لأولي الْأَبْصَار بِنور الْيَقِين أَن الانسان ينْزع مِنْهُ عرق إِلَى الشَّيْطَان الرَّجِيم اللعين فَمن استفزته نَار الْغَضَب فقد قويت فِيهِ قرَابَة الشَّيْطَان حَيْثُ قَالَ خلقتين من نَار وخلقته من طين فَإِن شَأْن الطين السّكُون والرقاد وَقبُول الْآثَار وشأن النَّار التلظي والاشتعال وَالْحَرَكَة وَالِاضْطِرَاب والصعود وَعدم قبُول الْآثَار وَمن نتائج الْغَضَب الحقد والحسد وَكثير من أَخْلَاق السوء ومقيضها ومنشؤها مُضْغَة إِذا صلحت صلح بهَا سَائِر الْجَسَد"([1]).
والتحكم في الغضب يخرج من مشكاة قمع الهوى، يقول الرازي (محمد بن زكريا الرازي، ت 313هـ): "إنّ أشرف الأصول وأجلها وأعونها على بلوغ غرض كتابنا هذا قمع الهوى ومخالفة ما يدعو إليه الطباع في أكثر الأحوال وتمرين النفس على ذلك وتدريجها إليه، فإن أول فضل الناس على البهائم هو هذا، أعنى ملكة الإرادة وإطلاق الفعل بعد الروية"([2]).
- يعفون عن المسيء، ويتناسون إساءته. وفي الحديث الذي رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: " «وَمَا زادَ اللهُ عبدًا بِعَفْوٍ إلاَّ عِزًّا» " (رواه مسلم). وجاءَت على اسم الفاعل؛ للدلالة على الثبوت والدوام أيضًا.
- يسارعون إلى التوبة، إذا جنت أيديهم ذنبًا صغيرًا كان أو كبيرًا، ولا يصرون على المعصية، وهذه هي الصفة الرابعة من صفات المتقين، عطفت على ما قبلها، وجاءت جملة: { {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} } متوسطة بين المعطوف والمعطوف عليه، كإشارة إلى ما بينهما من التفاوت في الفضل؛ فإِن درجة الأَولين من التقوى أَعلى، وحظهم أَوفى. ويجوز أن يكون: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} معطوف على { {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} } فكأنه – سبحانه – لما ذكر الصنف الأَعلى من المتقين ذكر من دونهم([3]).
ومادة (التاء، والواو، والباء) في أصل اللغة، كلمة واحدة، تدل على الرجوع. والتوبة: الرجوع عن الذنب. وَقَالَ الأَخفش: التَّوْبُ جَمْعُ تَوْبةٍ مِثْلُ عَزْمةٍ وعَزْمٍ. وتابَ إِلَى اللهِ يَتُوبُ تَوْباً وتَوْبةً ومَتاباً: أَنابَ ورَجَعَ عَنِ المَعْصيةِ إِلَى الطاعةِ، فأَما قَوْلُهُ: تُبْتُ إلَيْكَ، فَتَقَبَّلْ تابَتي، ... وصُمْتُ، رَبِّي، فَتَقَبَّلْ صامَتي
إِنَّمَا أَراد تَوْبَتي وصَوْمَتي فأَبدَلَ الْوَاوَ أَلفاً لضَرْبٍ مِنَ الخِفّة، لأَنّ هَذَا الشِّعْرَ لَيْسَ بمؤَسَّس كُلَّهُ. أَلا تَرَى أَن فِيهَا:
أَدْعُوكَ يَا رَبِّ مِن النارِ، الَّتي ... أَعْدَدْتَ لِلْكُفَّارِ فِي القِيامة
فَجَاءَ بِالَّتِي، وَلَيْسَ فِيهَا أَلف تأْسيس، وتابَ اللهُ عَلَيْهِ: وفَّقَه لَها ورَجل تَوَّابٌ: تائِبٌ إِلَى اللهِ. واللهُ تَوّابٌ: يَتُوبُ علَى عَبْدِه([4]).
ويجتمع الاستغفار والتوبة في كثير من الدعاء، وكان – صلى الله عليه وسلم– يقول: " «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» " (رواه البخاري). وللتوبة شروط تتمثل في: الإقلاع عن الذنب، والندم على الوقوع في ربقة المعصية، والعزيمة على ترك المعاودة، والمسارعة في الخيرات، ومعالجة القلب من رياء السمعة؛ لذا قال تعالى:﴿ {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ويُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ﴾(التحريم: 8).
وقد ذكر القرطبي في تفسيره أقوالاً للعلماء في معنى التوبة النصوح، يقول: "تَوْبَةً نَصُوحًا اخْتَلَفَتْ عِبَارَةُ الْعُلَمَاءِ وَأَرْبَابِ الْقُلُوبِ فِي التَّوْبَةِ النَّصُوحِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ قَوْلًا، فَقِيلَ: هِيَ الَّتِي لا عودة بعدها كمالا يَعُودُ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَرَفَعَهُ مُعَاذٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: النَّصُوحُ الصَّادِقَةُ النَّاصِحَةُ. وَقِيلَ الْخَالِصَةُ، يُقَالُ: نَصَحَ أَيْ أَخْلَصَ لَهُ الْقَوْلَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: النَّصُوحُ أَنْ يُبْغِضَ الذَّنْبَ الَّذِي أَحَبَّهُ وَيَسْتَغْفِرَ مِنْهُ إِذَا ذَكَرَهُ. وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي لَا يَثِقُ بِقَبُولِهَا وَيَكُونُ عَلَى وَجَلٍ مِنْهَا. وَقِيلَ: هِيَ التي لا يحتاج مَعَهَا إِلَى تَوْبَةٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ النَّدَمُ بِالْقَلْبِ، وَالِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ، وَالْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ، وَالِاطْمِئْنَانُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعُودُ ... وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ التَّوْبَةُ الْمَقْبُولَةُ، وَلَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: خَوْفُ أَلَّا تُقْبَلَ، وَرَجَاءُ أَنْ تُقْبَلَ، وَإِدْمَانُ الطَّاعَاتِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: تَوْبَةٌ تَنْصَحُونَ بِهَا أَنْفُسَكُمْ"([5]).
والتائب لا بدّ أن يكون – دائمًا – على ذُكْر لقوله تعالى: ﴿ {إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيمًا، ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ ولا الَذِينَ يَمُوتُونَ وهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ﴾ (النساء: 17، 18).
لا بدّ للعبد الصالح الآيب أن يتحرر من سُكْر الشهوات، وخاصة وهو مقبل على شهر رمضان المبارك؛ حتى يُزكّي نفسه، ويربأ بها عن السقوط في ماخور كبير تتردى فيه البشرية التي "تتآكل إنسانيتها، وتتحلل آدميتها، وهي تلهث وراء الحيوان، ومثيرات الحيوان، لتلحق بعالمه الهابط، والحيوان أنظف وأشرف وأطهر؛ لأنه محكوم بفطرة حازمة لا تتميع، ولا تأسن كما تأسن شهوات الإنسان حين ينفلت من رباط العقيدة، ومن نظام العقيدة، ويرتد إلى الجاهلية التي أنقذه الله منها"([6]).
يقول ابن تيمية (ت 728هـ): "فَإِنَّ السُّكْرَ بِالْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ قَدْ يَصِيرُ مِنْ جِنْسِ السُّكْرِ بِالْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ فَيَصُدُّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَيَمْنَعُ قُلُوبَهُمْ حَلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَفَهْمَ مَعَانِيهِ وَاتِّبَاعَهُ فَيَصِيرُونَ مُضَارِعِينَ لِلَّذِينَ يَشْتَرُونَ لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَيُوقِعُ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ حَتَّى يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَحْوَالِهِ الْفَاسِدَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ. كَمَا يَقْتُلُ الْعَائِنُ مَنْ أَصَابَهُ بِعَيْنِهِ"([7]).
وفي موطن آخر يقول: "وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْفَوَاحِشِ مَرَضٌ فِي الْقَلْبِ فَإِنَّ الشَّهْوَةَ تُوجِبُ السُّكْرَ، ..." ([8]). ويقول ابن قيم الجوزية (ت 751هـ): "وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها لأنها قد صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد لهم منه؛ ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ به عشر معشار التذاذ من يفعله نادرًا في الأحيان غير أن العادة مقتضية ذلك فيلقي نفسه في المهالك لنيل ما تطالبه به العادة"([9]).
ومن جُرْأة أهل الفجور على ربهم – سبحانه وتعالى – تسمية فجورهم بمسميات رائقة تُهوّن سُبل الغواية، يقول ابن قيم الجوزية: "وَإِذَا تَأَمَّلْتَ مَقَالَاتِ أَهْلِ الْبَاطِلِ رَأَيْتَهُمْ قَدْ كَسَوْهَا مِنَ الْعِبَارَاتِ الْمُسْتَحْسَنَةِ مَا يُسْرِعُ إِلَى قَبُولِهِ كُلُّ مَنْ لَيْسَ لَهُ بَصِيرَةٌ نَافِذَةٌ، فَيُسَمُّونَ أُمَّ الْخَبَائِثِ أُمَّ الْأَفْرَاحِ، وَيُسَمُّونَ اللُّقْمَةَ الْمَلْعُونَةَ الَّتِي هِيَ الْحَشِيشَةُ: لُقَيْمَةَ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ الَّتِي تُثِيرُ الْغَرَامَ السَّاكِنَ إِلَى أَشْرَفِ الْأَمَاكِنِ، وَيُسَمُّونَ مَجَالِسَ الْفُجُورِ: الْمَجَالِسَ الطِّبِّيَّةَ"([10]). لذا قال بعض السلف: "إنّ هذه القلوب جوّالة، فمنها ما يجول حول العرش، ومنها ما يجول حول الحُشّ"([11]).
لا بدّ لأصحاب القلوب القاسية، والنفوس التائهة، والعقول الضيقة الحائرة أن يقتفوا هدي الصحابة الكرام في التعامل مع القرآن؛ فقد كان القرآن مرتكزهم ومحور حياتهم، يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى عنه - مبينًا منهج الصحابة في تلقي القرآن: "كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْر آياتٍ لم يجاوزهُنّ حتى يعرف معانيهُنَّ، والعملَ بهنَّ"([12]). وقد كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم – يقيمون ليلهم في الصلاة وقراءة القرآن، وكان لهم دوي كدوي النحل([13]).
ويبين أبو حامد الغزالي أن من مقاصد آيات الكتاب الحكيم هو تعريف العباد بالطريق المستقيم الذي يجب عليهم ملازمته؛ فيقول: "فعُمدَةُ الطريق أمران: الملازمة، والمخالفة؛ الملازمة لِذِكْرِ الله تعالى، والمخالفة لما يشغل عن الله، وهذا هو السفرُ إلى الله، وليس في هذا السفر حركة، لا من جانب المُسافِر، ولا من جانب المُسافَرِ إليه، فإنهما معاً، أَوَمَا سمعتَ قوله تعالى وهو أصدق القائلين {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد}؟بل مثلْ الطالب والمطلوب مثل صورة حاضرة مع مرآة، ولكن ليست تَتَجَلَّى في المرآة لِصَدأ في وجه المرآة، فمتى صَقَلْتَها تجلَّت فيه الصورة، لا بِارتِحَال الصورة إلى المرآة، ولا بحركة المرآة إلى الصورة، ولكن بزوال الحِجَاب، فإن الله تعالى مُتَجَلٍّ بذاته لا يحتفي، إذْ يستحيل اختفاء النور، وبالنور يظهر كلُّ خفاء، والله نور السماوات والأرض، وإنما خفاء النور عن الحَدَقَةِ لأحد أمرَيْنِ: إما لِكُدورَةٍ في الحَدَقَة، وإما لِضَعفٍ فيها، إذْ لا تُطيق احتمالَ النورِ العظيمِ الباهر، كما لا يطُيق نورَ الشمس أبصارُ الخفَافيش، فما عليك إلا أن تُنَقِّي عن عين القلب كُدورَتَه، وتقوِّي حَدَقَته"([14]).
إن الإقبال على القرآن والانتفاع به تلاوة وتدبرًا وعملاً متحقق لأصحاب القلوب الحية، يقول ابن قيم الجوزية: "فَصَاحب الْقلب يجمع بَين قلبه وَبَين مَعَاني الْقُرْآن فيجدها كَأَنَّهَا قد كتبت فِيهِ فَهُوَ يَقْرَأها عَن ظَهْر قَلْب وَمن النَّاس من لَا يكون تامَّ الاستعداد واعي الْقلب كَامِل الْحَيَاة فَيحْتَاج إِلَى شَاهد يميّز لَهُ بَين الْحق وَالْبَاطِل وَلم تبلغ حَيَاة قلبه ونوره وزكاء فطرته مبلغ صَاحب الْقلب الْحَيّ الواعي فطريق حُصُول هدايته أَن يفرغ سَمعه للْكَلَام وَقَلبه لتأمله والتفكير فِيهِ وتعقل مَعَانِيه([15]).
يحتاج المسلم الواعي أن يدير ذاته، ويرتب أولوياته بدقَّة، وتنظيم، بحيث لا ينفرط عقد الوقت من بين أصابعه، دون أن يضرب بسهام الخير في أودية البر والعمل الصالح كلها. يقول ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى -: "السّنة شَجَرَة والشهور فروعها وَالْأَيَّام أَغْصَانهَا والساعات أوراقها، والأنفاس ثَمَرهَا فَمن كَانَت أنفاسه فِي طَاعَة فثمرة شجرته طيبَة وَمن كَانَت فِي مَعْصِيّة فثمرته حنظل وَإِنَّمَا يكون الجداد يَوْم الْمعَاد فَعِنْدَ الجداد يتَبَيَّن حُلْو الثِّمَار من مرّها وَالْإِخْلَاص والتوحيد شَجَرَة فِي الْقلب فروعها الْأَعْمَال وَثَمَرهَا طيب الْحَيَاة فِي الدُّنْيَا وَالنَّعِيم الْمُقِيم فِي الْآخِرَة"([16]).
ومن أمثلة حرص السلف الصالح على أوقاتهم، وتمرّسهم على إدارة ذاتهم بدقة ما ذكره يحيى بنُ مَعِين أنّ يحيى بنُ سعيد القطان ظل عشرين سنة يختم القرآن في كلِّ ليلةٍ([17])([18])؛ لذا قال ابن قيم الجوزية: "فما أشدَّها من حسرة وما أعظمها من غَبْنة على من أفنى أوقاته في طلب العلم، ثم يخرج من الدنيا وما فهم حقائق القرآن، ولا باشر قلبه أسراره ومعانيه! فالله المستعان"([19]).
فاعرفوا "شرف أقداركم، وصونوا جواهركم عن تدنيسها بلؤم الذنوب، فأنتم معرض الفضل على الملائكة، فاحذروا أن تحكم الذنوب إلى حضيض البهائم، فأنتم معرض الفضل على الملائكة، فاحذروا أن تحطكم الذنوب إلى حضيض البهائم! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"([20]).
[1]- معارج القدس في مدارج معرفة النفس، ص 82، ط2، 1972م، دار الآفاق الجديدة – بيروت.
[2]- رسائل فلسفية للرازي، ص20، ط5، 1402هـ - 1982م، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
[4]- انظر: ابن منظور(ت 711هـ): لسان العرب،1/ 233، ط3، 1414هـ، دار صادر – بيروت.
[5]- انظر: الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، 18/ 197، 198، ط2، 1964، دار الكتب المصرية – القاهرة.
[6]- انظر: الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، 18/ 197، 198، ط2، 1964، دار الكتب المصرية – القاهرة.
[7]- مجموع الفتاوى، 11/643، المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، ط 1416هـ، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية.
[8]- مجموع الفتاوى 15/288.
[9]- روضة المحبين ونزهة المشتاقين، ص 470، ط 1403، دار الكتب العلمية، بيروت.
[10]- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ص 78، تحقيق سيد إبراهيم، ط1، 20001م، دار الحديث، القاهرة.
[11]- الجواب الكافي لابن قيم الجوزية، ص 275، ط1، 1429، دار عالم الفوائد - مكة المكرمة.
[12]- جامع البيان، للطبري (ت 310هـ)، 1/80، تحقيق: الشيخ أحمد شاكر، ط2000م، مؤسسة الرسالة - بيروت.
[13]- مناهل العرفان للزرقاني (1367هـ)، 1/241، ط3، د.ت، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه.
[14]- جواهر القرآن، ص 28، 29، تحقيق: د. محمد رشيد رضا القباني، ط1، 1985، دار إحياء العلوم – بيروت.
[15]- الفوائد، ص4، ط2، 1973، دار الكتب العلمية – بيروت.
[16]- الفوائد، ص 164.
[17]- انظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، (ت 463هـ)، تحقيق: د. بشار معروف، 16/203، ط1، 1422هـ - 2002م، دار الغرب الإسلامي – بيروت.
[18]- مسألة ختم القرآن في اليوم مرة فيها خلاف بين أهل العلم، فلعله اجتهد وأخذ بالجواز، وإن كان الصحيح من الحديث نهى عن ختم القرآن في أقل من ثلاث.
[19]- بدائع الفوائد، 1/ 338، علي بن محمّد العمران (إشراف: بَكر بن عَبدِ اللَّهِ أَبُو زَيْد)، ط1، 1425هـ، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة.
[20]- صيد الخاطر لابن الجوزي (ت 597هـ)، ص90، ط1، 1425هـ، دار القلم – دمشق).
ياسر منير
( باحث بالدكتوراه )"مقارنة أديان " - جامعة القاهرة
- التصنيف: