شرح حديث أبي هريرة: إن الدين يسر

منذ 2021-03-27

قال ﷺ: «إنَّ الدِّينَ يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدِّينُ إلَّا غلَبه، فسدِّدوا وقاربوا وأبْشِروا، واستعينوا بالغَدْوةِ والرَّوحَةِ وشيءٍ من الدُّلجَةِ»

عَنْ أبي هُريرةَ - رضْيَ اللهُ عنه - عَنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إنَّ الدِّينَ يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدِّينُ إلَّا غلَبه، فسدِّدوا وقاربوا وأبْشِروا، واستعينوا بالغَدْوةِ والرَّوحَةِ وشيءٍ من الدُّلجَةِ» (رواه البخاري).

 

وفي روايةٍ له: «سدِّدوا وقاربوا اغدُوا ورُوحُوا، وشيءٍ من الدُّلجةِ القَصْدَ القَصْدَ تبلُغوا».

 

قوله: «الدين» هو مرفوعٌ على ما لم يسم فاعله. وروي منصوبًا، وروي: (لن يُشادَّ الدِّينَ أحدٌ) وقولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إلَّا غلَبَه»، أي: غلبَه الدِّينُ، وعجزَ ذلك المشادُّ عن مقاومةِ الدين لكثرةِ طرقِهِ. «والغَدْوةُ» سيرُ أول النَّهارِ، «والرَّوحةُ»: آخرُ النهارِ. «والدُّلجةُ»: آخر الليل. وهذا استعارةُ وتمثيلٍ، ومعناه: استعينوا على طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ بالأعمالِ في وقتِ نشاطِكم وفراغِ قلوبِكم، بحيث تستلذون العبادةَ ولا تسأمون، وتبلغون مقصودَكم، كما أنَّ المسافرَ الحاذق يسيرُ في هذه الأوقاتِ ويستريحُ هو ودابته في غيرها، فيصلُ المقصودَ بغيرِ تعبٍ. والله أعلم.

 

قال العلَّامةُ ابنُ عثيمينَ - رحمه الله -:

ساق المؤلف - رحمه الله - في باب القصد في العبادة حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الدِّينَ يسرٌ» يعني: الدين الذي بعث به الله محمد صلى الله عليه وسلم، والذي يدين به العباد ربهم ويتعبدون له به يسرٌ، كما قال - عزَّ وجلَّ-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال تعالى حين ذكر أمره بالوضوء والغسل من الجنابة والتيمم - عند العدم أو المرض - قال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} [الحج: 78].

 

فالنصوص كلها تدل على أن هذا الدين يسر، وهو كذلك.

 

ولو تفكر الإنسان في العبادات اليومية لوجد الصلاة خمس صلوات ميسرة موزعة في أوقات، يتقدمها الطهر؛ طهر للبدن وطهر للقلب، فيتوضأ الإنسان عند كل صلاة، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، واشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فيطهر بدنه أولًا ثم قلبه بالتوحيد ثانيًا، ثم يصلي.

 

ولو تفكرت أيضًا في الزكاة، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام، تجد أنها سهلة، فأولًا لا تجب إلا في الأموال النامية، أو ما في حكمها، ولا تجب في كل مال، بل في الأموال النامية التي تنمو وتزيد كالتجارة، أو ما في حكمها كالذهب والفضة وإن كان لا يزيد، أما ما يستعمله الإنسان في بيته، وفي مركوبه، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «ليس على المؤمن في عبده ولا فرسه صدقة» جميع أواني البيت وفرش البيت والخدم الذين في البيت، والسيارات وغيرها مما يستعمله الإنسان لخاصة نفسه، فإنه ليس فيه زكاة، فهذا يسر.

 

ثم الزكاة الواجبة يسيرة جدًّا، فهي ربع العشر، يعني واحد من أربعين، وهذا أيضًا يسير، ثم إذا أديت الزكاة فإنها لن تنقص مالك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «ما نقصت صدقةٌ من مالٍ»  بل تجعل فيه البركة وتنميه وتزكيه وتطهره.

 

وانظر إلى الصوم أيضًا، ليس كل السنة ولا نصف السنة ولا ربع السنة، بل شهر واحد من أثنى عشر شهرًا، ومع ذلك فهو ميسَّرٌ، إذا مرضت فأفطر، وإذا سافرت فأفطر، وإذا كنت لا تستطيع الصوم في كل دهرك فأطعم عن كل يومٍ مسكينًا.

 

انظر إلى الحج أيضًا ميسر، قال تعالى: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» [آل عمران: 97] ومن لم يستطع: إن كان غنيًّا بماله أناب من يحج عنه، وإن كان غير غني بماله ولا بدنه سقط عنه الحج.

 

فالحاصل أن الدين يسر، يسر في أصل التشريع، ويسر فيما إذا طرأ ما يوجب الحاجة إلى التيسير، قال النبي - عليه الصلاة والسلام - لعمران بن حصين: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» فالدين يسر.

 

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه» يعني: لن يطلب أحد التشدد في الدين إلا غُلب وهزم، وكلَّ وملَّ وتَعِب، ثم استحسر فترك، هذا معنى قوله: «لن يُشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه» يعني أنك إذا شددت الدين وطلبت الشدة، فسوف يغلبك الدينُ، وسوف تهلِك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «هلك المتنطعون».

 

ثم قال عليه الصلاة والسلام: «فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا»، سدد أي افعل الشيء على وجه السداد والإصابة، فإن لم يتيسر فقارب، ولهذا قال: (وقاربوا)، والواو هنا بمعنى (أو)، يعني سددوا إن أمكن، وإن لم يمكن فالمقاربة. (وأبشروا) يعني أبشروا أنكم إذا سددتم أصبتم، أو قاربتم، فأبشروا بالثواب الجزيل والخير والمعونة من الله عز وجل، وهذا يستعمله النبي عليه الصلاة والسلام كثيرًا يبشر أصحابه بما يسرهم، ولهذا ينبغي للإنسان أن يحرص على إدخال السرور على إخوانه ما استطاع، بالبشارة والبشاشة وغير ذلك.

 

ومن ذلك أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لما حدث أصحابه بأن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك. فيقول: أخرج بعث النار. قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعين»، فاشتد ذلك على الصحابة، وقالوا: يا رسول الله، أيُّنا ذلك الواحد؟ قال: «أبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفًا، ومنكم رجل». ثم قال: «والذي نفسي بيده، إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، [فكبرنا]، فقال: أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، [فكبرنا]، فقال: أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، [فكبرنا]، فقال: ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثورٍ أبيض، أو كشعرةٍ بيضاء في جلد ثور أسود».

 

وهكذا ينبغي للإنسان أن يستعمل البشرى لإخوانه ما استطاع. ولكن أحيانًا يكون الإنذار خيرًا لأخيه المسلم، فقد يكون أخوك المسلم في جانب تفريط في واجب، أو انتهاك لمحرم، فيكون من المصلحة أن تنذره وتخوفه. فالإنسان ينبغي له أن يستعمل الحكمة، ولكن يغلب جانب البشري، فلو جاءك رجل مثلًا وقال: إنه أسرف على نفسه، وفعل معاصي كبيرة، وسأل هل له من توبة؟ فينبغي لك أن تقول: نعم أبشر، إذا تبت تاب الله عليك، فتدخل عليه السرور، وتدخل عليه الأمل حتى لا ييأس من رحمة الله عز وجل.

 

الحاصل أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال: «سددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القَصد تبلغوا»، يعني معناه: استعينوا في أطراف النهار؛ وأوله وآخره، وشيء من الليل «والقصدَ القصدَ تبلغوا» هذا يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يضرب مثلًا للسفر المعنوي بالسفر الحسي، فإن الإنسان المسافر حسًّا ينبغي له أن يكون سيره في أول النهار وفي آخر النهار وفي شيء من الليل، لأن ذلك هو الوقت المريح للراحلة وللمسافر، ويحتمل أنه أراد بذلك أن أول النهار وآخره محل التسبيح، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41، 42]، وكذلك الليل محل للقيام.

 

وعلى كل حال فالرسول - عليه الصلاة والسلام - أمرنا أن لا نجعل أوقاتنا كلها دأبًا في العبادة، لأن ذلك يؤدي إلى الملل والاستحسار والتعب والترك في النهاية. أعانني الله وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

محمد بن صالح العثيمين

كان رحمه الله عضواً في هيئة كبار العلماء وأستاذا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية