رمضان والقرآن..
أنزل الله القرآن من فوق سبع سماوات لنحيا به لنحرّك به واقعنا لنقوم به اعوجاجنا لنجبر به كسرنا لنستدرك به نقصنا ونكمل به ما وقع من خلل في حياتنا
أما بعد فيقول رب العالمين سبحانه {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}
وعند أبى يعلى الموصلي رحمه الله من حديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدرى رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ:-
جَاءَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم فَقَالَ يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي:-
قَالَ عَلَيْكَ بِتَقْوَى الله فَإِنَّهُ جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ وَعليك بِالْجِهَادِ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْكَ بِذِكْرِ الله وَتِلاَوَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الأَرْضِ وَذِكْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ وَأخْزِنْ لِسَانَكَ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ)
أيها الإخوة المؤمنون أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفضل الأوقات التي يطيب فيها الحديث عن القرآن الكريم فى رمضان ..
إذ العلاقة بين رمضان وبين القرآن قوية ووثيقة لا تنفك فى دنيا ولا فى أخرى ..
ثبت فى الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه ..
إذا جاء القرآن يوم القيامة ليشفع لصاحبه لن يأتي وحده ولكنه سيكون رفيق الصيام ..
سيأتيان فيتكلمان مع الرحمن بأفصح لسان الصيام يقول أى رب منعته الطعام والشراب والشهوة فى النهار فشفعني فيه والقرآن يقول أى رب منعته النوم فى الليل فشفعني فيه قال النبي صلى الله عليه وسلم فيشفعان ..
فى رمضان من كل عام كان للنبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن جلسات وحلقات ففي كل ليلة من ليالي رمضان رسول الله صلى الله عليه وسلم على موعد مع أمين السماء يتجالسان ما شاء الله فيقرآن القرآن ويتدارسانه فلرسول الله عند ذلك أجود بالخير من الريح المرسلة ..
من أعظم ما رفع من شأن رمضان وميزه بين الشهور أنه الشهر الذى ابتدئ فيه نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}..
قالت عائشة رضي الله عنها « أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وحبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.. فجاءه الملك فقال اقرأ فقال صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ فقلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال ( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علقٍ اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) .» .
«فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة رضى الله عنها فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر وقال لقد خشيت على نفسي فقالت له خديجة أبشر فوالله ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» ..
انقطع الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا الحادث أياما ثم تتابع بعد ذلك نزوله ليلا ونهارا سفرا وحضرا ليختم نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث وعشرين سنة ..
ويتولى الحكيم العليم بنفسه حفظ القرآن من عبث العابثين ليبقى القرآن هو المعجزة الوحيدة الباقية الخالدة من بين معجزات الأنبياء والرسل قال عز من قائل ( { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} ) ..
حفظ الله تعالى القرآن إلى قيام الساعة ليكون نورا يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
حفظ الله تعالى القرآن إلى قيام الساعة ليكون منهجاً يعصم صاحبه من الزلل ليكون حياةً للقلوب ونوراً للعقول ومطهرا لأعماق القلوب وخفايا النفوس ..
{وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدى الى صراط مستقيم }
حفظ الله تعالى القرآن إلى قيام الساعة ليبقى التحدى بينه وبين من عارضه من الجن والإنس قائما:-
{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً}
حفظ الله تعالى القرآن إلى قيام الساعة ليخترق بنوره القلوب فى مختلف العصور والأزمان وليأخذ القلوب إلى الهدى والإيمان..
فى رمضان من السنة الثانية ..
من هجرة النبى صلى الله عليه وسلم وقعت أحداث غزوة بدر بين مشركى مكة وبين محمد صلى الله عليه وسلم والذين ءامنوا معه يومها كتب الله عز وجل النصر للمسلمين فقتلوا من المشركين سبعين وأسروا منهم سبعين ..
فلما وضعت الحرب أوزارها رجع المشركون إلى مكة وقد أصيبوا فى أعز ما يملكون من الزعماء والقادة والأبناء
ورجع المسلمون إلى المدينة ومعهم من في أيديهم من الأسرى ..
عندها أرسل مشركوا مكة إلى رسول الله وفدا يفاوضه فى فداء الأسرى وكان فيهم جبير بن مطعم وكان من أكابر قريش وعلماء النسب فيها وكان يومها من عبدة اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى لكنه اسلم وحسن إسلامه أتدرون ما الذى أخذ بيديه الى الإيمان ؟
أخذ بيديه إلى الأيمان آيات سمعها من كتاب الله سمعها مباشرة من فم النبي صلى الله عليه وسلم
يقول جبير بن مطعم قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وسمعته يقرأ فى صلاة المغرب من سورة الطور
{وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِن دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
يقول جبير بن مطعم
ثم واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاوته حتى بلغ قول الله تعالى { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون}
يقول جبير بن مطعم فما أن سمعت هذه الآيات إلا وكاد قلبي يطير وكان ذلك أول يوم يدخل فيه الإيمان قلبي ..
حول القرآن على مدار الزمان القلوب من الكفر إلى الإيمان حولها من الجفاء والجهل الى قلوب ألين من الزبد وأنقى من الغمام وأطهر من حمام الحرم..
حول القرآن قلوب اللصوص المجرمين إلى قلوب علماء متميزين وعباد صالحين أحيا القرآن هذه الأمة بعد أن كانت فى عداد الموتى ..
أسمعتم أيها المؤمنون عن الفضيل بن عياض لا شك سمعتم عنه إنه الامام القدوة شيخ الاسلام حجة زمانه وعابد دهره وأشد الناس فى زمانه ورعا وزهدا كان فى شبابه رجلا آخر غير الفضيل الذى تعرفونه ..
أورد الذهبى فى السير :
ان الفضيل بن عياض كان فى شبابه قاطع طريق يخرج على الناس بسلاح فيقذف الفزع والرعب فى قلوبهم ثم يسرق ما معهم من الأموال بلا رادع من خلق ولا دين لكنه فى ليلة من الليالى تاب الى ربه وأناب وكان سبب توبته أن الله تعالى ساق الى مسامعه آية من آيات القرآن وألهمه فهمها
عشق الفضيل جارية فكلمها وعرف دارها وفى ظلمة الليل جاء الى الحى الذى تسكن فيه وجعل يتسلق الجدران ليصل اليها وبينما هو على الجدار سمع رجلا قائما فى ظلمة الليل يصلى ويرتل القرآن ترتيلا ويقرأ
{ ألم يأن للذين أمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} سمعها الفضيل فنزل عن الجدار وهو يقول بلى يا رب قد آن بلى يا رب قد آن ..
رجع الفضيل عن ذنبه فآواه المبيت إلى خيمة فإذا فيها غرباء مسافرون وإذا بهم يقول بعضهم لبعض هيا بنا نرحل فيقول غيره لن نرحل حتى نصبح أنسيتم الفضيل بن عياض إنه على الطريق يقطعه علينا يرهبنا ويأخذ أموالنا
قال الفضيل ففكرت وقلت أنا أسعى بالليل فى معصية الله وقوم من المسلمين هنا يخافونني
ما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع وأتوب اللهم إني قد تبت وأنبت وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام ..
سبحان من يغير ولا يتغير بأية واحدة من القران ألهمه الله فهمها والعمل بما فيها سد الحكيم العليم سبحانه باب المعصية والظلم والغشم ... وفتح عليه باب الطاعة والعلم والعمل
وصدق ربنا لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)
الخطبة الثانية
أما بعد فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم « يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما »
نزل القرآن على النبى محمد صلى الله عليه وسلم فجعل الله تعالى من القرآن سبب هداية ورحمة لجميع الخلائق فتح الله تعالى بهذا القرآن أعيننا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا
فى رمضان من كل عام ينكب الناس على القرآن فيقرأوه ويختموه وهذا من السنة التى كان عليها رسول الله يؤجر العبد على كل حرف من حروف القرآن يقرأه
الحرف بحسنة الحسنة بعشر أمثالها لا تقولوا ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف على قدر ما تقرأ وأقرأ من آيات القرآن على قدر ما تتمايز درجتى ودرجتك فى الجنة
حيث يقال لكل واحد منا اقرأ وارتق ورتل كما كنت تقرأ وترتل فى الدنيا فمن قرأ أكثر كانت درجته أعلى وأشرف
لكن السؤال بعد ما قرأنا وختمنا ماذا عملنا ما هو أثر القرآن علينا ما أثره على طباعنا على أخلاقنا على سلوكياتنا ومعاملاتنا
كيف نقرأ القرآن ونرتل وأحوالنا هى أحوالنا وقلوبنا هى قلوبنا وألسنتنا هى ألسنتنا ؟!!
أنزل الله القرآن من فوق سبع سماوات لنحيا به لنحرّك به واقعنا لنقوم به اعوجاجنا لنجبر به كسرنا لنستدرك به نقصنا ونكمل به ما وقع من خلل في حياتنا
أنزل الله القرآن من فوق سبع سماوات لنجعل منه سدا منيعا وحصنا حصينا بيننا وبين معصية الله عز وجل لتكون آيات القرآن رادعا يردع العين عن النظر الى الحرام رادعا لليد أن تمتد الىالمال العام رادعا للقلب أن يهوى أو يتمنى ما لا يحل له
{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً}
محمد سيد حسين عبد الواحد
إمام وخطيب ومدرس أول.
- التصنيف: