قضية الأقصى قضية كل المسلمين

منذ 2021-05-25

إن قضية الأقصى لا تخص الفلسطينيين فقط، ولا تخص العرب فقط، بل هي تخص كل المسلمين، فلا بد على كل واحد منا أن يشعر بما يجري على أرض فلسطين، وأن يرفع يده بالدعاء الى الله تعالى أن يهيأ لبيت المقدس من ينصره ويخلصه من المغتصبين

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين..

 

أما بعد:

أيها المسلم الكريم: نقف اليوم مع المكان الذي يُشغل بال الكثير من المسلمين في دنيا اليوم، مع المكان الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، وقدّسه وعظمه وكرّمه، مع المكان الذي اهتم به نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام - رضي الله عنهم -، مع أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، مع بيت المقدس، مع المسجد الأقصى، مسرى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .

 

هذه الأرض المباركة التي بُنيت بعد الكعبة المشرفة بأربعين عامًا، فعن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه -، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: « الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْمَسْجِدُ الأَقْصَى»، قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ» .[1].[2]

 

وما ذكـر الله سبحانه وتعالى مسجدًا في القـرآن الكريم إلا المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وجعله شـرفًا لهذه الأمة أن أسري بنبينا محـمد - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحـرام إلى المسجد الأقصى، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }[3].

 

وإن يجري اليوم من ظلم لإخواننا في فلسطين، وما نراه عبر الفضائيات، ومواقع التواصل الاجتماعي من قتلٍ وتشريد، وأسْر وتعذيب، وهدم للبيوت، وانتهاك وتدنيس لمقدساتنا، دفعني لأقف اليوم مع بيت المقدس وأهميته ومكانته في شريعتنا الاسلامية.

 

بيت المقدس هو البيت الذي كان سيدنا صلاح الدين الأيوبي (رحمه الله) يحمل همه، حتى أنه لم يكن يبتسم، وعندما قيل له يا أيها القائد لماذا لا نراك تبتسم؟

 

فيقول (رحمه الله): كيف أبتسم والأقصى أسير؟

والله إني لأستحيي من الله أن أبتسم وإخواني هناك يعذَّبون ويُقتلون"، وكان من كلامه: "كيف يطيب لي الفرح والطعام ولذة المنام، وبيتُ المقدس بأيدي الصليبيين؟"[4].

 

إن بيت المقدس هو المكان الوحيد الذي اجتمع فيه الأنبياء جميعًا، وصلى بهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إمامًا، ومنه بدأ معراج نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى السماوات العلا.

 

بل إن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا بأن: (( فَضْلُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِائَةُ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَفِي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلَاةٍ، وَفِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَمْسُمِائَةِ صَلَاةٍ )).[5] فالذي يصلي في المسجد الأقصى سنة فكأنه صلى خَمْسَمِائَة سنة في تلك البقعة المشرفة.

 

وحدثنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن نبي الله سُلَيْمَان ابْن دَاوُدَ (عليهما السلام) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ ثَلَاثًا: حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ - أي يوافق حكم الله. والمراد التوفيق للصواب في الاجتهاد وفصل الخصومات بين الناس -، وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لَأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَلَّا يَأْتِيَ هَـذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَـوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ )) فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ».[6]

 

ونهى نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن تشدَّ الرحال إلا لثلاثة مساجد فقال - صلى الله عليه وسلم «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى»[7]

 

وبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه الكرام - رضي الله عنهم - بأن بيت المقدس سيفتح، ولا تقوم الساعة حتى يفتح هذا البيت[8]، فتشوقت القلوب إلى ذلك المكان الطاهر.

 

ولذلك جهز النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشًا بقيادة أسامة - رضي الله عنه - ليفتح بيت المقدس، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي قبل أن يفتح البيت، ثم جاء بعده الخليفة الأول سيدنا الصديق - رضي الله عنه - فسيّر الجيوش نحو بيت المقدس ولازالت الدماء تسيل والرقاب تطير حتى توفاه الله قبل فتحه، ثم جاء سيدنا عمر - رضي الله عنه - وتولى خلافة المسلمين، وفي السنة الخامسة عشرة من الهجرة فتح الله على يده بيت المقدس في تلك القصة المشهورة.[9]

 

بيت المقدس هو المكان الذي أذن فيه سيدنا بلال، فبكى سيدنا أبو عبيدة وباقي الصحابة - رضي الله عنه -، أتدري لماذا بكوا أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟

لأنهم عندما دخلوا بيت المقدس تذكروا بشارة نبيهم بفتح بيت المقدس، وتذكروا أن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - قد صلى في هذا المكان امامًا بالأنبياء، وأن هذا البيت هو أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين.[10]

 

هل تدري أيها المسلم كم استشهد من المسلمين في سبيل فتح بيت المقدس؟ هل تدري كم سقط من الشهداء في سبيل ذلك المكان المبارك؟

لقد استشهد من المسلمين أكثر من خمسة عشر ألف شهيد، منهم أكثر من خمسة آلاف من أصحاب سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، كل هذه الدماء التي سالت من أجل بيت المقدس، ومن أجل ذلك المكان الطاهر.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه:

ماذا سنقول غدًا يوم القيامة لو جاء سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي فتح بيت المقدس، وسألنا عن مسرى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -: لماذا أضعتموه؟ لماذا تركتموه؟ لماذا لا تستطيعون الوصول إليه والصلاة فيه؟ ماذا فعلتم من أجل نصرة بيت المقدس؟ فيا ليت شعري ماذا سيكون جوابنا هناك؟

 

أنا أقف اليوم لأقول لكل العالم أن القدس ستبقى عربية رغم كل المتآمرين عليها، وما يفعله الكيان الصهيوني من قصف وهدم وقتل وتشريد وتهجير لإخواننا في فلسطين ما هي إلا خطوة تُغذى فيها العنصرية والتطرف والارهاب.

 

إن قضية الأقصى لا تخص الفلسطينيين فقط، ولا تخص العرب فقط، بل هي تخص كل المسلمين، فلا بد على كل واحد منا أن يشعر بما يجري على أرض فلسطين، وأن يرفع يده بالدعاء الى الله تعالى أن يهيأ لبيت المقدس من ينصره ويخلصه من المغتصبين.

 

ووالله إننا لنرى من وراء هذا الليل الذي طال ظلامه، فجرًا مشرقًا قريبًا قد توهجت أنواره، فالله تعالى يقول تعالى:  {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [11]

 

فلا بد للواحد منا أن يغرس في القلوب التفاؤل بنصر الله، وأن نصره قريب، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ [الغرقد نوع من شجر الشوك معروف ببلاد بيت المقدس]، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ». [12]

 

إن معركتنا مع يهود آخر الزمان معركة إسلامية صرفة لا حزبية فيها ولا قومية؛ لأن الحجر والشجر سينادي: يا مسلم، وليس يا عربي، ولا يا فلسطيني، ولا يا عراقي، ولا يا أردني، ولا يا مصري، ولا يا مغربي، وانما ينادي بوصف واحد وعنوان واحد عرف به: يا مسلم.

 

فإذا أرادت الأمة أن يهيأ الله تعالى لها صلاح الدين الثاني ليقودها نحو تحرير الأقصى، فعليها أن تسير على ما سار عليه صلاح الدين، وصلاح الدين ما أنتصر إلا بصلاح الدين، ولن يعود فينا صلاح الدين من جديد إلا بصلاح ديننا، وصلاح أحوالنا، وصلاح أخلاقنا، وصلاح تعاملنا مع بعضنا، وصلاح بيوتنا، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [13].

 

لَئِـن عَـرَفَ التَّـأرِيخُ أَوسًا وَخَزرَجًـا   ***   فَللـهِ أَوسٌ قَادِمُونَ وَخـزَرَجُ 

وَإِنَّ سُجُوفَ الغَيبِ تُخفِي طَلائِعًـا   ***   مُجَاهِدَةً رَغمَ الزَّعَازِعِ تَخرُجُ 

 

اسأل الله أن يرد الأمة إلى الحق ردًا جميلًا وأن يحفظ القدس وأن يحررها من اليهود الغاصبين وأن يقر أعيننا بنصرة الاسلام والمسلمين وأن يحفظ عراقنا وجميع بلاد المسلمين.. آمين يا رب العالمين.

 


[1] صحيح البخاري، أحاديث الأنبياء – باب: (4/ 177)، برقم (3366)، وصحيح مسلم، كِتَابُ الْمَسَاجِدِ وَمَوَاضِعِ الصَّلَاةَ: (1/ 370)، برقم(520).

[2] المقصود من الحديث الإشارة إلى أول بناء المسجدين، وقد قيل: بناهما جميعا آدم عليه السلام، وقيل: بنى آدم المسجد الحرام، وبنى بعض أبنائه المسجد الأقصى، فكان بين البناءين أربعون سنة، ثم بعد ذلك جدد بناء المسجد الحرام إبراهيم عليه السلام، وجدد بناء المسجد الأقصى سليمان عليه السلام. ابن الجوزي، كشف المشكل من حديث الصحيحين: (1/ 360)، والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن: (4/ 138).

[3] سورة الاسراء: الآية (1).

[4] عيسى القدومي، المسجد الأقصى الحقيقة والتاريخ: (ص54). رابط المادة: http://iswy.co/e13am9

[5] شعب الإيمان، كتاب المناسك- باب فضل الحج والعمرة: (6/ 39)، برقم (3845).

[6] سنن ابن ماجه، أَبْوَابُ إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ وَالسُّنَّةِ فِيهَا - بَابُ مَا جَاءَ فِي الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ: (2/ 414)، برقم (1408)، قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.

[7] صحيح البخاري، كتاب فضل الصلاة فى مسجد مكة والمدينة - باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة: (2/ 76)، برقم (1189)، وصحيح مسلم، كتاب الحج - بَابُ لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: (2/ 1014)، برقم (1397).

[8] عن عَوْف بْن مَالِكٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهْوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَقَالَ: (( اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مَوْتِي ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ مُوتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ ثمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِئَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا ثُمَّ فِتْنَةٌ لاَ يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلاَّ دَخَلَتْهُ ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا)). صحيـح البخـاري، كتـاب الجزية - باب مَا يُحْذَرُ مِنَ الْغَدْرِ: (4/ 124)، برقم (3176).

[9] الواقدي، فتوح الشام: (1/ 227).

[10] الواقدي، فتوح الشام: (1/ 230).

[11] سورة الصف: (8).

[12] صحيح مسلم، كتاب الْفِتَنِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ - بَابُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مَكَانَ الْمَيِّتِ مِنَ الْبَلَاءِ: (4/ 2239)، برقم (2922).

[13] سورة آل عمران: (200).

__________________________________________________
الكاتب: د. محمد جمعة الحلبوسي