فرق شاسع بين من يعتقد ثم يستدل ، ومن يستدل ثم يعتقد !
وإنما بنى معتقده على أصول عقلية ، ثم راح يبحث في النصوص عما يؤيد مقالته .
وأعني بذلك أن كثيرا من الناس يتبنون معتقدا ما لأسباب مختلفة ، ثم يبدأ الواحد منهم في البحث عما يؤيد مقالته أو يثبت صحتها من نصوص الشرع، فيتعسف ويتكلف ، ويلوي أعناق النصوص ، كي يقنع نفسه ، أو يقنع أتباعه بصحة معتقده ، وما أكثر الشواهد على ذلك في القديم والحديث .
ولا تظنن مثلا أن المعتزلي بنى معتقده في نفي رؤية الله في الآخرة على آية " {لا تدركه الأبصار} " أو معتقده في خلق القرآن على آية " الله خالق كل شيء " أو معتقده في خلق أفعال العباد على آية " {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} " وإنما بنى معتقده على أصول عقلية ، ثم راح يبحث في النصوص عما يؤيد مقالته .
وكذلك سوف تجد من يقول إن الإيمان هو التصديق والعمل ليس داخلا في حقيقته ، ويفرق بين الكلام النفسي واللفظي في صفة الكلام لله ، ويقول بنظرية الكسب في أفعال العبد ، وما أشبه ذلك ، ثم يستشهد بما ليس فيه دلالة على المطلوب ولم يكن الدليل الرئيس له مثل قوله تعالى " {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} " أو قوله تعالى " {ويقولون في أنفسهم} " أو قوله تعالى " { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} "
وكذلك الحال سوف تجد من يجوز الرقص في الذكر مستدلا بقوله تعالى " {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} " أو يقول بإسقاط التكاليف مستدلا بقوله تعالى " {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} " أو يفرق بين الحقيقة والشريعة مستدلا بقصة الخضر مع موسى عليه السلام ، أو يقول بنظرية الحقيقة المحمدية ، مستدلا بالحديث المكذوب " أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر " أو يقول باتحاد العبد مع الرب مستدلا بحديث " كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به "
بل ستجد علمانيا يستدل بحديث " أنتم أعلم بأمور دنياكم " ومنكرا للسنة يستدل بآية " ما فرطنا في الكتاب من شيء " وعقلانيا متطرفا يستدل بالآيات الآمرة بالنظر والتفكر وذم من لا يعقلون ، وداعيا إلى وحدة الأديان مستدلا بآية " {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } " ومن يجوز دخول غير المسلم الجنة مستدلا بآية " ورحمتى وسعت كل شيء "
والأدهى من ذلك كله أن مدعيا للنبوة اسمه بيان بن سمعان زعم أنه المقصود بقوله تعالى " هذا بيان للناس "
وإذا فتشت مقالات هؤلاء جميعا ، سوف تجد أن آراءهم بنيت على أصول عقلية ، أو ذوقيات كشفية ، أو أهواء وضلالات ، أو اقتباس من عقائد أجنبية ، ثم بدأ البحث في النصوص عما يؤيدها ، ويروجها بين الأتباع ، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا به .
أحمد قوشتي عبد الرحيم
دكتور بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة
- التصنيف: