النطق

منذ 2021-06-27

النُّطق الحسن هو الدِّعامة الأولى للإلقاء الجيَّد، وإذا اعترى النُّطق ما يفسده، ضاع الإلقاء، فضاعت معه الخطبة وأثَرُها، وفَقَدَ الخطيب ما يَسْمُو إليه من وراء البَيَانِ..

النُّطق الحسن هو الدِّعامة الأولى للإلقاء الجيَّد، وإذا اعترى النُّطق ما يفسده، ضاع الإلقاء، فضاعت معه الخطبة وأثَرُها، وفَقَدَ الخطيب ما يَسْمُو إليه من وراء البَيَانِ، ولا شيء يذهب بالمعنى الجيِّد أكثر من النطق الرديء، وكثيرًا ما يفهم المعنى على غير وجهه؛ لأن النُّطْقَ قَلَبَه، ولم يصوره تصويرًا صادقًا.

والنطق الجيد يحتاج إلى عناصر أربعة لا بُدَّ من توافرها، فإذا فُقِد أحَدُها ذهب أحد أركانه، فاخْتَلَّ بنيانه، وها هي ذي:

1 - تجويد النطق:

بأن يُخرج الحروف من مَخارجها الصحيحة، فلا ينطق الثاءَ سينًا، ولا بالذال زايًا، ولا بالجيم كما ينطق العامة، وهكذا كلُّ مخارج الحروف، فيجب أن يُعْنَى الخطيب بأن يكون الحرف خارجًا من ينبوعه، صادرًا من مَخرجه الذي عُرف عن العربي النُّطقُ به منه، وإنَّ العناية بنطق الحروف نطقًا صحيحًا، وإخراجها من مخارجها ليس معناها أنْ يَتَشادق الإنسان ذلك التشادق الذي يقع فيه بعض المتكلمين[1] أو الخطباء فكَسَوُا النُّطق تكلفًا يثير سُخرية السامعين، أو يثقل القول عليهم، بل معناه أن يَنطق بالحرف من مَخرجه من غير تكلُّف، ولا تشادق، ولا توَعُّر، بل في يُسر، ورفق وسهولة؛ لأن ذلك التشادق يوقع أولئك المتكلمين في نقيض ما يرغبون، فينطقون بالحروف من غير مَخارجها الصحيحة، كبعض الخطباء الذين يدفعهم غُلُوُّهم إلى النطق بالجيم بما يقُارب الشين؛ فرارًا من نطق العامة، فيدفعهم فرارُهم هذا من عَيْبِ العامِّيَّة إلى عَيْب آخر، لا يَقِل عن الأول خروجًا عن جادَّة الفصحى، وقد قال بعض الأدباء: إن التشادق من غير أهل البادية عَيبٌ؛ لأنَّ أهل البادية في الزَّمن الأول كان نطقهم هو الصورة الصحيحة للنطق العربي القويم

2 - مُجانبة اللحن وتحري عدم الوقوع فيه:

يجب أن يُعنَى الخطيب بتصحيح الكلام الذي ينطِق به، وملاحظته في مفرداته وعباراته، فيلاحظ بِنْيَة الكلمات ملاحظةً تامة، فلا ينطق مثلاً بكلمة "سُوقَة" بفتحتين كبعض الخطباء، فيذهب ذلك بروعة القول وبَهائه، ولا ينطق بغير ما توجبه قواعد النحو في آخر الكلمات؛ فإنَّ ذلك يفسد المعنى، وقد يقْلِبه، وليعتبر الخطيب بما روى من أن خارجًا من الخوارج قال في قصيدةٍ هذا البيت:

وَمِنَّا يَزِيدٌ وَالْبَطِينُ وَقَعْنَبٌ ♦♦♦ وَمِنَّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ شَبِيبُ

 

برفع أمير المؤمنين، فَلَمَّا وصل البيت إلى علم عبدالملك بن مروان، طلب قائله وسأله: أنت القائل: ومِنَّا أميرُ المؤمنين شبيب؟ فقال: لم أقل هكذا، ولكني قلت: ومنا أميرَ المؤمنين شبيبُ، وفتح أمير – أي: منا شبيب يا أمير المؤمنين - فأعجب عبدالملك بفطنته، وأخْلَى سبيله، فانظر: كيف كان اختلاف الحركة في آخر الكلمة قالِبًا للمعنى، مُغيِّرًا للمقصد، فالخطيب الذي يقع فيه قد يفسد المعْنَى، بل قد ينقلب المدلول اللفظي لكلامه إلى نقيض المطلوب وعكس المراد، والنُّطْق والخطأ في آخر الكلمات فوق أنَّه قد يُفسد المعنى، يَذْهب برونق الخطبة، وحسن وقْعِها، وجمال تأثيرها، ولا يَظُنَّنَّ الخطيب أن جَوْدة المعنى وإحكامه قد يذهبان ببعض الأخطاء، فإن الهَنَات الصغيرة إذا كثُرت أحدثت تأثيرًا سلبيًّا للخُطبة، وأفسدت تأثير المعنى المحكمة، وإن جمهرة النظارة الآن في مصر ممن لهم إلمام بقواعد النحو، ولهم قُدرة على ملاحظة الأخطاء، وإن لم تكن لبعضهم قدرة على مُجانبتها في خطبهم، بل في كتابتهم أحيانًا، فإن المستمع يلاحظ ما لا يلاحظه الخطيب، ونَظَرَاته إلى المتكلم وكلامِه نظراتٌ فاحصة كاشفة، وإذا أدركوا كثيرًا من الأخطاء ضاع أثرُ الخطبة في نفوسهم.

3 - تصوير النطق للمعاني تصويرًا صادقًا:

بأن يُعطي كلَّ كلمة وكل عبارة حقَّها، ويظهرها بشكل تتميز به عن سواها، فالجملة المؤكَّدَة ينطقها بشكل يَدُلُّ على التوكيد في النغم، والجمل الاستفهاميَّة ينطق بها بشكل يتبيَّن منه الاستفهام، والمراد منه في طريق النُّطق، كما دَلَّ عليه بالأداة الدالة على الاستفهام، وسنتكلم عن هذا بشكل وافٍ عند الكلام عن الصوت.

4 - التمهل في الإلقاء:

وهو ألزم الأمور للخطيب، وليس بصحيح ما يزعمُه بعض الناس من أن الخطيب اللبق هو من يتدفَّق بيانه تدفُّقًا، وتَتَحَدَّرُ عباراته في سرعة، من غير تَمَهُّل؛ فإن ذلك - فيما أرى - عيبٌ يَجِبُ التخلِّي عنه والاحتراز منه:

أ - إذ النطق السريع المتعجل - حيث تجب الأناة - ينتج منه تشويه المخارج، وخلط الحروف بعضها ببعض؛ لأن عَضَلات الفم واللسان لا تأخذ الوقت الكافي للانتقال من لفظ إلى لفظ.

 

ب - والإسراع المُفْرِط يجعل الخطيب يُهمِل الوقوف عند المقاطع الحسنة، والمقاطع لها حسن الأثر كما علمت فيما مضى.

 

ج - والخطيب السريع في نطقه لا يعطي السامعَ الفرصة الكافية لفهم ما يسمع، وتَذَوُّق ما فيه من صقل اللفظ وجودة المعنى، وحسن الخيال، فإذا قرعت أذنَه عبارةٌ قبل أن يذَوقَ ما في الأول من جمال، يعْرُوه التعب، ويسكن قلبه السَّأم، وينصرف عن الإصغاء.

 

د - والتمهل فوق ذلك يجعل الصوت يسري إلى السامعين جميعًا بأيسر مجهود مُتناسب مع المكان والعدد، بينما الإسراع يجعل الكلمات تَحتاجُ إلى مَجهود صوتِي أكبر؛ ليصل الكلام إلى الآذان.

وقد كان النقاد الأقدمون يَعدُّون بحقٍّ من أمارات رباطة جأش الخطيب - التَّمهل في النطق؛ فقد قال أبو هلال العسكري في الصناعتين: "وعلامة سكون الخطيب ورباطة جأشه هدوؤه في كلامه، وتمهلُّه في منطقه، وقال ثمامة: كان جعفر بن يحيى أنطق؛ قد جمع الهدوء والتَّمهُّل، والجزالة والحلاوة، ولو كان في الأرض ناطق يستغني عن الإشارة لكانه"؛ وقبل أن نترك الكلام في هذا المقام نشير إلى نقطتين:

إحداهما: أنَّ الكلام يَجب أن يسودَه التمهل في الجملة لما بيَّنَّا، ولكن يصحُّ أن يتفاوت في الجمل بعضها عن بعض، فالجمل الدَّالة على الفرح والسرور يستحسن أن ينطق بها الخطيب بسرعة نسبيَّة، وكذلك الجمل الدالة على الغَضَب؛ ليكون النطق مصورًا للمعنى الروحي لهاتين الحالتين تمام التصوير.

 

ثانيتهما: ألاَّ يظن ظانٌّ أنَّ التَّمهُّل معناه أنْ يكون النطق هادئًا هدوءًا تامًّا؛ فتعدم الخطبة الحياة والقوَّة، بل يَجب أن يكون في نغمات الصوت ورنَّاته، وملامح الخطيب ونظراته، والتغيير النسبي في التمهُّل والسرعة يعطي الخطبة الحرارة والقوَّة والحياة.

 


[1] كأولئك الذين يعلكون ألسنتهم بالقاف مفخمين النطق بها فيبدو التكلف واضحًا.

_____________________________
الكاتب: الشيخ محمد أبو زهرة