هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الصبيان

منذ 2021-06-29

كان النبي صلى الله عليه وسلم أكملَ الناس خُلُقًا، وقد كان يعاشِرُه الناس على قَدْر عُقُولهم، وقوة إيمانهم، ومِن ذلك معاشرته صلى الله عليه وسلم للصبيان..

كان النبي صلى الله عليه وسلم أكملَ الناس خُلُقًا، وقد كان يعاشِرُه الناس على قَدْر عُقُولهم، وقوة إيمانهم، ومِن ذلك معاشرته صلى الله عليه وسلم للصبيان، وتربيته لهم، فقد كان صلى الله عليه وسلم كما قال الحكم بن معاوية رضي الله عنه حينما أَخْطأ في الصلاة، وكان رجلاً كبيرًا: "بأبي هو وأمي، ما رأيتُ معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كَهَرَني، ولا ضَرَبَني، ولا شَتَمَني"؛ رواه مسلم (537).

فإذا كان هذا هديه صلى الله عليه وسلم مع الكبير، فالصغيرُ كان له الحظُّ الأوفر مِن حُسن التوجيه، ولِين المُعامَلة، فهذا ربيبُه عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه يقول: كنتُ غلامًا في حجْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانتْ يدي تطيش في الصَّحْفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام، سَمِّ الله، وكُل بيمينكَ، وكُل ممَّا يليك»، فما زالتْ تلك طعمتي بعدُ؛ رواه البخاري (5376)، ومسلم (2022).

فأفضل الخَلْقِ لا يأنف أن يأكلَ مع الصبيان مع ابن زوجته، والشخص قد لا يَتَقَذَّر أولادَه؛ لكن قد يتقذر أولاد غيره، وحين رآه أخطأ لم يَتْرُكْه مِن غير توجِيه، ولَمْ يُعَنِّفْه أو يَطْردْه؛ بل سَارَعَ إلى توجيهه إلى أَدَب الأَكْل بِأُسْلوبٍ هادئٍ، بعيدٍ عنِ الغلظة والزَّجْر، فانْتَفَعَ بهذا التوجيه، فقال: "فما زالتْ تلك طعمتي بعدُ"، وانتفعتْ أيضًا الأمَّة بذلك التَّوجيه، فما رأيكم لو زَجَرَهُ النبي صلى الله عليه وسلم أو طَرَدَهُ، أو دعا عليه بكسر اليد، كما يفعل بعض الآباء والأمهات في مثل هذا الموقف، هل حصل هذا الخير له، هل تَعَلَّمَ أَدَب الأكل، هلِ انتفعتِ الأمة مِن بعده بالدُّعاء عليه أو طَرْده؟

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُمازِح الصبيان، ويُدْخِل السرور عليهم ويُكَنِّيهم، وهم صِغار، فعن أبي التَّيَّاح، عن أَنَس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا، وكان لي أخٌ يُقالَ له أبو عمير - قال أبو التَّيَّاح: أحسبه فطيمًا، - وكان إذا جاء قال: «يا أبا عمير ما فعل النُّغَير»، نُغَر كان يلعب به؛ رواه البخاري (6203)، ومسلم (2150).

أين بعضُ المُرَبِّينَ مِن هذا الهَدْي النبوي في التَّعامُل مع الصغار منَ الرحمة بهم، وإدخال السرور عليهم بِمِزاحٍ أو هَديَّة، أو على الأقل بكلمةٍ طيبةٍ، تفتح مغالِق سمعِهم وأبصارِهم، وتجعلهم ينتفعون بِعِلْم مربيهم وسلوكه؟

أين هم مِن تَكْنِيَتِهم بأسماء أبائهم، فهي مِن أحبِّ الأشياء إليهم، البعضُ وهم قِلَّة على النقيض مِن ذلك، يَتَعَمَّد تَلْقيبهم بأشياءَ يأنفون منها ويكرهونها، وربما استمرتْ معهم طوال حياتهم، فكان عليه وِزْرُ هذا اللَّقَب، وَوِزْر مَن عَمِل به.

ومِن هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم توجيه الأولياء؛ للعناية بأمر الصلاة للأولاد وهم صغار، وتعويدهم عليها؛ حتى يشبوا عليها، فإذا بلغوا حد التكليف سهلتْ عليهمُ المحافظة عليها؛ لأنهم تربوا عليها في الصِّغَر، فعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُرُوا أبناءَكم بالصلاة لسبع سنين، واضْرِبوهم عليها لعَشْر سنين، وفَرِّقوا بينهم في المضاجع»؛ رواه الإمام أحمد (6717)، بإسناد حسن.

فوَجَّه الخطابَ للأولياء، وهم مكلفون، ولَمْ يُوَجِّه للصِّغار، فمَنْ لَمْ يَمْتثلِ الأمر في أولاده، ومَن تحت ولايته، ولَمْ يأمُرهم بالصلاة ويُتابعهم فيها، فهو آثِمٌ مُتَعَرِّض للعُقُوبة، ولَمْ يخص النبي صلى الله عليه وسلم صلاة مِن صلاة، فيؤمرون بالصلوات كلها، يُؤَدِّيها الذُّكور في المساجد مع المسلمينَ، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (22/50): يجب على كلِّ مطاعٍ أن يأمرَ مَن يطيعه بالصلاة، حتى الصغار الذين لم يبلغوا، ومَن كان عنده صغيرٌ، يتيمٌ أو ولد، فلم يأمره بالصلاة فإنه يعاقَبُ الكبير إذا لم يأمرِ الصغيرَ، ويُعَزَّرُ الكبير على ذلك تعزيرًا بليغًا؛ لأنه عصى الله ورسوله؛ ا. هـ.

البعض يَتَذَمَّر مِن أبنائه مِن عدم حضورهم للمساجد، وتَرْكهم الجُمَع والجماعات، وفي كثيرٍ منَ الأحيان يكون التَّفريط منَ الولِيِّ، حيث لم يُرَبّهم عليها وهم صغار، فحين بلغوا ولم يألفوا المساجد شق عليهم حضور الجُمَع والجماعات، فأكثرُ الأولاد إنما جاء فسادُهم مِن قِبَل الآباء وإهمالهم لهم، فَأَضَاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كبارًا، كما عاتَبَ بعضهم والده على العقوق، فقال: يا أبتِ إنكَ عَقَقْتَنِي صغيرًا فعققتُكَ كبيرًا، وأَضَعْتَنِي وليدًا فأضعتُكَ شيخًا، فالجزاء من جنس العمل

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقِر حضور الصِّبيان المساجدَ، وربما قطع خطبته صلى الله عليه وسلم لِأَجْلِهم، فعن بريدة رضيَ الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب، إذ أَقْبَلَ الحَسَن والحُسين عليهما السلام عليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل وحملهما، فقال: صَدَقَ الله، {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، «رأيتُ هذينِ يمشيانِ ويعثران في قميصَيْهما، فلم أَصْبِرْ حتى نزلت فحملتهما» رواه النسائي (1585) بإسنادٍ صحيح.

فلم يكن مِن هدي النبي صلى الله عليه وسلم منعُ الصبيان مِن حضور المساجد، فقد كان يحضرهم صلى الله عليه وسلم ويقر حضورهم مع آبائهم وأمهاتهم وهم صغار، ولا شك أنَّ في حُضُورهم مَفْسَدة غالبًا، وهي التشويش على المُصَلِّين بِبُكائِهم ولعبهم، لكن لم يلتفتِ النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المفسدة؛ لأنها مغمورة في جانب مصلحة حضورهم، وهي إِلْف المساجد، والتعوُّد على حضورها، والمحافظة على الصلاة، فعلى الولِيِّ أن يُحْضِرَ أبناءَه المسجدَ، ويعمل ما من شأنه عدم التشويش على المُصَلِّين؛ إمَّا بِجَعْلِهم بجواره في الصَّفِّ، أو تَفَقُّدهم بعد الصلاة، فبعض مساجدنا تشكو مِن تشويش الأبناء على المُصَلِّين، وغَض بعض الآباء الطَّرف عنهم، فلوِ الْتَفَتَ الأبُ ونَظَرَ إلى طرفَيِ الصف، لاسْتَطَاع أن يعرفَ هل لابنه دور في هذا التشويش أو لا؟

 

فكما أنَّ مِن هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم أمرَ الصغارِ بالطاعات؛ ليعتادوا عليه، كان من هديه صلى الله عليه وسلم الواجب تجنيب الصغار الوقوعَ في المُحَرَّمات، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حُرِّمَ لِبَاسُ الحرير والذَّهَب على ذكور أمتي، وَأُحِلَّ لإناثهم»؛ رواه الترمذي (1720) بإسناد صحيح.

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم التحريمَ متعلقًا بالذُّكوريَّة، ولم يجعلْه متعلقًا بالتكليف؛ لكن الأمر متعلق بالأولياء دون الصغار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ الحسن بن علي رضي الله عنه تمرةً مِن تَمْر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كخ كخ، ارم بها، أَمَا علمْتَ أنَّا لا نأكُلُ الصدقةَ» رواه البخاري (1485)، ومسلم (1069).

وحينما يُنْكَر على الصبيِّ إذا وقع في معصية، قد يقول قائل منَ الحاضرين: دعوه، فهذا صغير، غيرُ مكلَّف، ونحو ذلك، وهذا مما لم يَلْتَفِتْ إليه النبي صلى الله عليه وسلم ولَمْ يعتبرْه، فعن أبي الحوراء، قال: قلتُ للحسن بن علي رضي الله عنه ما تَذْكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أَذْكُر مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنِّي أخذتُ تمرةً مِن تَمْر الصَّدَقة، فجعلتها في فيَّ، قال: فَنَزَعَها رسول الله صلى الله عليه وسلم بِلُعَابِهَا فجعلها في التمر، فقيل: يا رسول الله، ما كان عليك من هذه التمرة لهذا الصبي، قال: «وإنَّا آل محمد لا تحل لنا الصَّدَقة»؛ رواه أحمد (1729) بإسناد صحيح.

وعَنِ ابن عمر رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيًّا قد حلق بعض شعره وترك بعضه، فَنَهَاهُم عن ذلك، وقال: «احلقوه كله، أو اتركوه كله» رواه أبو داود (4195) بإسناد صحيح، فنهاهمُ النبي صلى الله عليه وسلم عنِ القَزَع، وهو حَلْق بعض الشَّعْر، وتَرْك بعضه، وَوَجَّه الخطاب للمكلَّفينَ، ولَمْ يعتبرِ النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ هذا الصغير غير مُكَلَّف، فالمعصيةُ معصيةٌ، صدرتْ مِن صغير أم كبير، ومسألة الإثم والعقاب مسألةٌ أخرى.

فيجب علينا معاشر الأولياء أن نُجَنِّبَ أولادنا الوُقُوع في الحرام، وهذا الذي فَهِمَه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعملوا به، فابن مسعود رضي الله عنه أتاه ابن له، وعليه قميصٌ مِن حرير، والغلام مُعْجَب بقميصه، فلمَّا دنا مِن عبدالله رضي الله عنه خرقه، ثم قال: اذهب إلى أمك، فقل لها فلتلبسك قميصًا"؛ رواه عبدالرزاق (19937) بإسناد صحيح.

فَلْيَتَنَبَّه معاشِر الآباء والأُمَّهات إلى هذه المسألة، ولْيُجَنِّبوا أولادهم الذكور والإناث المُحَرَّمَات، فمثلاً: لا يلبس الذكور ملابس الإناث، ولا العكس، ولا تُقَصُّ شعور البنات قَصَّات الذُّكور أوِ الكُفَّار، ولا العكس، ولا يَلْبَس الذَّكَر سلسال ذهب لرضاعته، وقد نَصَّ علماء الأمة في كُتُبِهِم على أنَّه يَجِبُ على الوَلِيِّ أن يُجَنِّبَ الصغير ما كان مُحَرَّمًا على الكبير، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (22/143): ما حُرِّمَ على الرجل فِعْلُه حُرِّمَ عليه أن يمكن منه الصغير، فإنه يأمُرُه بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، ويضربه عليها إذا بلغ عشرًا، فكيف يحل له أن يلبسه المحرمات؛ ا. هـ.

وقال الفَقِيه الحنبلي محمد بن أحمد السَّفاريني في "غذاء الألباب" (ج 1 / ص 361): نَصَّ فُقَهَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْوَلِيِّ تَمْكِينُ الصَّغِيرِ مِنْ لُبْسِ ثَوب حَرِيرِ وَنَحْوِه، وَكَذَا مِنْ فِعْلِ كُلِّ مُحَرَّمٍ؛ ا. هـ، وقال الدُّسوقي الفقيه المالكي في "حاشيته على الشرح الكبير" (1/62): يَحْرُمُ عَلَى الْوَلِيِّ إلْبَاسُ الصَّغِيرِ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ؛ ا. هـ، ونحوه في كُتُب الأحناف والشافعية وغيرهم، فالمقصد الاستشهاد.

___________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان