فوائد من مصنفات العلامة ابن عثيمين: الذكاء والأذكياء
فالذكاء موهبة يمنُّ بها على من شاء من عباده, ينبغي لكل من نال نصيباً منها أن يشكر الله جل جلاله عليها
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فالذكاء موهبة يمنُّ بها على من شاء من عباده, ينبغي لكل من نال نصيباً منها أن يشكر الله جل جلاله عليها, وأن يستعملها في طاعته, لئلا يفقدها, وللعلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله كلام عن الذكاء والأذكياء, مبثوث في مصنفاته جمعتُ بعضاً منه, أسأل الله أن ينفع به.
الاختلاف بين العقل والذكاء:
قال الشيخ رحمه الله: الذكاء شيء، والعقل شيء آخر.
قال رحمه الله: العقل ليس هو الذكاء؛ لأن العقل نتيجته حسن التصرف، وإن لم يكن الإنسان ذكيًّا، لهذا نقول: ليس كل ذكي عاقلًا، ولا كل عاقل ذكيًّا، لكن قد يجتمعان وقد يرتفعان, وقال رحمه الله: العقل ليس هو الذكاء كما قد يتبادر إلى أذهان كثير من الناس، ولكن العقل هو "الرشد في التصرف"، فكلما كان الإنسان أشد رشدًا وتصرفًا كان أعقل، وليس كلما كان أذكى فهو أعقل؛ لأنه قد يكون من الأذكياء مَن هو أبعد الناس عن العقل.
تعريف الذكاء:
قال الشيخ رحمه الله: الذكاء هو سرعة إدراك الأمور وفَهمها، وقال رحمه الله: الذكاء قوة الفِطنة.
الذكاء غزيري ومكتسب:
قال الشيخ رحمه الله: الذكاء غزيري، ومُكتسب، فأما الغريزي فالله تعالى يهبه من يشاء، وأما المُكتسب فهو ما يحصل بفعل الإنسان وممارسته.
الذكاء إذا لم يقترن بالإيمان فقد يكون سببًا للضلال:
قال الشيخ رحمه الله: لاحِظ أنه أحيانًا قد يكون الذكاء المفُرط سببًا للضلال - والعياذ بالله - لأن الرجل الذكي يُورد على نفسه أشياءَ، ويفتح على نفسه أشياءَ؛ مثل: لو كان كذا لكان كذا، ولو كان غافلًا عن هذا، لكان أحسن له، ولهذا ما ضرَّ أصحاب الكلام والمنطق والفلاسفة إلا حدَّةُ ذكائهم.
وقال رحمه الله: وكم من ذكي قاده الذكاء إلى النار - والعياذ بالله - وهذا شيء مُشاهد، الذكاء إذا لم يكن مُقترنًا بعقل وإيمان، فالغالب أن صاحبه يُدمر ويهلك.
ذكي ولكنه ليس بعاقل:
قال الشيخ رحمه الله: هرقل أسلَم، ولكنه كان ذكيًّا - والعياذ بالله - جمع بطارقته وتكلم معهم في الإسلام، فزمجروا وغضبوا غضبًا شديدًا، حتى كادوا يقتلونه، فقال لهم: اسمعوا، لم أجمعكم لهذا، ولكن جمعتكم لأنظر صلابتكم في دينكم، أعوذ بالله، ضنَّ بملكه؛ لأنه كان ذكيًّا، لكنه ليس بعاقل، فهو قد أُوتِي ذكاءً ولكنه لم يعط زكاءً والعياذ بالله، نسأل الله أن يزكي نفوسنا ونفوسكم.
اختبار للذكاء:
قال الشيخ رحمه الله: وهنا اختبار للذكاء: هل أمُّ إبراهيم عليه السلام مؤمنة أو غير مؤمنة؟
والجواب: أنها مؤمنة، والدليل في قول الله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41]، فنهاه الله عن استغفاره لأبيه، وسكت عن استغفاره لأمِّه، إذًا هي مؤمنة.
هل أبوا نُوحٍ عليه السلام أعني أمه وأباه، هل هما مؤمنان أو كافران؟
الجواب: مؤمنان، والدليل على أنهما مؤمنان قول نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [نوح: 28]، مثلُ هذا الاستنباط يحُثُّ طالب العلم على تدبُّر القرآن، والعلم كلُّ العلم في القرآن الكريم، حتى ما بيَّنته السنة من القرآن فهو من القرآن….لكن ما الوسائل التي تُنمي عند الإنسان مَلكةَ الاستنباط؟ الجواب: التكرار والتدبر.
أذكياء
ابن عباس رضي الله عنهما:
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بتُّ في بيت ميمونة ليلة، والنبي صلى الله عليه وسلم عندها، لأنظر كيف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل؛ الحديث، قال الشيخ رحمه الله: كان ابن عباس رضي الله عنهم ذكيًّا عاقلًا حريصًا على العلم.
الحرُّ بن قيس:
عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قدم عيينة بن حفن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحُرِّ بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، فقال عيينة لابن أخيه: يا بن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فتستأذن لي عليه؟ قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن لعيينة، فلما دخل قال: يا بن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل! وما تحكم بيننا بالعدل! فغضب عمر حتى همَّ أن يقع به، فقال الحرُّ: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، كان وقافًا عند كتاب الله.
قال الشيخ رحمه الله: وأما قوله: "وما تحكم بيننا بالعدل"، فقد كذب؛ فإن عمر رضي الله عنه مضربُ المثل في العدل، وهو من أعدل الخلفاء رضي الله عنه، ولهذا حين غضب همَّ أن يقع به، ولكن ابن أخي عيينة كان ذكيًّا حليمًا، فقال: إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }.
امرأة جابر رضي الله عنهما:
دعا جابر رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الخندق إلى طعام صنعته زوجه رضي الله عنها، وقال للرسول: فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: (كم هو؟) فذكرت له، قال: (كثير طيب، قُل لها: لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي، فقال: قوموا)، فقام المهاجرون والأنصار، فدخل جابر على امرأته وقال: ويحك، جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومَن معهم، قالت: هل سألك؟ قُلتُ: نعم.
قال الشيخ رحمه الله: وفي الحديث من الفوائد ذكاء امرأة جابر رضي الله عنها، حين قال لها: "ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار"، فقالت: "هل سألك؟"، يعني: فإن كان سألك فإنه أعلم، ما جاء بهم إلا والطعام سيكفيهم، أما لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم لكانت مشكلة.
ابنة شعيب التي دعت موسى عليه السلام:
قال الله عز وجل: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } [القصص: 25].
قال الشيخ رحمه الله: من فوائد الآية الكريمة: فيها دليل على ذكاء الفتاة، فهي لم تقل: إن أبي يدعوك من أجل أن يوجه إليه التهمة مثلًا، أو من أجل أن يغدر به، أو يطلبه، أو ما أشبه ذلك، لكنها قالت: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} ، وليكون ذلك أدعى إلى إجابة الدعوة.
ملكة سبأ:
قال الله عز وجل: { قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32]؛ قال الشيخ رحمه الله: هذا من كمال ذكائها أنها أشارت الملأ حتى إذا نتج عن تصرفها شيء لا يُرضي، يكونُ اللوم على هؤلاء الملأ الذين أشاروا، ولا يجعلون اللوم عليها.
طائر اللقلق:
قال الشيخ رحمه الله: طائر يوصف بالذكاء والفطنة يأكل الحيَّات.
نملة:
قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]، قال الشيخ رحمه الله: من فوائد الآية الكريمة: فصاحة هذه النملة ونُصحها وذكاؤها؛ لأن الكلام الذي قالته يتضمَّن هذا كله، ومن كمال ذكائها أنها استعملت العبارات المثيرة المزعجة في قولها: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ }، وقال رحمه الله: النمل من أذكى الحشرات.
كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: