الإنترنت
لا بد من الاعتدال في الوقت الذي يُصرف في تصفح الإنترنت؛ فالوقت هو رأس مال المسلم، وسوف يسأل عنه، فليسأل نفسه مَن يقضي الساعات خلف هذه الشاشة: ما الذي استفاده؟ وهل يساوي تضييع الأوقات، إضافة إلى إضاعة المال؟
عالم يعيش ثورةَ اتصالات وتداخل، ففي السابق كان المعوَّل عليه في نشر الأفكارِ المكتوبَ من كتب، وصحف، ونحوها، وكان يمكن التحكم في دخولها؛ أما الآن فيصعب - إن لم يكن مستحيلاً - التحكمُ فيما يقال ويُعرض، ونحن لسنا بمعزلٍ عن هذه الثورة، ومن ذلك الشبكة العنكبوتية، وهي ما يُعرف بالإنترنت، والإنترنت ليس شرًّا محضًا، وليس خيرًا محضًا، فهو كغيره من المستجدات؛ إذا أحسن المستخدمُ استغلالَه انتفع به، فكم من محاضرة أو درس علمي في أحد المساجد، تمكَّن مِن متابعتِها مسلمون في بلاد كثيرة متباعدة، وكم من موقع دعوي يعرِّف بالإسلام ويدعو إليه، كان سببًا في دخول الناس في الإسلام، وكم من رسالة لا تصل إلا بعد مدة وبمال كثير، تصل بعد لحظات من إرسالها، كم من كتاب يبحث عنه طالبُ العلم و لا يجده، ثم يقوم بتحميله من أحد المواقع العلمية، كم من مناظرة أبطلتِ الباطلَ ودحضته، إلى غير ذلك من أبواب الخير، التي يمكن أن ينتفع بها مِن الإنترنت، مع توفير للمال، والوقت، والجهد.
ويمكن أن يكون وسيلةَ هدم، يعود ضرره على الفرد والمجتمع، فقد وَجد فيه مَن طاشت عقولهم، وتأثروا بأعداء الله - متنفسًا لهم لبثِّ سمومهم، فتارة يقعون في دين الله، ويشككون في أحكامه، ويستهزئون به وبحَمَلته تلميحًا وتصريحًا، فيَصفُونهم بالأوصاف الذميمة؛ رجاء أن ينفر الناس منهم، ويلصقون بهم التُّهمَ، ويفترون عليهم الكذبَ، ناسبين لهم ما لم يقولُوه أو يعتقدوه، وهم مع ذلك يعملون جادين لإفساد المرأة وإخراجها من بيتها، داعين إلى نزع مصدر عزِّها، ودليل عفَّتها ونزاهتها – الحجاب - يركبون الصعب والذلول، ويتحججون بالحجج لقيادة المرأة السيارة، وإذا حصل حادث مات فيه عدد من النساء، جعلوا قيادةَ المرأة للسيارة طوقَ النجاة، وعجباً لهؤلاء! أليس يحدث للرجال أضعاف الحوادث؟ هل أدت قيادة الرجل - لا سيما الشباب - للسيارة إلى منع الحوادث؟ هل مشاكلنا كلها حُلَّت، وليس لدينا مشكلة إلا مَن يوصل المرأة إلى مدرستها، وبيتها، والسوق؟ مع أن هذه ليست مشكلة - ولله الحمد - ألستم أنتم الذين تقومون بتوصيل أهليكم إلى المدارس، والمناسبات، والأسواق؟ بلى، وإن وجد مِن النساء مَن لا تجد مَن يوصلها إلى ما تريد بالسيارة، فهي حالة نادرة، والنادر لا حكم له؛ اللهم إلا شخصًا يريد أن يتهرب من المسؤولية، ويرى أن في قيادة المرأة للسيارة مخرجًا، فهذا أمر آخر.
أما الشباب الصالح، فلم يَسلَموا من سهامهم، فينبزونهم بأقبح الألقاب، وإذا حصلت سقطة من أحدهم، وانحراف عن الصراط المستقيم - جعلوا هذا الحكم عامًّا.
وكذلك أماكن العبادة، وحلق تحفيظ القرآن، والأندية الصيفية - لم تَسلَم من كيل التُّهم لها جزافًا، هل تناسى هؤلاء أن هذه الأماكنَ أماكنُ مفتوحةٌ للجميع، وتخضع لإشراف، وليست تعمل في الخفاء، ولا أقول إن العاملين فيها معصومون ولا يقعون في أخطاء، فهم كغيرهم، فالنقد البنَّاء الذي يُراد به الترقي إلى الأفضل - باب، وما يفعله هؤلاء باب آخر.
ناهيك عن القصص المختلقة عن رجال الحِسْبَة، يَكتب هؤلاء تحت أسماء رجال ونساء مستعارة؛ لأنهم يرَوْن أنهم آمنون من أن تُعرف أسماؤهم: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108].
إخواني:
لنعلم أن وجود هؤلاء، وأذاهم للمؤمنين - أمر طبعي؛ فهي سنة كونية قدريَّة، فالرسل منذ مبعثهم لم يخلوا ممن يناصبهم العداءَ، ويزعم أنهم مفسدون في الأرض، ويشكك في نيَّاتهم تارة، ويتَّهمهم في عقولهم تارة أخرى، وكذلك أتباع الرسل مِن بعدهم: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين: 29 - 32].
والواجب على المسلم أن يتقي الله فيما يُحب ويَكرَه، فمن لم يتَّقِ الله في المسلمين، فاتَّقِ الله أنت فيه، فعليه ما حُمِّل وعليكَ ما حملتَ، فلا تتجاوز حدود الله مع هؤلاء، فيبتعد المسلم عن الحكم على هؤلاء بالكفر أو النفاق، ومَن ردَّ عليهم يقول لهم قولاً ليِّنًا، يُظهر فيه النصح لهم، والحرص على هدايتهم، مبيِّنًا بطلانَ قولهم، متجنبًا الكلامَ الفاحش البذيء، فليس المؤمن بالطَّعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء.
أخي الشاب:
حينما تضع أصابعك على لوحة المفاتيح، وتتنقل بين المواقع تَذكَّر قولَه - تعالى -: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، ربما ترى أنك مَتعتَ ناظريك؛ لكن هذه اللذة مؤقتة، وتعقبها حسرات؛ بل تجر إلى الفاحشة، كم من شخص أصبح مدمنًا لهذه المشاهد، لا يستطيع الانفكاك منها.
فمن أطلق نظره دامت حسرته، فأضرُّ شيء على القلب إرسالُ البصر؛ فإنه يريه ما يشتد طلبُه، ولا صبر له عنه، ولا وصول له إليه، وذلك غاية ألمه وعذابه، والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهمُ في الرَّمِيَّة؛ فإن لم تقتلْه جرحتْه، وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كلَّه، أحرقت بعضه، كما قيل:
كُلُّ الحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ لاَ مَرْحَبًا بِسُرُورٍ عَادَ بِالضَّرَرِ
فاجعل الحاسبَ في مكان مفتوحٍ يطَّلع عليه الجميعُ، وإذا رأيت أنه لا بُد من وضعه في غرفة، فتجنب غلقها بالقفل أثناء التصفح.
غرف الدردشة قد تكون وسيلة لمرضى النفوس يصتادون فيها فرائسهم، فلا بد من الحذر حين التعامل معها، وليس كل شخص يلِجُها، فكم من ضحية لها، ومَن له دراية بواقعها يعلم طرفًا من مخازيها.
الإنترنت مجال رحب للإشاعة والقالة بين الناس، ونقل الحديث من أناس لا تُعرف أسماؤهم، فضلاً عن عدالتهم، وهل يريدون الخير بالمسلمين أو الشر؛ بل هل هم مسلمون أو كفار، هل هم أولياء أو أعداء، هل هم من أهل السُّنة أو من المبتدعة.
البعض يتناقل ما يطَّلع عليه في الإنترنت، ويأخذه على أنه من المسلَّمات، ولا شك أن هذا خطأ في طريقة التلقي، وبُعدٌ عن منهج الله، فالمسلم المعروف إذا كان عليه أثر الفسوق، أُمرنا بالتثبت في أقواله، فلا نَقبَلها إلا إذا عرَفنا صِدقه، فكيف بالمجهول؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، ولو ثبت صدقُ الخبر، فليس كلُّ ما يُعرف يقال، ألم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة في "الصحيحين": «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليَقُل خيرًا، أو ليَصمُت».
الإنترنت مجال لضعفاء الإيمان ومرضى النفوس في نشر صور النساء المؤمنات، بعد التقاطها خلسة في مناسبات، ألا يفكر هؤلاء في حجم الضرر الذي أدخلوه على بعض البيوت؟ ألا يخشى مَن يفعل ذلك أن يكون جزاؤه من جنس عمله؟ فعن ابن عمر قال: صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم – المنبرَ، فنادى بصوت رفيع، فقال: «يا معشر مَن أسلم بلسانه ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيِّروهم، ولا تتبعوا عوراتِهم؛ فإنه مَن تتبَّع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومَن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف رحله» (رواه الترمذي بإسناد حسن).
لا بد من الاعتدال في الوقت الذي يُصرف في تصفح الإنترنت؛ فالوقت هو رأس مال المسلم، وسوف يسأل عنه، فليسأل نفسه مَن يقضي الساعات خلف هذه الشاشة: ما الذي استفاده؟ وهل يساوي تضييع الأوقات، إضافة إلى إضاعة المال؟ كان يكفيك دقائقُ لتطلع على ما ترى أنك بحاجة إلى الاطِّلاع عليه، وباقي الوقت اصرفْه فيما يعود عليك بالنفع في دينك أو دنياك، فليكن لدينا انتقائيةٌ لمواقع علمية وإخبارية، ولنبتعد عن مواقع القيل والقال، إلا لمن كان في دخوله مصلحة راجحة.
لا بد من التربية الإيمانية للأولاد، وخوفهم من الله، وأن يتركوا ما لا يرضي الله بدافع داخلي، فالرقيب يغفُل، وحجب المواقع يمكن أن يُتحايل عليه، مع وجوب الإشراف على هذه الأجهزة، والاطِّلاع على محتواها بين فترة وأخرى.
_______________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان
- التصنيف: