لماذا لم يطبق اليهود القتل الجماعي خلال الغزوات النبوية؟

منذ 2021-07-08

عادة اقتصرت على اليهود ممارستُها؛ فلا توجد دلائل على ممارسة غير اليهود للقتل الجماعي، لا قبل الميلاد ولا بعده. اشتهر اليهود بممارسة عادة مذمومة، يُتهم من يمارسها بالجبن الـمَرَضي الذي لا علاج له. ولعل هذا الجبن من حرصهم الشديد على الحياة

القتل الجماعي: عادة اقتصرت على اليهود ممارستُها؛ فلا توجد دلائل على ممارسة غير اليهود للقتل الجماعي، لا قبل الميلاد ولا بعده. اشتهر اليهود بممارسة عادة مذمومة، يُتهم من يمارسها بالجبن الـمَرَضي الذي لا علاج له. ولعل هذا الجبن من حرصهم الشديد على الحياة، قال الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]، نعم أحرص الناس على حياة، لا يهم نوع الحيـاة التي يحياها اليهودي، المهم أن يحيا، سواء عاش عبداً أو أحقر من عبد، والاستدلالات التاريخية كثيرة؛ فعلى سبيل المثال حياتهم مع الفراعنة قال تعالى: {وَإذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]، مارس الفراعنة فيهم تذبيح للأبناء واستحياء النساء، فضلاً عن السبي البابلي، ولم تكن حياتهم في السبي البابلي بأحسن حالاً من حياتهم تحت الفراعنة.

يمارسون عادة القتل الجماعي عندما يشتد عليهم الحصار ويتأكدون بأن العدو لن يتركهم يعيشون كما عاشوا تحت الفراعنة، أو في السبي البابلي، منطقياً كان عليهم أن يخـرجوا ويواجهوا مصيرهم بشجاعة، فالشجاعة تحقق المعجزات، إلا أنه ليست لديهم الشجاعة؛ وفاقد الشيء لا يعطيه، لأن الشجاعة والجبن لا يجتمعان في النفس، فضلاً عن حالة، والجبن متأصل، كما قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: ٢٢]. ترسخ الجبن في النفس اليهودية لدرجة التصريح به علانية دون حرج وإن كان ذلك في صحبة نبي من أولي العزم. وتدبَّر الإصرار بالنفي في قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] إنه تأكيد على ترسُّخ الجبن المشين؛ إذ لا يؤمنون بقتال إلا القتال الاقتصادي وسياسة إفقار الجار، ولها مقال لاحق إن شاء الله تعالى.

لذا يقومون بممارسة أسوأ عادة إذ لم توجـد إلا في أسوأ أمة أو أحقر جماعة بشرية، بدلاً من مواجهة العدو والموت في شرف النزال، يقتلون أزواجهم وأطفالهم ثم يقتلون أنفسهم، ويجبنون عن مواجهة العدو، وتلك أسوأ عادة لأنهم يقومون بما ينبغي أن يقوم به العدو، فكأنهم يعينون العدو في مهمته، ويوفرون عليه جهده.

وبالرصد والمتابعة تبيَّن أن هذه العادة متأصلة، وتصدق هذه الفرضية استدلالات كثيرة وتؤكد صحتها، ويكفي دليلاً عليها، أنه عندما تمرد اليهود على الرومان اتفق كل اليهود بأنهم سيقومون بالتمرد ضد الرومان، غير أن اليهود خذلوا اليهود، فلم يتمرد سوى 960 منهم وتحصنوا في حصن مسعدة[1].

 لقد سار الحاكم الروماني فلافيوس سيلفا إلى قلعة مسعدة على رأس الفرقة العاشرة وبعض السرايا المساعدة، واستمر الحصار ثلاثة أشهر، وعندما أصروا على فتحه، ونصبوا عليه المجانيق وأبراج الحصـار، وبدا واضحاً أن الحصن سيسقط لا محالة، مارس المحاصَرون عادتهم في القلعة بشكل جماعي؛ ففي ليلة واحـدة، تلك الليلـة التي ظنوا بأنها ليلتهم الأخيرة، بدأ إليعـازر بن يائيـر يقنـع أتباعـه بأن يمارسوا القتل الجماعي، وحثَّهـم على القتل الجماعي بدلاً من المقاومة حتى الموت، قام اليهود بقتل زوجاتهم وأولادهم، ثم قتلوا أنفسهم، قُتل 960 رجلاً وامرأة وطفلاً، وأحرقوا الأبنية ومخازن الأغذية، وقتل بعضهم بعضاً وهكذا حتى قتلوا جميعاً[2]. سقطت القلعة في سنة 73م، وعلى الرغم من الحظر الديني على قتل أنفسهم وقتل بعضهم بعضاً في الديانة اليهودية إلا أنهم خالفوا الحالات التي يسمح لليهودي فيها بقتل نفسه طبقاً للديانة اليهودية.

 القتل الجماعي صار أيديولوجية محرفة تضاف لتحريفاتهم:

واستمروا في ممارسة العادة المشينة، وفي القرن الماضي، عندما أرهقوا الإنجليز بالديون والتسلط، قام الإنجليز بحصار الجالية اليهودية في يورك في 16 مارس 1190م، لم يكن أمامهم إلا خيار من اثنين: إما اعتناق النصرانية المعمودية أو الموت على أيدي المحاصِرين، فلـم يختاروا خياراً من الخيارين... بل مارسوا عادتهم المشينة عندما اشتد عليهم الحصار؛ إذ أمرهم الحاخام يومتوب بإشعال النار في الأشياء الثمينة من ذهب وفضة وثياب وسجاد وأحذية[3]، ثم قاموا بقتل زوجاتهم وأطفالهم، ثم قتلوا أنفسهم[4]، رفض عدد قليل من اليهود الانتحار الجماعي « The mass suicide»، مصيرهم لم يكن أفضل؛ فبعد تردُّد يسير تراجعوا واندفعوا بأنفسهم في النار[5].

 وعندما استعد الصليبيون للحملة الصليبية الثالثة، أجبرت الاستفزازات اليهودية الصليبيين على ممارسة الانتهاكات المعادية حتى اضطروهم للتحصن ببرج كليفورد هم وزوجاتهم وأطفالهم، وحاصر الصليبيون البرج مطالبين بأن يعتنـق اليهود النصرانية وأن يتم تعميدهم، وظلوا يحاصرون القلعة، حتى يئس اليهود من شدة الحصار، نصح الحاخام اليهود بممارسة عادتهم المتأصلة، فقاموا بممارسة القتل الجماعي، وبدأ يوسيس بقتل زوجته آنا وطفليه، ثم قُتل على يد يومتوف، وقام رب كل أسرة بقتل زوجته وأطفاله، وقبل أن يقوم يومتوف وخوسيه بإضرام النار في الحطب، قتلوا أنفسهم، وعدد قليل جداً من اليهود لم يقتلوا أنفسهم، فماتوا رعباً[6].

إنها عادة متأصلة، فقد حدث القتل الجماعي في ماينتس، وفي ريغنسبورج، على سبيل المثال قتلت أم أبناءها وقتل الزوج زوجته، ثم قتل نفسه، أدت هذه الاقتتالات الجماعية المترسخة إلى اتهام اليهود بممارسة طقوس القتل الجماعي[7]، وليت الأمر يقف عند حدِّ الاتهام لهان الخطب.

 ويبقى السؤال الرئيس: لماذا لم تمارَس عادة القتل الجماعي أثناء حصار بني قينقاع، ولا في حصار بني النضير، ولا عشية الحكم على قريظة؟

في حصار بني قينقاع:

شجعت الاشتباكات الدائرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعض اليهود وأثارتهم على اختبار (الخطوط الحمراء)، اختبارات متنوعة بداية ببني قينقاع ومروراً ببني النضير وانتهاءً ببني قريظة وخيبر، اختبارات صاحَبَها تضخم الآلة الإعلامية، اتسعت دائرة العداء والاستعداء ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم  بعد انتصاره الكبير في غزوة بدر، حتى داخل المدينة التي تعتبر منطقة خضراء في مجملها باعتبار التمسك باتفاقية المعاهدة، لم يستطع بنو قينقاع أن يكتموا الشر والعداوة، وهم يرون التغيرات القـوية الواضحة في المدينة، تؤكد صعود قوة رسول الله صلى الله عليه وسلم  السريع وبداية هبوط نفوذ اليهود السريع، جاهروا بالعداوة متجاهلين دستور المدينة، كانوا صاغة، وحـدادين، وعدد مقاتليهم سبعمئة مقاتل، وعندما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم  في سوق بني قينقاع، فوعظهم، وحذرهم مغبة البغي والعدوان؛ قالوا: «يا محمد! لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش، كانوا أغمـاراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلقَ مثلنا»[8]. فأنزل الله تعـالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْـمِهَادُ 12 قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 12 - 13]. «إنك لو قاتلتنا لعرفت أنَّا نحن الناس، وأنك لم تلقَ مثلنا» إعلان سافر بالحرب، وتحدٍّ يثير باختباره، وسخرية مستفزة، ومع ذلك كظم رسول الله صلى الله عليه وسلم  غيظه، وصبر، وفهموا بغرورهم بأن صبره عليهم خوف منهم، فتمادوا.

وكما يقال إن التركيز على الردع بالتهديد (العقاب)، ليس كالدفاع المباشر عن الالتزام المتنازع عليه، بل بالأحرى التهديدات بعقاب أوسع من شأنها أن ترفع التكلفة بالهجوم، وتشير معظم الدراسات الكلاسيكية إلى أن إستراتيجيات الإنكار هي بطبيعتها أكثر موثوقية من إستراتيجيات العقاب[9].

قدمت امرأة من المسلمين بجَلَب لها فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فأرادوا أن تكشف عن وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها وهي غافلة، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتلـه، فشدت اليهـود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع[10].

لم يُخرِجوا من قاموا بقتل الرجل المسلم، إنه اختبار على المحك، فاضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى مواجهتهم، وخانوا وعـدهم الـذي تطـاولوا به: «لو قاتلتنا لعرفت أنَّا نحن الناس، وأنك لم تلقَ مثلنا»، فتحصنوا في حصونهم، استمر الحصار عليهم خمسة عشر يوماً، توقعوا أن يحصلوا على دعم، خذلهم حتى مواليهم، كان عليهم أن يمارسوا عادتهم القبيحة، لم يفعلوا لأن وعد الله معجزة {سَتُغْلَبُونَ}، فأعلنوا الهزيمة والاستسلام غير المشروط، معجزة تكرمة لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم .

أوضح رونن بيرجمان بالتفصيل تاريخ وحجم استخدام القتل المستهدف (الاغتيالات) خارج نطاق القضاء أداةً للدفاع والسياسة الخارجية لبرامج القتل المستهدف، بصور تقشعر لها الأبدان لتطور برنامج الاغتيال، الذي قام باغتيال عدد كبير، وقد تبنَّت العديد من الأساليب في أكثر من دولة متقدمة، وكتابه «انهض واقتل أولاً»، المستوحى من التلمود[11] والمبدأ الذي يقول: «إذا جاء شخص مَّا ليقتلك، انهض وأقتله أولاً»[12]، وكررها كثيراً ليؤكد على فاعليتها في كتابه[13] وكرر مراراً بأن الاغتيال «القتل المستهدف» ليس شيئاً سيئاً، تبرز أهميته عندما يكون هدف الردع في الأهمية هدفاً استباقياً[14]، وبالغ عندما أكد أن الاغتيالات تحقق ردعاً قاطعاً واضحاً[15]. فقد قام باحثان فرنسيان بدراسة تأثير الاغتيالات على مجرى التاريخ، وبعد فحص نصف قرن من الاغتيالات السياسية خلصا إلى أنها لا تغيِّر مجرى التاريخ[16].

غزوَة بني النضير (ربيع الأول 3هـ):

«من رؤية ردعية لا يمكن أن تتأخر غزوة بني النضير إلى سنة عن موعدها، لأن ذلك يدلل علـى تباطؤ وتراخٍ لا يُقبَل ردعياً ولا منطقيّاً في إدارة الصراع، لأن الصراع مع اليهود في توتر وتصاعد على المحك، فضلاً عن اشتباك أطراف كثيرة مع المدينة يغري اليهود بتسريع الاختبار، وعلينا أن نتبع كلَّ من ذكر بأنها حدثت بعد بدر بستة أشهر[17]، من المنطقي أن تأتيَ كاختبار يهودي بعد التجربة الأولى بستة أشهر: «ثلاثة أشهر يتجاوزون بها صدمة بني قينقاع نفسياً، وثلاثة أشهر كافية للوصول إلى رأي ولاختباره عملياً، أما أن تتأخر لسنة ونصف فهذا لا يُقبَل صراعيّاً ولا ردعيّاً، لأنه يدلل على تباطؤ غير منطقي وغير مبرَّر في سياق الصراع المتصاعد، في ظل ازدياد توتر يتصاعد ولا يهدأ، فضلاً عن أن الوقت ليس في صالحهم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم  كل يوم يزداد قوة ومكانة ويكسب أعداداً ويكتسب هيبة تضاف إلى رصيد ردع تكوَّن وبدأ يتراكم[18]».

لم يعتبر بنو النضير ببني قينقاع، فكَّروا في اختبار آخر، لعله ينجح في ظل اشتباكات دموية خطيرة ومتنوعة تجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم  وتستنزف قوَّته، وقد شجع اشتباك قريش وعرب وأعراب المنطقة الرمادية حول المدينة بني النضير على اختبار تجربة حاسمة طالما أتقنوها، من الخطأ أن يكرروا محاولة بني قينقاع، يعلمـون ذلك، راجعوا تاريخهم، ودققوا وتحمسوا فتشجعوا، حتى سولت لهم أنفسهم أن يمارسوا ما اعتادوا عليه مع الأنبياء على سبيل المثال قتل النبي زكريا[19] عليه السلام، وهي ممارسات مرسخة تاريخياً ومحاولة اغتيال المسيح عليه السلام ما زالت ترن، وتلح، ولو تناقشت مع أمريكي، لا يستبعد عملية الاغتيال، وربما يذكرك بما فعله (فوضويو هايماركت)[20].

لقد خططوا خطة ماكرة لاستدراج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من الردع منطقية لصعوبة مواجهته قتالياً، ويأبى الصراع إلا الاغتيال، ولا يستبعد ردعياً أن الفكرة قبلت، وأن محاولات كثيرة دُرسَت لاستدراجه صلى الله عليه وسلم. قبل المحاولة التي سجلها الرواة، أورد رواية الاغتيال هذه ابن مردويه بإسناد صحيح «عَنْ رَجُل مِنْ أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم  قَالَ:... فَأَرْسَلُوا إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم : اُخْرُجْ إِلَيْنَا فِي ثَلَاثَة مِنْ أَصْحَـابك وَيَلْقَاك ثَلَاثَة مِنْ عُلَمَائِنَا، فَإِنْ آمَنُوا بِك اِتَّبَعْنَاك. فَفَعَلَ. فَاشْتَمَلَ الْيَهُود الثَّلَاثَة عَلَى الْخَنَاجِر فَأَرْسَلَتْ اِمْرَأَة مِنْ بَنِي النَّضِير إِلَى أَخ لَهَا مِنْ الْأَنْصَار مُسْلِم تُخْبِرهُ بِأَمْرِ بَنِي النَّضِير، فَأَخْبَرَ أَخُوهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم  قَبْل أَنْ يَصِل إِلَيْهِمْ، فَرَجَعَ، وَصَبَّحَهُمْ بِالْكَتَائِبِ فَحَصَرَهُمْ يَوْمه»[21].

أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم  محمد بن مسلمة برسالة ردع شفهية: «اخرجوا فلا تساكنوني بها، فقد هممتم بما هممتم به من الغدر وقد أجَّلتكم عشراً فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه»[22]. وبعث رهـط من بني عوف بن الخزرج إلى بني النضير، منهم: عبد الله بن أُبيِّ بن سلول، ووديعة ومالك بن أبي قوقل، وسويد وداعس، بعثوا إلى بني النضير‏‏:‏‏ «أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم».

فقويت عند ذلك نفوسهم، وتشجع حيي بن أخطب وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  أنهم لن يخرجوا، ونابذوه بنقض العهود، فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم  بقطع النخيل والتحريق فيها، نوعاً من ممارسة الضغط ليخرجوا، فنادوا‏‏ أن يا محمد! تنهى عن الفساد، وتعيب على من صنعه؛ فما بال قطع النخيل وتحريقها؟‏‏ ‏

حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم  ست ليال، حصونهم منيعة، ومخزوناتهم كثيرة ووفيرة، واستبعد حتى المسلمون استسلامهم، وبهذا ازداد الموقف تعقيداً وإحراجاً وجسَّد الوضع حالة عجز الردع، حالة أشد حراجة للردع النبوي إذ استمرت ولو قليلاً، لتأثيرها السلبي على مكانة وهيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم  ولا شك تجرِّئ المنافقين، فضلاً عن المتربصين بالخارج في المنطقة الرمادية، حالة وصلت إلى انسداد قنوات التواصل، وصمود الحصون، حتى حدثت قناعة بأن الحصـون منيعة وتحرج الردع بالإنكار، وما إن بدأ يتـأكد عجز الردع إلا وتحدث المعجزة غير المتوقعة التي لم تكن في الحسبان، لاستبعادها استبعاداً مطلقاً. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْـحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْـمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر: ٢].

تحدث المعجزة فيخرجهم الله عز وجل ويقذف الرعب في قلوبهم، رعب مفزع لا تقاومه الموانع والحصون، رعب أوقفهم أن يمارسوا عادتهم القبيحة، عادة القتل الجماعي، رعب لم يوقفه إلا الاستسلام، فأعلنوا الاستسلام غير المشروط: أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أَّن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح‏‏، فوافق‏‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخربوا بيوتهم، وحملوا على الإبل ما لا تطيق، وخرجوا...

 لوحظ أن سلام بن أبي الحقيق حمل جلد ثور مملوءاً ذهباً على بعير، ونادى أثناء خروجه وبأعلى صوته وهو يطرق عليه بكلتا يديه بغيظ وقوة يقول: هذا أعددناه لرفع الأرض وخفضها، وإن كنا تركنا نخلاً ففي خيبر النخل.

رسالة ردع بالغة الدلالة «هذا ما أعددناه لرفع الأرض وخفضها، وإن كنا تركنا نخلاً ففي خيبر النخل» وضحت الرسالة توجههم وغايتهم، وما إن نزل أكابرهم: حيي بن أخطب وسلام بن مشكم وكنانة بن أبي الحقيق خيبر حتى دان لهم أهلها[23]، صراع بني النضير لم ينته بخروجهم من المدينة، ولا بالأحزاب ولا بخيبر.

لم يصادر رسول الله صلى الله عليه وسلم  ما أعدوه لرفع الأرض وخفضها، ولم يعاقبهم على جرمهم، قارن ذلك بمن جردوهم من السلاح ثم قتلوهم، ومن أخرجوهم دون سبب يذكر، على سبيل المثال: أصدر الملك هنري الثاني، قانون السلاح عام 1181م الذي نص على أنه لا يحق لليهودي أن يملك درعاً أو سيفاً، وعليه أن يبيعها أو يسلمها أو يتخلص منها بأي شكل كان، وبعد ثماني سنوات، تم ذبحهم.

وأصدر الملك فيليب في أغسطس (1180 - 1223م) مرسوماً يأمر بمقتضاه اليهود بمغادرة المملكة قبل حلول عيد القديس يوحنا المعمدان بممتلكاتهم الشخصية فقط[24].

عشية الحكم على بني قريظة (ذي القعدة سنة5هـ):

 كثيرة القصص الحقيقية عن الخيانة اليهودية[25]، خان بنو قريظة دستور المدينة في أحرج المواقف وقت حصار الأحزاب المدينة، تحالفوا مع حيي بن أخطب سيد بني النضير، بعد أن وعدهم بأنه سيكون معهم في أسوأ الظروف، فضلاً عن أنهم سمحوا للأحزاب باستخدام مواقعهم الإستراتيجية قواعدَ لمهاجمة المدينة من الجنوب الشرقي، وإن لم تنجح فكرة الاقتحام من عند بني قريظة، فعلى الأقل تخفف أعداد المقاومين على الجبهة الشمالية، فيقل العدد أمام ضغوط الأحزاب المتواصلة فتنهار معنويات المسلمين، وبهذا تتمكن الأحزاب من الاقتحام بقوة.

أبدوا تحمساً واستعداداً للمشاركة في حـرب الأحزاب ضد المدينة، وقامت فرقة استكشافية من بني قريظة لجمع مزيد من المعلومات الجديدة تحاول أن تختبر الحصون وحراستها، وأول ما قاموا باختباره، حصن فارع (حصن حسان بن ثابت، كانت فيه النساء والذراري) استعداداً لمهاجمته، ومن ذلك قصة اليهودي الذي قتلته صفية بنت عبـد المطلب رضي الله عنها بعد أن مرَّ بالحصن، وتأكد بأن ليـس فيه رجال، حتى شجعته الحالة ليثبت لفرقته صدق قوله، تسور الحصن وهبط بداخله، وسقوطه على الأرض سهَّل على صفية بنت عبد المطلب سرعة الإجهاز عليه قبل أن ينهض ليفتح باب الحصن، وما إن سقط جثمـانه على مقربة من فرقته الاستكشافية حتى فروا هاربين، ولم يعيدوا التجربة لا في هذا الحصن ولا في غيره[26].

بعدما رحل الأحزاب عن المدينة مثَّل رحيلُهم هزيمة ثقيلة لأكبر تجمع حربي عسكري تجمَّع لاقتحام المدينة، ومثَّلت حالتهم عجز الردع وفشله، أمام صمود المدينة الأسطوري، صموداً تعجز الكلمات عن وصفه، وعن سرده، ومن ناحية أخرى كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم  من رؤية ردعية أن يعجل بالتأكيد على تولد الردع النبوي وقوَّته بالردع بالعقاب، فعليه على الفور أن يبادر في الردع بعقاب كلِّ من خططوا لفكرة تجميع الأحزاب ونفَّذوها، وليبدأ بالأقرب مسكناً، كما لا يغفل عن الأبعد بتسيير الغزوات والسرايا، وليراقب بيقظة وانتباه تحركاتهم، بحيث لا يسمح لهم إطلاقاً بالتجمع والتحزب ثانية ضد المدينة، والحق إنها لمهمة شاقة، يصعب تنفيذها فضلاً عن تحقيق أهدافها، وذلك بالنظر إلى إمكانياته المحدودة، وقلة العنصر البشري المعد والمستعد للمهام، فضلاً عن ترامي المنطقة واتساعها وصعوبة تضاريسها.

أبدى رسول الله صلى الله عليه وسلم  تباطؤاً واضحاً، فقد رجع  ووضع السلاح ودخل واغتسل في بيت أم سلمة، فجاءه جبريل عليه السلام فقال: قد وضعت السلاح! والله ما وضعناه، فاخرُج إليهم!

قال: فإلى أين؟

قال: ها هنا، وأشار إلى بني قُريظة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم  إليهم غازياً، في رسالة تحمل شارة ردع «لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة»، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم  مؤذناً فأذن في الناس‏:‏ «من كان سامعاً مطيعاً فلا يصَلِّينَّ العصر إلا في بني قريظة» بادر المسلمون فتحركوا نحو بني قريظة، وأدركتهم صلاة العصر في الطريق، بعضهم صلاها في الطريق، وبعضهم‏ صلاها بعد العشاء الآخرة في بني قريظة، ولم يعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم  على أي منهم‏.‏

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم  حتى نزل على بئر من آبار قريظة يقال لها‏:‏ بئر أنَّا‏، وتلاحَق المسلمون وتجمعوا وحاصروا بني قريظة‏.‏

اشتد الحصار على بني قريظة، فعرض عليهم كعب بن أسد رئيسهم اختيار خيار من اثنين‏:‏ أن يسلموا، فقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم.      

أو أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم بأيديهم حتى يقتلوا عن آخرهم، الخيار الأخير خيارهم المفضل عند إحكام الحصار عليهم، ويطلق عليه اصطلاحاً القتل الجماعي، فأبوا أن يجيبوه إلى خيار الإسلام.

بقي الخيار الأخير، فلماذا لم يمارس بنو قريظة طقوس القتل الجماعي؟

عشية الحكم على بني قريظة:

من المتوقع أن قريظة تتحمل الحصار طويلاً، حصونهم منيعة، ومؤنهم وفيرة، ويواصلون الصمود تحقيقاً لعجز الردع، حتى يصلهم مدد من خيبر أو بعض الأحزاب، وحتى لو استبعد كل ذلك، فما عليهم إلا أن يقتلوا أنفسهم، فعادة القتل الجماعي عادة يهودية يفضلون أن يقتلوا أنفسهم على مواجهة عدوهم، لكن ما يثبت أنها معجزة، أنها منعتهم من ممارسة عادتهم[27]، وأجبرتهم على الاستسلام غير المشروط، أي النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ولا داعي للضجة المفتعلة، التي تضخم الحكم كأنه جريمة، وتغض الطرف عن السبب وتقلل من جريمة الخيانة؛ إذ لا تكاد تذكرها، ومن قُتِل من بني قريظـة، لا يقارَن بما حدث أثناء الحملات الصليبية[28] وغيرها[29].

قال تعالى: {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} [الأحزاب: 26]. الصياصي: الحصون، والرعب: الخوف، «مالؤوا المشركين في الأحزاب، فأخافوا المسلمين، فكما راموا العز ذلوا، وأرادوا استئصال المسلمين فاستُؤصلوا، والذين قتلوا هم المقاتِلة، والأسرى هم الأصاغر والنساء»[30].

وقتلت من نسائهم امرأة مجرمة ألقت الرحى على خَلاَّد بن سُوَيْد فقتلته، ولم يقتلوا جميعاً فقد استوهب منهم واستحيي منهم، على سبيل المثال: استوهبت أم المنذر سلمى بنت قيس النجارية رفاعة بن سموءل القرظي، فوهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم  لها فاستحيته، فأسلم، واستحيا ثابت من ولد الزبير بن باطا عبد الرحمن بن الزبير، فأسلم، وأسلم منهم تلك الليلة نفر من بني هدل قبل النزول، فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم، وهناك من لم يدخل مع بني قريظة في الغدر، كعمرو بن سعدي، أخلي سبيله وتركوه يذهب‏.‏

خيبر (المحرم 7هـ):

لم يحسم طرد بني النضير من المدينة الموقف معهم؛ إذ خرج سادتهم إلى خيبر، واستطاعوا أن يحشدوها ضد المدينة، «هذا ما أعددناه لرفع الأرض وخفضها، وإن كنا تركنا نخلاً ففي خيبر النخل» رسالة ردع بالغة الدلالة، فيها الردع محمَّل بشدة وبقوة وإصرار، ومن الضروري فهم نفسية قيادات الردع، وتحديد صناع القرار وفهم خلفياتهم وديناميات تقويم التهديدات، كل دلائل رسالة الردع تشير إلى: تهديد باستخدام القوة، وأن المعركة لم تنته بعد، وحددت اتجاه الردع، ومركز الردع (خيبر)، حاولت خيبر أن تحقق الردع بالاستباق في غزوة الأحزاب، وتعطل استعدادات المدينة، وتجردها، والضغط عليها اقتصادياً، وقتل الشخصيات المؤثرة في المدينة، بالتخـويف بما فيه الكفاية، وبدأت في التنفيذ التدريجي، لم تيأس بعد الفشل الكبير الذي منيت به الأحزاب، بل ازدادت على الإصرار إصراراً، شجعها على ذلك انشغال رسول الله صلى الله عليه وسلم  بخمس موجات: ضد قريش، وضد أعراب المنطقة الرمادية، وضد المنافقين، ولم يحسم الردع النبوي جبهة من الجبهات الخمس بعد، وما يزال السجال، وتأرجح القوى على المحك، وتتجهز خيبر لحسم الموقف وعودة بني النضير إلى الديار معززة.

مراراً وتكراراً نؤكد بأنه من الصعب فصل رسول الله صلى الله عليه وسلم  عن الوحي؛ ففي ظل تصاعد المواجهات، ولم يكد رسول الله صلى الله عليه وسلم  يسترد أنفاسه من الأحزاب حتى اتجه إلى مكة المكرمة للعمرة، ولم يكد يرجع المدينة حتى يذهب لخيبر، وبعد عشرين يوماً من الحديبية، قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم  الخروج لخيبر تنفيذاً لوعد الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً 19 وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [الفتح: 19 - 20]. {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ} عن بيوتهم وعن عيالهم بالمدينة حين ساروا إلى الحديبية وإلى خيبر[31].

ولم يسمح رسول الله صلى الله عليه وسلم  للمتخلفين عن الحديبية بالخروج معه، فلم يخرج معه إلا أصحاب الحديبية.

لـمَّا أخذ المسلمون في التجهُّز لغزو خيبر، صعُب ذلك على يهود المدينة، نعم كان بها يهود، وهم كثر، غير من أسلموا كعبد الله بن سلام وغيره، وتحرك يهود المدينة تحركاً مربكاً ومريباً، إذ لم يبقَ يهودي من يهود المدينة له عند أحد من المسلمين شيئاً إلا طلبه منه قبل الخروج لخيبر، على سبيل المثال: كان لأبي الشَّحم اليهودي عند عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي خمسة دراهم دَيْن على عبد الله لشراء شعير لأهله مرَّة، فطلبه منه أبو الشَّحم، فقال ابن أبي حدرد: «يا أبا الشَّحم إنَّا نخرج إلى ريف الحجاز في الطعام والأموال، أجِّلني، فإني أرجو أن أقدم عليك فأقضيك حقَّك إن شاء الله عز وجل، قد وعد الله نبيِّه خيبر أن يغنِّمه إيَّاها».

فقال أبو الشَّحم وقد استشاط غضباً: «تحسب أن قتال خيبر مثل ما تلقونه من الأعراب؟ فيها - والتوراة! - عشرة آلاف مُقاتلِ» يرفع بها صوته، قال ابن أبي حدرد: «أي عدوَّ الله! تخوِّفنا بعدوِّنا وأنت في ذمَّتنا وجوارنا؟ والله لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذهب ابن أبي حدرد وأبو الشَّحم اليهودي يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن أبي حدرد: يا رسول الله! ألا تسمع ما يقول هذا اليهودي؟ وأخبره بما قال، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال اليهودي: يا أبا القاسِم! هذا قد ظلمني وحبسني بحقِّي وأخذ طعامي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطِهِ حقَّه»  فخرج عبد الله من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فباع أحد ثوبيه بثلاثة دراهم، ثم تيسر الباقي من أهل بيته، وأعطاه سلمة بن أسلم ثوباً هديَّة بدلاً من الذي باعه، وأعطى أبا الشَّحم حقَّه[32].

لم يبقَ يهودي من يهود المدينة له عند أحد من المسلمين شيئاً إلا طلبه منه وأخذه قبل الخروج لخيبر.

يوضح هذا الموقف ليس التعاون فقط، ولا ممارسة الضغوط في وقت هم أمس الحاجة إلى تخفيف الضغوط عنهم، ولكن يدلل على أن يهود المدينة عليهم بأن يستردوا ديونهم من المسلمين، قبل أن يُقتلوا في خيبر، وتضيع أموالهم، ظنوا قتل هؤلاء الخارجين لغزو خيبر، ألف وخمسمئة مسلم في مواجهة عشرة آلاف مقاتل، فضلاً عن مقاتلي غطفان حليفة خيبر.

أخبار تهيؤ المسلمين للخروج لخيبر وصلت إلى يهود خيبر، فخرج كنانة بن أبي الحُقيق زعيمهم في مجموعة من كبرائهم أربعة عشر رجُلاً يدعون حلفاءهم من قبائل غطفان لنُصرَتِهم ولهم نصف تمر خيبر سنة كاملة.

الاختبارات التي يدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم  اختبارات مثيرة ومدهشة وغير متوقعة، إن حكَّمتها عقلياً تنافق، وإن حكمتها إيمانياً تزداد إيماناً، اختبار صعب، والأصعب يخرج لخيبر بمن خرج معه للحديبية فقط، آيات بالغة الدلالة تؤكـد إيمانه المطلق بالله، يؤكد أنه ملهم صلى الله عليه وسلم  والواقع يستبعد ذلك، ويرى فيهـا تهلكة حقيقية، كيف يذهب لخيبر، لو كان سيعمل معهم صلحاً لكان أمراً مستبعداً لأن العداوة لا تقف عند حدود، فما بالك بقتالهـم؟ ولا ننس بأن خيبر وغطفان في تحالف دفاعي قوي... فالأزمة تزداد تعقيداً.

من رؤية ردعية، يوصي الردع في هذه الحالة بالحظر من الخروج وينصح بالاستمرار في استهداف القادة والرؤوس إن أمكن، لأنها بعيدة ومنيعة، وحليفها قوي لا يسكت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم  يترك كل توصيات الردع ونصائحه ويخرج ثقة بربه، موقف أشد تعقيداً من الحديبية، فضلاً عن أن الحديبية تم فيها الصلح، وهنا وعد الله ليس الصلح بل الغنيمـة، وكل الاستدلالات الواقعية تؤكد حراجة الردع، وعجزه، واستحالة الغنيمة.

بالرغم من أن خيبر تقع على بعد 90 ميلاً/150 كيلومتراً شمال المدينة المنورة، إلا أنها أدارت الصراع بطرق غير مباشرة، خططت خيبر للهجوم على المدينة لأسباب كثيرة، نورد منها: حاولت أن ترد بعملية طاحنة تضمن لبني النضير السيطرة، وتؤكد على هيبتها المترسخة في نفوس الأعراب، ورَدّاً على ما حدث لبني النضير، وبني قريظة، ظلت تراقب ما يدور، وازدادت رقابتها رصداً لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعلى الرغم من خطورة الاشتباك مع خيبر لأن غطفان حليفتها، وقوة غطفان لا يستهان بها، يزيد الأمر تعقيداً.

إلا أنها كانت وعداً وعدها الله تعالى بقوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح:20] يعني صلح الحديبية، وبالمغانم العاجلة خيبر.

تصاب بالحيرة! شيء لو حسبته بالردع وميزان القوى تستبعده، وتؤكد على استبعاده كل الاستدلالات، حصون منيعة وكثرة مقاتلين وحلفـاء أقوياء، فضلاً عن محدودية الخارجين لخيبر، عدد صغير لا يقارَن بمقاتلي خيبر، وجملتهم أقل من بطن من بطون غطفان، تمثل النسبة بين المسلمين وخيبر 3/ 200.

ما إن سمعت غطفان بنزول رسول الله صلى الله عليه وسلم  في وادي الرجيع، حتى تجمعوا، وخرجوا تفعيلاً لاتفاقية الدفاع المشترك مع خيبر، وساروا مسافة طويلة، وسمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حسّاً، ظنوا أن المسلمين قد خالفوا إليهم، فرجعوا مسرعين على أعقابهم، فأقاموا في أهليهم وأموالهم، ولعب توقيت النزول حدثاً جوهرياً، فمَن دبَّر ما سمعته غطفان، وأقنعهم بالرجوع والإقامة في الأهل والأموال؟ فسبحان من حيَّد غطفان، نصيرة خيبر المتحمسة القوية؟

عندما أشرف على خيبر:

كان عمال خيبر غادين وقـد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم  والجيش، قالوا: محمد والخميس معه، فأدبروا هُرَّاباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، خربت خبير، إنَّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» [33].

رسالة ردع وعلى الغزوة أن تختبرها، وما من شك أن خيبر تتحدى الرسالة بكل ما أوتيت من حصون منيعة وقوية، واستعدادات نفسية مرتفعة ومعنوية مشجعة، «خربت خيبر» شارة ردع أو رسالة ردع مزلزلة، تهد الحصون وتزلزل المعنويات.

ما يفعله القادة الحقيقيون المتحققون هو ما لا يتوقعه الواقعيُّون، ولهم رؤية للمستقبل تتجاوز الواقع[34]، «خربت خيبر» يستبعدها الواقع، واستدلالات واقعية كثيرة تؤكد استمرار عمار خيبـر، لكـن قائل العبارة لا يقولها من فراغ، ولا عن غرور، يقولها عن وحي، تأمل كيف يتغير الواقع استجابة، وليس الأمر قدرياً، تحقيق النبوءة مرهون بجهود الصحابة وشجاعتهم وإخلاصهم، ضمن أسباب رئيسة غيرت الواقع وحققت الرؤية النبوية.

بعد تحييد غطفان بقيت مشكلة أكبر، هي الحصون المنيعة الكثيرة، والمقاتلون الذين يعدُّون بالآلاف كمرحب، والذين تأبى عليهـم قوَّتهم إلا النزال، وعلى الرغم من أنه صال صولة عظيمة، إلا أن قوَّته وصولته انهـارت أمام قوة علي بن أبي طالب رضي الله عنه[35].

خرج بعد مقتل مرحب[36] أخوه ياسر وهو يقول: من يبارز؟ فخرج الزبير بن العوام إلى ياسر، فقتله الزبير، بعد مقتل مرحب وياسر، تقهقر اليهود ولاذوا بالحصون، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم  بضع عشرة ليلة، ولما تأكدوا من إصراره في استمرار الحصار لم يمارسوا عادة القتل الجماعي، بل طلبوا الصلح.

سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم  أن يعاملهم في الأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم وأعمر لها، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم  على النصف، على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، وعامل أهل فدك بمثل ذلك.

أثبت صحة فرضية المغانم التي وعد اللهُ سبحانه نبيه بها، وأسقطت الموجة كل الخيارات اليهودية: خيار القتل الجماعي، وخيار شمشون[37]، فضلاً عن أنها أنهت التسلط الاقتصادي في الجزيرة العربية لقرون طويلة.

____________________________________________________

[1] يلاحظ عروبة الاسم جبل مسعدة، ومع ذلك يتجاهل الوجود العربي الأصيل في فلسطين ويتم تغييبه.

[2] Josephus Flavius (1974). Wasserstein Abraham (ed.). Flavius Josephus: Selections from His Works (1st ed.). New York: Viking Press. pp. 186–300

[3] Ibid Jones Watson (2013) Christians and Jews p.6

[4] Ibid Jones Watson (2013) Christians and Jews pp.6 32 72 77 273 286

[5] Rees Jones Sarah and Sethina Watson (2013) Christians and Jews in Angevin England: The York Massacre of 1190 Narratives and Contexts p.136

[6] York 1190: Jews and Others in the Wake of Massacre. University of York - Centre for Medieval Studies. March 2010. Retrieved 1 December 2011

[7] ..Katz Shmuel. Battleground: Fact and Fantasy in Palestine. Taylor Productions Ltd. 1974 pg. 97

[8] سنن أبي داود 3/115.

[9] Paul Huth and Bruce Russett «Deterrence Failure and Crisis Escalation International Studies Quarterly Vol. 32 No. 1 March 1988 p. 42.

[10] ابن هشام، السيرة النبوية 3/48.

[11] Talmud Sanhedrin 72:1.

[12] Ronen Bergman Rise and Kill First: The Secret History of Israel’s Targeted Assassinations January 30 2018 p.ix

[13] Seepp.ix95163219315443680

[14] Ronen Bergman Rise and Kill First: The Secret History of Israel’s Targeted Assassinations January 30 2018 p.xxiii

[15] Bergman Rise and Kill First: 2018 p.54

[16] Jean-Claude Guillebaud Jean Lacouture Sont-ils morts pour rien? : Un demi-siècle d’assassinats politiques January 21 2010

[17] قال الزهري: كانت غزوة بني النضير بعد بدر بستة أشهر، وحكى البخاري عن الزهري، فتح الباري: 6/380، وقال السهيلي: كانت بنو النضير بعد بدر بستة أشهر قبل أحد، ابن هشام، السيرة النبوية، ت، السقا: 2/109.

[18] د. عبد الرحمن علي، الردع النبوي ضوء جديد يوضح الردع النبوي وتدفق أمواجه، 2019، ص162-163.

[19] قتل النبي زكريا بين الهيكل والمذبح Matt 23:35

[20] مجموعة يقودها 8 من اليهود الذين ألقوا قنبلة على حشد أسفر عن مقتل 7 ضباط شرطة أثناء مظاهرة لهم في شيكاغو HAYMARKET LABOR MARTYRS HONORED By E. R. SHIPP and SPECIAL TO THE NEW YORK TIMESMAY 4 1986

[21] العسقلاني، فتح الباري: 11/358. عبد الرازق، المصنف: 5/359 وحكى ابن التين عن الداودي أنه رجح ما قال ابن إسحاق من أن غزوة بني النضير كانت بعد بئر معونة، مستدلاً بقوله تعالى: وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم قال: وذلك في قصة الأحزاب. قلت: وهو استدلال واهٍ، فإن الآية نزلت في شأن بني قريظة، فإنهم هم الذين ظاهروا الأحزاب، فتح الباري: 11/484.

[22] السيرة الحلبية، الحلبي: ٢ / ٥٦٠، تفسير الخازن (لباب التأويل في معاني التنزيل): 4/1-4، حاشية الصاوي على تفسير الجلالين: 4/1 - 4 معالم السنن - شرح سنن أبي داود: 2/1-2.

[23] الحلبي، علي بن إبراهيم بن أحمد، السيرة الحلبية «إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون» الحلبي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الثانية، 1427هـ، 2/565-566

[24] زينب عبد المجيد عبد القوي، حضارة أوروبا في العصور الوسطى جامعة الزقازيق، 2007، ص55-58.

[25] Yoel Sheridan Gold Ducats and Devilry Afoot An Historical Narrative of The Trials and Tribulations of Henry Simons A Polish Jew in Mid-Eighteenth Century England: A True and Truly Remarkable Saga June 12 2012

[26] علق السهيلي على موقف حسان إذ طلبت منه صفية بنت عبد المطلب أن يقتل هذا اليهودي، ودافع عن شجاعته، لعله كان معتلاً في ذلك اليوم بعلة منعته حتى للقيام إلى اليهودي، الروض الأنف، 6/ 324.

[27] في حالات غير المعجزة رصد الباحث قيامهم بقتل زوجاتهم وأبنائهم، وقتل أنفسهم عن مواجهة العدو، وعندما استعد الصليبيون للحملة الصليبية الثالثة، أجبرت الاستفزازات اليهودية الصليبيين على ممارسة الانتهاكات المعادية حتى اضطروهم للتحصن ببرج كليفورد، هم وزوجاتهم وأطفالهم، وحاصر الصليبيون البرج مطالبين بأن يعتنق اليهود النصرانية ويتم تعميدهم، وظلوا يحاصرون القلعة، حتى نصح الحاخام يومتوف اليهود، بقتل أنفسهم بدلاً من اعتناق النصرانية؛ وبدأ يوسيس بقتل زوجته آنا وطفليه، ثم قتل على يد يومتوف، وقام رب كل أسرة بقتل زوجته وأطفاله، وقبل أن يقوم يومتوف وخوسيه بإضرام النار في الحطب، قتلوا أنفسهم، وعدد قليل جدا من اليهود لم يقتلوا أنفسهم York 1190: Jews and Others in the Wake of Massacre. University of York - Centre for Medieval Studies. March 2010. Retrieved 1 December 2011

[28] إذ ذبحت مجتمعات يهودية بطول طريق الصليبيين بسبير وماينتس وفورمز وريغنسبورغ في ماينتس، قتل 1100 يهودي في يوم واحد، وهدم الكنيس وباقي منشأت المجتمع اليهودي في المدينة، وفي ريغنسبورج تعرضت الجاليات اليهودية للغرق الجماعي نجاة من الموت، فضلاً عن مشاهد الانتحار الجماعي، على سبيل المثال قتلت أم أبناءها وقتل الزوج زوجته، ثم قتل نفسه، أدت هذه الاقتتالات إلى اتهام اليهود بطقوس القتل الجماعي، فلقد قتل 12000 يهودي في عام 1096 Katzم  Shmuel. Battleground: Fact and Fantasy in Palestine. Taylor Productions Ltd. 1974 pg. 97

[29] على سبيل المثال قتل من اليهود 150000 يهودي، نصفهم قتل في أوكرانيا، والنصف الباقي قتل في بيلاروسيا  Pogroms in the Ukraine (1919–1921) Online Encyclopedia of Mass Violence April 3 2008 retrieved September 9 2015. تعتبر هذه من أكبر مذابح اليهود في أوروبا حتى ذلك الوقت  Russian Civil War Pogroms Zionism and Israel – Encyclopedic Dictionary 2005 retrieved September 9 2015

[30] ابن كثير، التفسير: 6/357.

[31] الطبري، جامع البيان: ٢٦/ ١١٧.

[32] الواقدي، المغازي: 2/634 - 635.

[33] صحيح البخاري، باب غزوة خيبر: 2/ 603 - 604.

[34] James M. Kouzes and Barry Z. Posner The Leadership Challenge: How to Make Extraordinary Things Happen in Organizations Apr 17 2017 p.95

[35] روي بأن مرحباً قد رأى في المنام يوم مقتله بأن أسداً يفترسه. ينظر الحلبي، إنسان العيون: 3/56.

[36] بين المصادر اختلاف كبير في الرجل الذي قتل مرحباً، وفي اليوم الذي قتل فيه، وفتح هذا الحصن. هذا الترتيب رتبناه بعد ترجيح سياق رواية البخاري، ينظر فتح الباري: 7 /478.

[37] اسم عمليات تحليلية قام بها بعض المحللين العسكريين لنظرية إستراتجية الردع اليهودية الافتراضية المرتبطة بعمليات الانتقام واسعة النطاق بالأسلحة التقليدية وغير التقليدية، باعتبارها آخر الحلول.

Seymour Hersh. 1991. The Samson Option Hersh 1991 pp. 136–37 288–89.