حرية التعبير

منذ 2021-07-24

ليس من حريَّة التَّعبير نشرُ الأدب الهابط - و ليس بأدبٍ في الحقيقة- من قصصٍ هابطة، أو أشعارٍ ماجِنة، أو مجلاَّتٍ همّها مظهرها لا مَخْبرها؛ فحماية المجتمع من الوقوع في الرذيلة واجبٌ شرعيٌّ على الجميع، كلٌّ بحسبه.

اعتنى الشَّارِع بأقوال المكلَّفين، ورتَّب عليها أحكامًا، وخطرُ الكلام في الدُّنيا أعظم من الاعتقاد، فكم من شخصٍ يعتقد ما لا يُرضي الله من الاعتقادات الباطلة، ولا يُظهر ما يعتقده؛ بل يُظهر خلافَ ذلك؛ فيُحْكَم له في الدنيا بما ظَهَرَ من أقواله وأفعاله، ويوكَل باطنُه إلى مَنْ يعلم السرَّ وأخفى، فإذا تكلَّم حُوسِبَ على كلامه، وتحمَّل تَبِعاتِه في الدُّنيا والآخِرة.

وفي حديث معاذٍ بن جبل، حينما كان مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ؛ فممَّا قال له: «أَلا أخبركَ برأس الأمر كلِّه، وعموده، وَذِرْوَةِ سِنامه»؟! قال: قلتُ: بلى يا رسول الله. قال: «رأسُ الأمر الإسلام، وعمودُهُ الصلاة، وَذِرْوَةُ سِنامه الجهاد». ثم قال: «ألا أخبركَ بملاكِ ذلكَ كلِّه»؟ قلتُ: بلى يا نبيَّ الله. فأخذ بلسانه وقال: «كُفَّ عليكَ هذا». فقلتُ: يا نبيَّ الله، وإنَّا لمؤاخَذونَ بما نتكلَّم به؟! فقال: «ثَكِلَتْكَ أمُّكَ يا معاذ، وهل يكبُّ الناسَ في النَّار على وجوههم- [أو على مناخِرِهم] - «إلاَّ حصائد أَلْسِنَتِهم»؛ (رواه الترمذي)، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".

وأمرنا ربُّنا بالقول الحسن: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة: 83]، فيكون المسلم مسدَّدًا في ما يقوله؛ فلا يقول إلا حقًّا، مبتعدًا عن الاعوجاج والانحراف في القول، متحرِّيًا لمواطن الكلام والسكوت، فلا يتكلم إلا إذا رأى المصلحة في الكلام، تاركًا للكلام وإن كان حقًّا وفيه مصلحة؛ إذا كانت مصلحة التَّرْك أكبر من مصلحة الكلام، ميزانه في ذلك كلِّه، قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخِر؛ فلْيَقُلْ خيرًا أو لِيَصْمُتْ» (رواه البخاري ومسلم).

متثبِّتًا في كلامه، لا يتكلَّم إلا بما ثَبَتَ عنده، مبتعدًا عن الخَرْص والظَّنِّ، رادًّا الأمرَ الذي لا علم له به إلى أهل الاختصاص؛ في كلِّ أمرٍ إلى أهله: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً}[النساء: 83].

بل عناية الشَّارِع تعدَّت ذلك إلى الألفاظ:

فإذا كان قد يُراد باللفظ معنًى باطلاً ومعنًى حقًّ؛ فنهى عن التلفُّظ به، وأمر باجتنابه، وإن كان الشخص لا يعتقد المعنى الباطل لهذه الألفاظ؛ سدًّا للباب، وبُعْدًا عن كلِّ ما يُشين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 104]، ناهيًا عن بعض الأقوال، منفِّرًا منها إذا كان فيها إساءة للآخَرين، من غير مصلحةٍ راجحةٍ، فحرَّم النَّميمة وغيبة الناس، والوقوع في أعراضهم، ونفَّر من ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12].

فليس لنا الحرية المطلقة في قَوْل ما نشاء؛ بل هي حرية مقيَّدة بعبوديَّتنا لله؛ فلا نقول إلا ما أباح لنا قوله، لكنَّنا أحرارٌ من جهة البشر؛ فالله حرَّرَنا من عبودية غيره - عزَّ وجلَّ - فرفع سلطة البشر عنَّا؛ فليس لأحدٍ من البشر على غيره سلطة، أو أن يفرض عليه ما يريده، إلاَّ إذا كان ذلك بأمر الله، إنما الطاعة في المعروف؛ فالإنسان حرٌّ من جهة البشر؛ فليس لهم أن يُمْلُوا عليه ما يريدون هم من اعتقادٍ أو أمرٍ أو نهيٍ، و ليس حرًّا من جهة ربِّه وخالِقِه، فليس له أن يتجاوز ما أمره به؛ فعلاً أو تَرْكًا أو اعتقادًا.

فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم - وهو المبلِّغ عن الله - لا تجب طاعته طاعةً مطلقةً! فلذا؛ حينما لم تُشَفِّعْ بُرَيْرَةُ النبيَّ حينما أمرها برجوعها إلى زوجها؛ لم تكن عاصيةً؛ لأن هذا من باب الشفاعة المحضة، فطاعته - صلى الله عليه وسلم - تبعًا لطاعة الله - عزَّ وجلَّ -: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء: 80].

وقد تقرر عند المسلمين، من لَدُنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى وقتنا الحاضر: أن المسلم ليس له الحرية المطلقة في الكلام بكلِّ شيءٍ؛ بل الأمر راجعٌ إلى الإذن الشرعيِّ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

إخواني:

دخل على المسلمين مصطلح (حرية التعبير) من المجتمعات الغريبة الكافرة، التي تُحْصَر فيها علاقةُ العبد بربِّه بين جدران الكنيسة، وتلقَّفَه البعضُ، ونادوا به في حوراتهم، وبنوا عليه بعض مقالاتهم، ولم يقل أحدٌ من الخَلْق، مُسْلِمِهِم وكافِرِهِم، برِّهِم وفاجِرِهِم، أنَّ للإنسان أن يتكلَّم بماء شاء، ولا يتعرَّض للمحاسبة، بل الحكومات الغربية التي تزعم أنها تَكْفُلُ حريةَ التعبير لمواطنيها - لم تترك الباب على مصراعيه؛ بل سَنَّتْ أنظمةً، وتُصْدِر قوانينَ بين فترة وأخرى، تَكْفُلُ بها عدم اعتداء بعض الناس على بعضٍ بحُجَّة حريَّة التَّعبير، أو لتحافظ على ما يتعلَّق ببعض ما تراه أنه من ثوابتها، أو ما يتعلَّق بمصلحة الدولة والمجتمع.

فكم من وعيدٍ تُصْدِرُهُ هذه الدول لوسائل الإعلام المختلفة، حينما ترى أنَّ نَشْرَ بعض الأشياء يضرُّ بمصالحٍ عامَّةٍ أو خاصَّةٍ لصنَّاع القرار، أو يضرُّ ببعض حلفائها؟!!



ليس من حريَّة التَّعبير أن يتكلَّم كلُّ شخصٍ في دِين الله وحُكْمِه، وهو لا يملك ما يؤهِّلُه في الخوْض فيه؛ فليست الأحكام الشرعية والاعتقادات والآداب الشرعية كلأً مباحًا لكلِّ شخص! فلا أقلَّ من أن تُجْعَلَ علومُ الشريعة كسائر العلوم العصرية، وهذه العلوم لا يخوض غمارها ويُرْجَع إليه فيها عند الحاجة؛ إلاَّ مَنْ أمضى الساعات الطوال في دراسة هذا العلم وتدريسه.

فدين الله عامٌّ للمسلمين، وليس هناك مؤسسةٌ خاصَّةٌ لها الوصاية على الدِّين وتفسيره، ولا يُتَقَرَّبُ إلى الله إلاَّ عن طريقها؛ بل النَّظَرُ في الأدلَّة الشرعيَّة، والاجتهاد في ذلك، والعمل بما يؤدِّي إليه الاجتهاد - فرضٌ على القادِر، الذي يملك أَهْلِيَّةَ النَّظَر، بِغَضِّ النَّظَر: هل تخرَّج من كلية شرعية أم لا.

فيجب أن يقتصر الأمر على المؤهَّلِين، ويُمْنَعُ تطاولُ غيرهم على الكلام على الله بغير علمٍ.

ليس من حريَّة التَّعبير تمكين كلِّ منحرفٍ في فِكْرِهِ، لِيَبُثَّ سمومَهُ، يُشَكِّك في ثوابت المسلمين؛ في دينهم، وفي اعتقاداتهم، وفي مَنْ سَلَفَ من علمائهم، بحُجَّة أنَّ هذا رأيٌ شخصيٌّ، فَلَهُ أن يعبِّر عنه!!

فحاجة الناس إلى أَمْنِهِم على دِينهم ومعتقداتهم، وما وَرَثُوه من عاداتٍ حسنةٍ وأخلاقٍ فاضلةٍ - كحاجتهم إلى أَمْنِهِم على دمائهم وأموالهم وأَعْراضِهم.

ليس من حريَّة التَّعبير الوقوع في أعراض الدُّعاة، وحَمَلَة الشَّرع، والآمِرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والصالحين، والتَّشهير بهم، والتجنِّي عليهم، واختلاق القصص عنهم، والتشكيك في نيَّاتهم!!

لا شكَّ أنهم بشرٌ كغيرهم، يجتهدون فيصيبون في أكثر اجتهاداتهم، وربما أخطؤوا، وهذا من لوازم البشرية؛ فالوقوع في الخطأ لا يَسْلَمُ منه إلا المعصومون من الرُّسُل؛ فيجب ألاَّ يُبالَغَ في هذه الأخطاء، وألاَّ تُعطَى أكثرَ من قَدْرِها.

فَلْيُعامَلُوا كغيرهم، ولَتْنُسْبَ الأخطاء - إذا وُجِدَتْ – إليهم، لا إلى التوجُّه الذي يحملونه، أو الجهة الشَّرعية التي يمثِّلونها.

ليس من حريَّة التَّعبير نشرُ الأدب الهابط - و ليس بأدبٍ في الحقيقة- من قصصٍ هابطة، أو أشعارٍ ماجِنة، أو مجلاَّتٍ همّها مظهرها لا مَخْبرها؛ فحماية المجتمع من الوقوع في الرذيلة واجبٌ شرعيٌّ على الجميع، كلٌّ بحسبه.

عباد الله:

من يمارس هذه الأشياء باسم (حريَّة التَّعبير)، وأنَّ له الحقُّ أن يعبِّر عمَّا يعتقده - لو تأمَّل نفسه، وفكَّر في أمره؛ لَوَجَد أنَّ الأمرَ على النَّقيض من ذلك؛ فهو وإن كان تحرَّر من قيود الشرع، ومن عبوديَّته لربِّه - عزَّ وجلَّ - فقد وقع في عبوديَّةٍ أخرى؛ فَفَرَّ من عبوديَّة الخالِق، ووَقَعَ في عبوديَّة المخلوق: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61]، فهو إمَّا تأثَّر بفكرٍ بشريٍّ، ظَنَّ التقدُّم والمنجزات بهذا الفكر، فهو في الحقيقة يعبِّر عن هذا المؤثِّر، الذي مَلَكَ عليه فكره، وحاز على إعجابه، وأنه أبعد ما يكون عن الحريَّة الحقيقيَّة، أو أنه أسيرٌ لِهَوَاه وشهواته، فتعبيره بما يسطره في كتاباته أو قصصه أو شِعْره؛ إنما هو تعبيرٌ عن هذه الشَّهوة الجامِحة، التي سيطرت على كِيانِه، وحَجَبَتْ عنه الرُّؤية الصحيحة.

إخواني:

لنَتَّقِ الله فيما نقول ونكتب ونعتقد، ولْنُحَقِّقَ الحريَّة الحقَّة، وذلك بالانْعِتاق من عبوديَّة غير الله - عزَّ وجلَّ - وتسليم الانقياد لله - عزَّ وجلَّ - في العُسْر واليُسْر، فيما نحبُّ ونَكْرَهُ، فلا نتقدَّم بين يَدَيِ الله ورسوله بقولٍ أو فعلٍ أو اعتقادٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].

________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان