تأثير الأفلام في النفوس
أتساءل عن تفكير وشعور المراهق أو أي حديث سن في طرح هذا الأمر "الإجرامي" في هذا القالب الجذاب؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه.
من أكبر آثار الأفلام والمسلسلات السيئة هي تحسين الباطل وطرحه في صورة جميلة، بإبراز المتعة والجمال والرغبات المحققة الفورية، والسعادة المنتشرة والجموح والحرية وغيرها من الألفاظ الملعونة، ويكون بمقابل هذه الصورة صورة الحق في شكل باهت وممل وذا قيود كثيرة وصعوبات في كل اتجاه، وآلام تتنزل عليه كل يوم لالتزامه بالجانب الصحيح، ثم بعد هذا كله إن أحسن كاتب هذه القصة جعل في نهاية الفيلم مقطعًا صغيرًا فيه بعض العواقب على الخطأ بشكل خجول وغالبها لا يناسب الجرم، وسعادة سطحية لأهل الحق وانتصار باهت، فأخبرني بالله عليك كيف تعرض عليّ أحداث للباطل متتالية وتزيّنه بمتع الدنيا قرابة الساعة وانتصاراته على الحق الممل الذي نكره قالبه الكئيب وتجعل عاقبتهما في دقائق نهاية الفيلم، ثم تريدني أن أصدقك أنك تقدم رسالة فيها تحذير من عواقب الخطأ وحسن عاقبة أهل الصواب؟!، والله ما ذلك إلا دعوة للباطل واستمالة الناس إليه، سواء كان ذلك بتعمّد من الكاتب أو المنتج أو بجهل، فالأولى أن يكون كل تصوير للشر يرافقه تبعات سيئة طيلة الفيلم، وتصوير الجانب المظلم منه والآلام المنبثقة منه والانتقام المتربص به والخوف وغيره، وليس الجانب المشرق والغنيمة الباردة والنجاح بلا جهد والصعود بلا مشقة.
وتصوير عواقب الخطأ في نهاية القصة تكاد تندثر، فمعظم الأفلام اليوم تصور الشر وكأنه الخير وتبرر للخاطئ خطؤه، بذكر ظروف وأسباب مجبور عليها أو ظلم غيره أجبره على فعله ونحو ذلك من التبريرات، أو تجعلك تؤمن أن هذا الطريق الخاطئ هو الطريق المفترض أنه الصحيح، فتميت فيك كراهية الشر، ممهدة لقبولك له، وسواء فعلتَ هذا الشر أو لم تفعله، مجرد تقبّل الخطأ كفكرة السرقة والقتل أو ضرب الناس والاعتداء عليهم بمبرر ما هو خطأ، فإنك إن لم تفعله ولكن قبلته فقد نجحوا في إفسادك، ووصلت رسالتهم وحقق العمل غاياته، فليس مقصد أهل الشر والبغي أن تفعله، ولكن أن تألفه من كثرة عرضهم له، ثم تقبله ولا تجرّمه، ثم ينشأ جيل بعدك لم يتعلم التعليم الجيد كتعليمك ولم تغرس فيه القيم والثوابت الخلقية كما غرست فيك، فيكون استمالته أسهل، وقبول أي جيلٍ سابقٍ للخطأ واستساغتهم له أدعى للجيل الذي يليه في الوقوع فيه.
والأصل في هذا التأثير أنه يكون بشكل غير مباشر وعلى المدى البعيد، ولنضرب لهذا مثلًا في مسلسل "البرفيسور"، الذي شاع بين الشباب وكان أسطوريًا في صياغة القصة والأحداث الغير متوقعة، فقصته أن رجلًا ذا نمط غريب ذكيًا جدًا، استطاع أن يضع خطة بدقة متناهية لسرقة البنك المركزي، أو دار سك العملة، وكان قد فكر في كل الاحتمالات التي قد تطرأ في عملية السرقة، ووضع لكل احتمال خطة بحيث لا يُفاجئ لأي أمر حادث، واختار فريقًا من "اللصوص" و"المجرمين" المتخصصين في عدة مجالات تفيده، وجعل التخطيط والإشراف عليه، والتنفيذ عليهم، ومع الأحداث الشيّقة والحوارات المتتالية بين الشرطة وبين "المجرمين" والأحداث التي طرأت ولم يتوقعها "البرفيسور"، ينتهي المسلسل في فرار اللصوص بثروة كبيرة وظهور أفراد الشرطة بمظهر الأغبياء، فهل لاحظ المشاهد نفسه وهو يدعم هؤلاء (اللصوص) ضد (الشرطة) التي هي صمام أمان المجتمعات؟، هل شاهد نفسه وهو يتحمّس معهم كلما "سرقوا" ونهبوا من ثروات البلد وثروات المجتمع الذي يعيشون فيه؟، وغير ذلك كثير جدًّا.
في الأفلام حتى تكسب شخصية المجرم تعاطف الجمهور وتستميلهم لا بد أن يظهر أنه لا يضر أحدًا، ولا يتأذى أحد من سرقته، ولا ينوي قتل أحد أو سرقة مال أحد، فهو إنسان شريف ولديه أخلاق ومبادئ لا يتجاوزها، وكل ما في الأمر "سنطبع نقودنا ولا نسرقها من أحد ونرحل"، كما قالوا في الفيلم المذكور، وكأنها حق من حقوقهم أو ورث نهبه غيرهم أو سلبه ملكهم فيستردونه!، وكأن سرقتهم لا تؤثر على اقتصادهم، ودعك من هذا وانظر للطريقة التي يطرحها المسلسل للناس في اكتساب الغنى والثروة الهائلة في مدة أيام والواقع الذي يخبرك أن تتعلم وتدرس وتعمل لتحصل طيلة عمرك على حبة رمل في مقابل هذه الثروة!.
وأنا أتساءل عن تفكير وشعور المراهق أو أي حديث سن في طرح هذا الأمر "الإجرامي" في هذا القالب الجذاب؟
أتساءل عن تفكير وشعور الشاب المهدّم الذي مُزّقت حياته من كل جانب فلا مال لديه ولا شهادة ولا أهل ولا مستند يستند عليه وهو يرى طريقة سهلة لاكتساب ثروة عظيمة والخروج بلا أي ضرر؟
وحين ماتت إحدى أفراد العصابة في الفيلم المذكور تأثر المشاهدين لذلك، وكأنها كانت في حماية نفسها أو أهلها أو في موقع شرف وفضيلة، بل كانت "لصة" و "مجرمة" وماتت في سياق "إجرام" تقوم به، فحين تُعرض أخطاء متتابعة بشكل بطولي وتشيع هذه الأفكار بين المجتمع فهذا هدم للأمن وبناء لعالم الجريمة، ورُبّ فيلم يهدم ما بنته مئات الفيديوهات الأخلاقية.
وخذ مثالًا ومثالين وثلاث، مجموعة لصوص تسطو على بنك، رجل يقتل بلا حد، امرأة تبيد عصابة كاملة، وكلها لها مبررات حتى لا يأنف منها أحد، أولها أن اللصوص حين خططوا وسرقوا كانوا بحاجة إلى النقود، والبنك أو المكان الذي سرقوه كان يتعامل مع أموال غير مشروعة، فقد تبين لهم "بعد السرقة" أنهم سرقوا مالًا مسروقًا وهذا أراحهم، والرجل الذي يقتل كان انتقامًا لمقتل حبيبته ولم ينتقم القانون له "فأخذ حقه بيده" وأباد كل العصابة الذين منهم القاتل، والمرأة كانت تبيد عصابة لأنها أعتقدت أنهم قتلوا ابنتها أو زوجها، فأخذت حقها بيدها، لم تلتجأ لقانون ولا لجهة بل بيدها وبسلاح!، ولم تقتل نفسًا واحدة بل أنفس!، ولا تلقى أي عواقب على فعلها، وفيلم يحكي عن فكرة يوم في السنة يباح فيه قانونًا كل الجرائم، فالناس تقتل وتنهب وتغتصب، فيبدو أثر ذلك طيلة السنة بأن قلت معدلات الجرائم بشكل كبير، وكأنهم يقولون بأن في الإنسان شهوة قتل إن لم يفعلها بشكل "مقنن" فعلها بشكل غير مقنن.
قد يظن البعض أني أبالغ، وربما قال هل نحن بهذه الهشاشة حتى تتغيّر مبادئنا مع فيلم أو هل نحن حمقى لا نميّز بين الحق والباطل؟، وأنا لا أقول بأن جميع من يشاهده سيحمل سلاحه ويضع خطة ويسرق أقرب بنك أو متجر!، ولا أقول أنه سيجعلكم مجرمين فلا تتابعوه، ولكني أتحدث عن أمر مشاع بين الناس، وتوجهٌ قائم في عدة أفلام، وقطرات الماء الناعمة تحفر الصخر إن طال تعرضه لها، وهذا التوجه إن أمعن فيه الفرد النظر أدرك أنه خطر كبير يهدد أخلاق مجتمعاتنا وتربية أولادنا.
ولك أن تشاهد أمور مقززة كاللواط والبغاء والخيانة والكذب بدأت تُعرض بشكل آخر يخفف من كراهيتها في النفوس، ويمهّد الطريق لمزاولتها عند أناس قليل جدًا، وربما لا يمارسها أحد ولكن مجرد ظهورها ومرورها على الأعين والنفوس يجعل منها مألوفة ويخفف من وطأتها في القلب، فإن الألفة والتعوّد على المقززات والمستقذرات يرفعها منها ويضعها في خانة المباحات والأمور العادية، ثم بعد الألفة يكون التقبّل في النفس، فالتقبل ينهي مرحلة الإنكار القلبي، ويمهّد الطريق لمزاولتها وإن كان قليل في هذا الجيل ولكنه كثير في الأجيال القادمة.
_____________________________________________
الكاتب: محمد بن عبدالرب آل نواب
- التصنيف: