هل تُرَاغِم ؟

منذ 2021-08-13

وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته، ومعاداته لعدوه، يكون نصيبه من هذه المراغمة ... وهذا باب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس

 

لم يكد يبرز نجم الملاكم العالمي محمد علي كلاي في ستينيات القرن الماضي، إلا وتصدر الحكومة الأمريكية قراراً بتجريده من لقبه العالمي، و تحظر عليه مزاولة الملاكمة لمدة ثلاث سنوات بسبب رفضه المشاركة مع جيش بلاده في حرب فيتنام، وكان مما قال حينها : "لا أخوض حرباً إلا إذا كانت في سبيل الله ..".

لقد كانت مدة إيقافه كافية لإنهاء مسيرته وأفول نجمه - كما أرادوا – لكن (كلاي) لم يستسلم بل أمضى مدة إيقافه في تطوير مهاراته ومضاعفة قوته، فلما انتهت مدة إيقافه إذا هو يعود أفضل مما كان؛ فيحصد البطولات الواحدة تلو الأخرى.

قد تكون هذه الحادثة مدخلاً مناسباً ومحفزاً للحديث عن : عدم الاستسلام للمفسدين، بل والعمل على نقيض قصدهم وإغاظتهم بالثبات على الدين والاستزادة من الطاعات، ليكون المرء -وهذا حاله- في عبادة عظيمة يغفل عنها الكثير، ألا وهي عبادة (المراغمة).

قال السعدي رحمه الله : المُراغمة شرعًا: اسمٌ جامع لكل ما يَحصُل به إغاظةٌ لأعداء الله من قولٍ وفعل.

هذه العبادة العظيمة عدّها ابن القيم (عبودية خواص العارفين)، وقال عنها : "وهي تسمى عبودية المراغمة، ولا ينتبه لها إلا أولو البصائر التامة، ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليّه لعدوه وإغاظته له، وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه، أحدها قوله  {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}  سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغما يراغم به عدو الله وعدوه .

والله يحب من وليّه مراغمة عدوه وإغاظته،  كما قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ  إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}  إلى أن قال رحمه الله :  "فمن تعبّد الله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر ، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته، ومعاداته لعدوه، يكون نصيبه من هذه المراغمة ... وهذا باب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس ومن ذاق طعمه ولذته بكى على أيامه الأول".

وقد ورد ذكر هذه العبادة الجليلة في السنة النبوية كذلك، فعن أبي سعيد الخدري  tقال: قال رسول الله ﷺ« «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلى ثلاثاً أم أربعاً؛ فليطرح الشك، وليبنِ على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يُسلِّم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانت ترغيماً للشيطان» » [ رواه  مسلم] .

قال النووي في شرحه للحديث: ترغيماً للشيطان: «أي إغاظة له وإذلالاً».

 

ولمّا قدِم رسول الله وصحابته للعمرة، بلغه أن قريشاً تقول : "إنه يقدم عليكم محمد وأصحابه وقد وهنتهم حمى يثرب" فقال لأصحابه: لا يرى القوم فيكم غميزة. يعني ضعفاً، وأمرهم أن يرملوا (أي يسرعوا) في الأشواط الثلاثة، فلما رأت قريش ذلك اغتاضوا ، وقالوا: ما يرضون بالمشي! إنهم لينقزون نقز الضباء، أي يثبون كالضباء.

وكان المشركون يعذبون بلالاً t ليشرك بالله تعالى، فلا يكتفي بالصبر على التعذيب بل يغيض المشركين ويُراغمهم بترديد توحيده لربه : أََحدٌ ، أَحد، ويقول : وأيم الله، لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها.

قال الإمام الصنعاني رحمه الله : إغاظة الأعداء بالعبادة .. لا ينافي اخلاص العمل ، بل هو إضافة طاعة إلى طاعة.

فيا أيها المؤمن الـمـُعظِم لربه، المحب لنبيه ، المعتز بدينه !

تذكّّر حديث  «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا» ، ولا يرى المفسدون فيك ضعفاً و انكسارا، وارفع رأسك ولا تَهِن فإنك أنت الأعلى {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}  ولا تغشَ مكاناً يُطبّع فيه الفساد، وتُكسر فيه إرادتك، وتخبو فيه جذوة الإنكار عندك.

وإن أغاظك المفسدون بمنكراتهم، فأغظهم بثباتك، وإن آلـموك بالسعي لإفساد أولادك فآلمهم بحسن تربيتك لهم، وإن أحزنوك بمشاريعهم الإفسادية فأحزنهم بأعمالك الدعوية، وأصدُق مع ربك ومولاك فإنه نِعْم المولى ونِعْم النصير. وحينئذ .. سيعلم المفسدون من أضعف ناصراً وأقل عددا.

كتبه / منصور بن محمد الـمقرن