العفو عزة ورفعة

منذ 2021-09-16

ألا ما أحلى مذاق عفو الاقتدار! إن له لطعمًا ألذ من الشهد على شفاه الحلماء، وأثلج في صدورهم من الماء البارد على الظمأ، وأروح لأنفسهم من نسيم الصبا في هجير الصيف.

ألا ما أحلى مذاق عفو الاقتدار! إن له لطعمًا ألذ من الشهد على شفاه الحلماء، وأثلج في صدورهم من الماء البارد على الظمأ، وأروح لأنفسهم من نسيم الصبا في هجير[1] الصيف.

 

لقد كان العرب الأولون في جاهليتهم يتفاخرون بالبغي على بعضهم البعض، وبشدة بطشهم بمن أساء إليهم، حتى قال قائلهم:

أَلَا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا ♦♦♦ فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا

 

فأتى الإسلام ليكبح جماح هذا الشرر المتطاير، الذي إن بدأ لا يبقي ولا يذر، ويكفكف غلواء هذه النفوس الطائشة، وغضبها العارم، ليردها إلى القصد والاعتدال، ثم يجذبها ويحببها في فضيلة العفو والإحسان، ويزين لها بعظيم الأجر والمنزلة ما كانت تعده قبل ذلك بلاهة ووضاعة ودنيَّة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما زاد اللهُ عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضَعَ أحدٌ لله، إلا رفَعَهُ اللهُ» (رواه مسلم).

 

فتغيرت الموازين، وتبدلت المفاهيم، بل اعتبر الإسلام أن العفو عند المقدرة، والصفح عن الزلات من دلائل التقوى، وصدق الإيمان، فقال - تعالى - في محكم آياته: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237].

 

خيرٌ لك وكمال:

والإنسان قد يكظم غيظه وربما بقيت في نفسه من حيث لا يعلم إلا الله آثار من حقد وضغينة تغلي بها نفسه، ويفور بها قلبه، فتتحول إلى إحنة تتلهب، وتنتظر الوقت الذي تنفجر فيه وتدمر.

 

أما المسلم الحق الذي أشربت نفسه الإيمان والتقوى فلا يحقد، ولا يضغن على مسيء أو مخطئ في حقه، بل يتبع كظم غيظه بالصفح والعفو؛ لينال ثواب المحسنين، قال - تعالى -: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}  [آل عمران: 134].

 

فالرغبة في الانتقام، والانشغال بها ليسا من طباع أولي القلوب العامرة بالإيمان التي تشعر حين تصفح أنها انطلقت في آفاق نورانية، ورفرفت في أجواء ملائكية، وشعرت ببرد السكينة والطمأنينة في صدرها وقلبها، لأنها قهرت هواها ونزغات الشيطان؛ طلبًا لما أعده الله لها في محكم آياته، حين قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]؛ أي: من عفا عمن ظلمه، وأصلح بالعفو ما بينه وبين ظالمه فإن الله - سبحانه - يأجره على ذلك، وأبهم الأجر تعظيمًا لشأنه، وتنبيهًا على جلالته، وقد أسنده - سبحانه - إلى نفسه ليكون أبلغ في التعبير عن كثرته وعظمته وفضله، ومن ثمَّ فالمسلم الحق لا يأنف من المسارعة إلى العفو عن أخيه، والتغاضي عن ذلته، ولا يرى في صفْحِه عمن أساء إليه ذلًا يحيق به، أو عارًا يلحقه، أو دنية يخشاها، بل يرى فيه إحسانًا يزيده من الله قربًا، وعملًا يدنيه من الجنة سببًا، قال - تعالى -: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].

 

أزكى وأطهر:

فهذا زين العابدين بن علي يطلب من خادمه ماء ساخنًا، فيأتيه الغلام بالماء الساخن، وما إن يصل إلى سيده به، حتى يتعثر فيسقط الماء الساخن على جسد سيده، فتؤلمه سخونة الماء، وتظهر علامات الغضب على زين العابدين، فيسرع الغلام الذي تربى في بيت الصلاح والتقوى قائلًا: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134]، فيقول زين العابدين: كظمت غيظي، فيقول الغلام: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}  [آل عمران: 134]، فيقول زين العابدين: عفوت عنك، فيكمل الغلام الآية قائلًا: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، فما يكون من زين العابدين إلا أن يكافئ هذا الغلام الذكي الذي أنجاه من مصيدة الغضب والسخط بكلمات القرآن الندية، وذكَّره بفضائل العفو والإحسان العلية، فقال في رضا وأريحية: اذهب فأنت حر لوجه الله.

 

وهكذا النفس العظيمة حقًا، كلما حلقت في آفاق الإيمان والكمال اتسع صدرها، وامتد حلمها، وغلب صفحُها غضبَها، فهي تعذر الضعف البشري، وتلتمس الأعذار للمخطئين والمقصرين، فإذا عدا عليها غرٌّ تافه نظرت إليه من قمتها كما ينظر العملاق إلى صبية يلعبون في الطريق وقد يرمونه بالأحجار.

 

ولأن الصفح والعفو من دلائل العظمة، وعمق الإيمان، فقد كان النبي يعلمهما أصحابه، فقد جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كم أعفو عن الخادم؟ قال: «كلَّ يوم سبعين مرة»  (رواه الترمذي).

 

إن إيثار العفو على العقاب والتأديب هنا، لا يعني إلا تنقية للقلب من الضغائن، وترك الانشغال بما أسلف الآخرون إليك من سيئات، فهذا الانشغال لا ثمرة له إلا تراكم الحزازات، وطول الشكايات، وقد ذكرت إحدى المجلات، أن أبرز ما يميز الذين يعانون ضغط الدم العصبي هو سرعة انفعالهم، واستجابتهم لدواعي الغيظ.

 

سموٌّ يتلألأ:

ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلًا أعلى في هذا الخلق الكريم، والفضيلة الحسنة، ولو أننا استعرضنا صفحات حياته - صلى الله عليه وسلم - لرأيناها تفيض وتزخر بمواقف العفو والصفح، التي تجعلنا نمتلئ إعجابًا، ونفخر أعظم الفخر بسيرته - صلى الله عليه وسلم - ومنها على سبيل المثال موقفه من زعيم المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول الذي كان يشيع حادثة الإفك حول أم المؤمنين عائشة، ويجرح النبي - صلى الله عليه وسلم - في عرضه، والأعراض كان لها موقع القداسة عند العرب جميعًا حتى قبل الإسلام، إضافة إلى كونه قبل ذلك كان حيّاكا للمؤامرات، متربصًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الدوائر، لا يترك فرصة للنيل من الإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم - إلا انتهزها، ومع ذلك، وبعد أن أظهر الله براءة عائشة، يأتي ولد هذا المنافق ليطلب منه الصفح عن أبيه فيصفح، ثم يطلب منه قميصه ليكفن أباه به فيعطيه، ثم يطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي على أبيه ويستغفر له، فيفعل.

 

كل هذا العفو بعد كل ما صنع بك يا رسول الله، ألا ما أحلمك وأرحب صدرك، وأعظم نفسك يا رسول الله!

 

فمن منا حدث له معشار ما حدث لنبيه - صلى الله عليه وسلم -؟ فما لنا لا نعفو عن أقرب الناس إلينا أحيانًا؟

 

مكافأة العفو:

ولعل من المناسب أن نذكر هنا أن أبا بكر أيضًا تعرض لمثل ما تعرض له النبي - صلى الله عليه وسلم - من تعدٍّ على عرضه، والعجيب أن الذي خاض مع المنافقين وآذّى أبا بكر في حديث الإفك هو قريب له كان يعيش على إحسانه، ومع هذا لم يتورع عن إلقاء الكلام في حق السيدة عائشة ابنة أبي بكر، متناسيًا لحق الإسلام وحق القرابة وحق إحسان والدها إليه، وأراد أبو بكر أن يعاقب قريبه أبسط عقاب، حيث حلف ألا ينفق على هذا القريب، وألا ينفعه بنافعة أبدًا.

 

لم يبارزه أبو بكر بالعداوة، ولم يُعيره بفقره، أو يمنّ عليه بسالف عطائه وإحسانه بعد أن برّأ الله عائشة، ومع ذلك نزلت الآيات لتسمو بأبي بكر فوق سُموه، لأنه أكبر وأفضل من أن تستفزه إساءة أو جهالة، فقال - تعالى -: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22].

 

فما كان من أبي بكر إلا أن عاد إلى النفقة عليه قائلًا: بلى والله، أحب أن يغفر الله لي.

 

هكذا سارع وبادر أبو بكر إلى العفو بعدما علم أن العفو والإحسان ليس لهما جزاء إلا العفو والإحسان، وكان يرى - رضي الله عنه - أنه في أمس الحاجة إليهما وهو من هو منزلة في الإسلام، ألا ما أعظم نفسك، وما أسمح فؤادك الزَّكيَّ يا أبا بكر!.

 

لا نتعاتب..ولكن نتغافر:

لذا فقد كان ديدن الصالحين إذا حمل أحدهم للآخر شيئًا في نفسه فقال: تعال نتعاتب. صحح له أخوه القول ونصحه قائلًا: بل تعال نتغافر.

 

إذ بدلًا من أن نصب الاتهامات، ونكيل اللوم لبعضنا، يحسن بنا أن نلتمس لبعضنا الرحمة والعفو والمغفرة.

 

وكيف لا يفعلون- وكيف لا نفعل نحن أيضًا - وسيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - تنضح بمواقف العفو والصفح؟! وأشهرها يوم الفتح العظيم حين مكّنه الله من رقاب من آذوه وسعوا لاغتياله، فلما وقف أمامهم قال: «لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطُّلَقاء»، هكذا بمنتهى البساطة ينسى الإساءة، ويتجاوز عمن دبروا أبشع المؤامرات لسفك دمه - صلى الله عليه وسلم -، دون شروط، ودون مَنٍّ.

 

وحين رأى - صلى الله عليه وسلم - عمَّه حمزة وقد بُقرت بطنه، ومُثّل به أشنع تمثيل هو وبعض الصحابة، بكى وغضب وأقسم أن ينتقم ويُمثل بسبعين منهم إن مكّنّه الله منهم، فنزلت الآيات: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126].

 

فآثر النبي وأصحابه الصبر الجميل، وعفوا عما سلف من تمثيل بقتلاهم، فما كان للمؤمنين أن ينزلقوا إلى تلك الهوة العميقة من جرائم الحقد الأسود، ولا أن يجرهم عدوهم إلى مثل هذه الميادين القذرة من التعامل ولو في الحرب، وهكذا لم يرُدَّ المسلمون الإساءة القبيحة بمثلها وإن كان المسيئون كفارًا، فكيف بنا الآن مع من أخطأوا في حقنا، أو أساءوا إلينا، وربما كانوا أقاربًا أو أحبابًا أو أصدقاء؟

 

وما أحسن قول الشاعر:

إِذَا كُنْتَ فِي كُلِّ الأُمُورِ مُعَاتِبًـــا   ***   صَدِيقَكَ لَمْ تَلْقَ الَّذِي لاَ تُعَاتِبُهْ 

فَعِشْ وَاحِدًا أَوْ صِلْ أَخَاكَ فَإِنَّهُ   ***   مُقَارِفُ ذَنْبٍ تَارَةً وَمُجَانِبُـــــهْ 

 

وقول الآخر:

وَمَنْ ذَا الَّذِي تُرْضَى سَجَايَاهُ كُلُّها ♦♦♦ كَفَى المَرْءَ نُبْلًا أَنْ   تُعَدَّ   مَعَايِبُهْ

 


[1] الهَجير والهاجِرة: اشتدادُ الحَرِّ نصفَ النهار. والتهجيرُ والتَهَجُّر والإهجار: السَّيْر في الهاجِرَة.