الحرص على البكور

منذ 2023-05-23

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهمَ باركْ لأمتي في بكورِها»

 الحمـد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فعن طَارِقِ بْنِ أَشْيَمَ الأَشْجَعِيِّ قَالَ‏:‏ كُنَّا نَغْدُو إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَجِيءُ الرَّجُلُ وَتَجِيءُ الْمَرْأَةُ، فَيَقُولُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللهِ: كَيْفَ أَقُولُ إِذَا صَلَّيْتُ‏؟ ‏ فَيَقُولُ‏:‏ قُلِ‏:‏ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي فَقَدْ جَمَعَتْ لَكَ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ».‏


الغُدُو: هو الوقت الباكر في أول النهار ما بين طلوع الفجر إلى ما قبل طلوع الشمس، فهذا يقال له: الغَداة، ويقال له: الغُدو. وهو باكورة اليوم وأوله. وهذا يدل على حرصهم رضي الله عنهم على الخير وعلى التبكير بالذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كيف لا وهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا للأمة في هذا الوقت بالبركة؛ كما جاء في الحديث: «بورك لأمتي في بكورها».


وكمـا ورد في حديث صخر بن وداعة الغامدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " «اللهمَ باركْ لأمتي في بكورِها» " . قال : وكان إذا بعث سريةً أو جيشًا، بعثهم أولَ النهارِ .
وكان صخرُ رجلًا تاجرًا . وكان إذا بعث تجارةً بعثهم أولَ النهارِ، فأثرى وكثر مالُه.
وقد وصف الله تعالى عباده المؤمنين بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ.رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ.لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36-38]. والغدو في الآية البكور وقت صلاة الصبح، والآصال وقت العصر.

المقصود بالبكور:
جاء في فتاوى إسلام ويب: (والظاهر أن المراد بأول النهار ما كان في وقت صلاة الصبح، بعد انتشار ضوء الفجر الصادق وأداء صلاة الفجر، وينتهي عند شروق الشمس وارتفاعها وابتداء انتشار حرها، أي عند ابتداء وقت الضحى، قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران:41] وأما الإبكار فإنه مصدر من قول القائل: أبكَرَ فلان في حاجة فهو يُبْكِر إبكارًا، وذلك إذا خرج فيها من بين مطلع الفجر إلى وقت الضُّحى فذلك إبكار، يقال فيه: أَبكَرَ فلان وبَكَرَ يَبكُر بُكورًا.


وذلك، لأن بين هذينِ كان وقت ابتداء العمل في زمن النبوة وما بعده إلى عصرٍ قريب، ولهذا خُصَّ بالدعاء، قال ابن بطال: ما روي عنه صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك لأمتي في بكورها ـ لا يدل أن غير البكور لا بركة فيه، لأن كل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه البركة ولأمته فيه أكبر الأسوة، وإنما خص صلى الله عليه وسلم البكور بالدعاء بالبركة فيه من بين سائر الأوقات ـ والله أعلم ـ لأنه وقت يقصده الناس بابتداء أعمالهم وهو وقت نشاط وقيام من دَعَة فخصه بالدعاء، لينال بركة دعوته جميع أمته. اهـ.


قال ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين عند شرح هذا الحديث: لكن وللأسف أكثرُنا اليوم ينامون في أول النهار ولا يستيقظون إلا في الضحى فيفوت عليهم أول النهار الذي فيه بركة. اهـ. وقوله: فيفوت عليهم أول النهار الذي فيه بركة ـ يعني البركة الخاصة التي دعا بها النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الوقت).

ولهذا؛ فهو وقتٌ ثمين نفيس ينبغي على المسلم أن يحرص على الفوز ببركته باستيقاظه في هذا الوقت لصلاة الفجر وقضاء الوقت إلى الشروق في الأذكار، ولا يُضيِّعه في النوم والكسل أو في غير ذلك.


والعادة أن ما يكون من الإنسان في أول اليوم ينسحب على بقية اليوم؛ إِنْ نشاطا فنشاط وإِنْ كسلا فكسل، ولهذا قال بعض السلف: "يومك مثل جملك إن أمسكت أوله تبعك آخره" أي إذا حفظتَ أول اليوم فإنَّ بقية اليوم يُحفظ لك.
ولهذا؛ جاء في صحيح مسلم أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أخذ يُسبِّح الله -تبارك وتعالى- حتى طلعت الشمس، فلما طلعت قال: "الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا، ولم يعذبنا بذنوبنا".، قال هذا الكلام: "الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا" مع أنه في أول اليوم ! وهذا فيه شاهد على أنَّ العبد إذا حفظ أول اليوم بالذكر والطاعة سَلِم له يومه، وحُفِظ له يومه كاملا، وهذا معنى قول بعض السلف: "يومك مثل جملك إن أمسكت أوله تبعك آخره".


ولهذا؛ يقول بعض العلماء كلامًا لطيفًا في هذا الباب: "أول اليوم شبابه وآخر اليوم شيخوخته ومن شبَّ على شيءٍ شابَ عليه"، فإذا شبَّ الإنسان في أول اليوم على الذِّكر بقي اليوم محفوظًا، وإذا كان في خلاف ذلك؛ في الكسل أو في النوم أو في الفتور.. أو في غير ذلك من الأمور؛ فإنه يشبُّ عليها ويأتي عليه آخِر اليوم وهو كذلك.


وقد كانت العادة عند المسلمين أن يناموا مبكرا ويستيقظوا مبكرا فيصلون الفجر ويذكرون الله تعالى ثم يذهبون إلى أعمالهم وتجاراتهم ففازوا ببركة عجيبة، بخلاف أكثر المتأخرين الذين ينامون متأخرين ويستيقظون متأخرين؛ فيحرمون من بركة هذا الوقت العظيم الذي دعا النبي بالبركة فيه لأمته.


والنائِمُ إلى ما بعد صلاةِ الفجر يُصبح خبيثَ النَّفْس كسلان، ومَن استيقظَ ساعتها يُصبح نشيطًا، كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «يَعقِد الشيطانُ على قافيةِ رأس أحدِكم إذا هو نامَ ثلاثَ عُقدٍ، يضرب كلَّ عقدةٍ: عليك ليل طويل فارقدْ، فإنِ استيقظَ فذكَر الله انحلَّتْ عُقدة، فإنْ توضَّأ انحلَّتْ عُقدة، فإنْ صلَّى انحلَّت عُقدة فأصبح نشيطًا طيِّبَ النفْس، وإلاَّ أصبحَ خبيثَ النَّفْس كسلان».
كما أنَّ مَن قام في البُكور وصلَّى الفجرَ فهو في ذِمَّة الله، وكفَى بها نِعمة؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «مَن صلَّى الصُّبحَ فهو في ذِمَّةِ اللهِ»، أي في أمانه وضمانته، فأيُّ فضلٍ وأيُّ خير أعظمُ مِن هذا الفضل.
ومن ثمرات وفوائد الاستيقاظ في هذا الوقت المبارك الفوز ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لن يلجَ النارَ أحدٌ صلَّى قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غُروبِها».


ومن أعجب الأجور وأحلاها وأعظمها عند المؤمنين، المحرضة على اغتنام هذا الوقت المبارك والحرص على صلاة الفجر والعصر، ذلك الحديث الذي يبشر من حافظ على هاتين الصلاتين في وقتها، بأنه يرى ربه يوم القيامة، وهذه من أعظم البشارات، ولو لم يكن من فضل المحافظة على صلاتي الفجر والعصر في أوقاتهما إلا رؤية الله تعالى لكفى، وقد كان عليه الصلاة والسلام يدعو الله تعالى أن يرزقه النظر إلى وجهه الكريم، وهو أعلى نعيم على أهل الجنة، وأقسى عذاب أهل النار حجابهم عن رؤية الله تعالى، قال جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: «إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، فافعلوا». ولا يمكن لمن كانت عادته النوم في وقت البكور أن يتمكن من صلاة الفجر.
ونختم في التحذير من تضييع هذا الوقت المبارك بقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
(ونوم الصبحة يمنع الرزق، لأن ذلك وقت تطلب فيه الخليقة أرزاقها، وهو وقت قسمة الأرزاق، فنومه حرمان إلا لعارض أو ضرورة، وهو مُضر جداً بالبدن لإرخائه البدن، وإفساده للعضلات التي ينبغي تحليلها بالرياضة، فيحدث تكسراً وعِيّاً وضعفاً...).
والحمد لله رب العالمين.