من كنوز الخير

منذ 2021-09-29

فإن للصبر عند الله منزلةً عظيمة، ومرتبة عالية شريفةً لا ينالها إلا المتقون، ولا يحظى بها إلا المخلصون، والصبر من أخلاق النفس الفاضلة، به تقوى النفوس وترتفع العزائم، ويصلح أمر الدين والدنيا.

الحمد لله الحليم المنان، والشكر له على جزيل الفضل والإحسان، والصلاة والسلام على النبي المصطفى العدنان، وعلى آل بيته الأطهار وصحابته الأخيار، وبعد:

فإن للصبر عند الله منزلةً عظيمة، ومرتبة عالية شريفةً لا ينالها إلا المتقون، ولا يحظى بها إلا المخلصون، والصبر من أخلاق النفس الفاضلة، به تقوى النفوس وترتفع العزائم، ويصلح أمر الدين والدنيا.

 

قال سعيد بن جبير: الصبر اعتراف العبد لله بما أصابه منه، واحتسابه عند الله، ورجاء ثوابه، اهـ.

وقال الجنيد - وقد سئل عن الصبر -: هو أن تتجرَّع المرارة من غير تعبُّس، اهـ.

وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: وجدنا خير عيشنا بالصبر.

وقال الحسن: الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده.

 

والصبر منزل من منازل المتقين، وقد وصف الله - تعالى - الصابرين بأوصاف عديدة، وذكر الصبر في القرآن في تسعين موضعًا، كما قال الإمام أحمد - رحمه الله.

 

وقد جعل الله - سبحانه وتعالى - ثواب المتخلقين بهذا الخُلق الجليل الدرجات العُلى، وجعله صفة للهداية؛ فقال سبحانه:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، ووعد الله - سبحانه - الصابرين بالأجور العظيمة دون نقصان، فقال سبحانه: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96]، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: 54]، ويقول الشاعر:

إِنَّ الأُمُورَ إِذَا سُدَّتْ مَطَالِبُهَــــــــــــــا   ***   فَالصَّبْرُ يَفْتِقُ مِنْهَا كُلَّ مَا ارْتُتِجَا 

لَا تَيْأَسَنَّ وَإِنْ طَالَتْ مُطَالَبَــــــــــــــةٌ   ***   إِذَا اسْتَعَنْتَ بِصَبْرٍ أَنْ تَرَى فَرَجَا 

أَخْلِقْ بِذِي الصَّبْرِ أَنْ يَحْظَى بِحَاجَتِهِ   ***   وَمُدْمِنِ الْقَرْع ِ لِلأَبْوَابِ أَنْ يَلِجَا 

 

ثم انظر إلى هذا الفضل العظيم من صاحب الفضل والمنَّة - سبحانه وتعالى - حيث جعل الأجر على الصبر بلا حساب، فما من قربة إلا ولها أجر مقدَّر إلا الصبر؛ قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وكذلك من أعظم ما نراه في الصبر من كلام الله - سبحانه وتعالى - أنه علَّق النَّصر بالصَّبر، حيث قال في كتابه الجليل: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ}  [آل عمران:125]، وقد حثَّ نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - على الصبر ورغَّب أصحابَه فيه، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - قدوتهم الأولى ومثلهم الأعلى في الصبر وتحمُّل الأذى، فالحديث عن صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الحديث عن حياته كلِّها، فقد كانت حياته - صلى الله عليه وسلم - صبرًا لا ينقطع منذ أن نزلت عليه أول آية وحتى آخر لحظة في حياته.

 

والصبر ضياءٌ ونور للمؤمن، كما أخبر بذلك - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: «الصبر ضياء»؛ جزء من حديث أخرجه مسلم في "صحيحه" برقم (223).

 

وقال في حديث آخر مبيِّنًا عظيم أجر الصابرين وفضيلته: «لو كان الصبر رجلًا لكان كريمًا، والله يحب الصابرين».

 

ومنه أخذ الحسن البصري قوله:‏ الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لكريم عنده‏.

 

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كلَّه خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له»  (أخرجه مسلم في "صحيحه" برقم (2999).

 

وقد جاء في رسالة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري: عليك بالصبر، واعلم أن الصبر صبرانِ، أحدهما أفضل من الآخر: الصبر في المصيبات، وأعظم منه الصبر عمَّا حرم الله - تعالى.

 

وقال أبو الدرداء: ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضاء بالقدر.

 

ولنا في صبر الأنبياء - صلوات الله عليهم - أروع الأمثلة، فهذا يعقوب - عليه السلام - صبر على فراق يوسف - عليه السلام - وأيوب صبر على المرض، ويونس صبر على الظلمات الثلاث، وصالح ولوط صبرا على إيذاء قومهما لهما، ثم انظر إلى صبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وما تحمَّله من قومه من الأذى، وشتَّى أنواع الظلم، والاضطهاد في سبيل الدعوة إلى الله، فكان - صلى الله عليه وسلم - عَلمًا في الصبر وقدوةً للصابرين من بعده.

 

ومن المواقف التي يتجلَّى فيها صبرُه - عليه الصلاة والسلام -:

ما تعرَّض له من أذًى جسدي مِن قومه وأهله، وهو بمكة يبلِّغ رسالة ربِّه، ومن ذلك ما ورد عند البخاري: أن عروة بن الزبير سأل عبد الله بن عمرو بن العاص عن أشدِّ شيء صنعه المشركون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي في حجر الكعبة إذْ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبَه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: أتقتلون رجلًا أن يقول: ربي الله"؛ أخرجه البخاري في "صحيحه" برقم (3643).

 

ولم يكن صبره - صلى الله عليه وسلم - مقتصرًا على الأذى والابتلاء، بل شمل صبره على طاعة الله - سبحانه وتعالى - حيث أمره ربُّه بذلك في قوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، وقوله - تعالى -: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، فكان - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في طاعة ربِّه حتى تتفطر قدماه من طول القيام، وكان يقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»  (أخرجه البخاري في "صحيحه" برقم (4556).

 

فلقد صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته بهذا الخلق مثالًا حسنًا، ليقتدي به أصحابه والتابعون من بعدهم، فهذا أبو أيوب الكاتب عندما حُبس في السجن خمس عشرة سنة حتى ضاقت حيلته، وقلَّ صبره، فكتب إلى بعض إخوانه، يشكو له طول حبسه، فردَّ عليه جواب رقعته بهذا:

صَبْرًا أَبَا أَيُّوبَ صَبْرَ مُبَـــــرِّحٍ    ***   فَإِذَا عَجَزْتَ عَنِ الخُطُوبِ فَمَنْ لَهَا؟ 

إِنَّ الَّذِي عَقَدَ الَّذِي انْعَقَدَتْ لَهُ   ***   عُقَدُ المَكَارِهِ فِيكَ يَمْلِكُ حَلَّهَــــــــا 

صَبْرًا فَإِنَّ الصَّبْرَ يُعْقِبُ رَاحَـةً   ***   وَلَعَلَّهَا أَنْ تَنْجَلِي وَلَعَلَّهَــــــــــــــــا 

 

فأجابه أبو أيوبَ قائلًا:

صَبَّرْتَنِي وَوَعَظْتَنِي وَأَنَا لَهَــــــا   ***   وَسَتَنْجَلِي بَلْ لَا أَقُولُ لَعَلَّهَا 

وَيَحُلُّهَا مَنْ كَانَ صَاحِبَ عَقْدِهَا   ***   كَرَمًا بِهِ إِذْ كَانَ يَمْلِكُ حَلَّهَــا 

 

فلم يلبث بعد ذلك في السجن إلا أيامًا، حتى أُطلق مُكرمًا.

 

وفي مراتبِ الصبر يقول ابن القيم - رحمه الله -:

الأولى: الصبر بالله، ومعناها الاستعانة به، ورؤيته أنه هو المصبِّر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه؛ كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127]؛ يعني: إن لم يُصبِّرك الله لم تصبر.

 

الثانية: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله - تعالى - وإرادة وجهه والتقرُّب إليه، لا لإظهار قوة نفسه أو طلب الحمد من الخلق، أو غير ذلك من الأغراض.

 

الثالثة: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله منه ومع أحكامه، صابرًا نفسَه معها، سائرًا بسيرها، مقيمًا بإقامتها، يتوجَّه معها أينما توجَّهتْ، وينزل معها أينما نزلتْ، جعل نفسه وقفًا على أوامر الله ومحابِّه، وهذا أشد أنواع الصبر وأصعبها، وهو صبر الصِّدِّيقِين.

 

نسأل الله العظيم أن يجعلنا من الصابرين الصادقين، إنه بكلِّ جميل كفيل، وهو حسبُنا ونعم الوكيل.

____________________________________
الكاتب: طارق محمد امعيتيق