الفهم الصحيح لحديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله...)

منذ 2021-10-04

في عصرٍ انتشرت في منصات التواصل الاجتماعي، انتشار النار في الهشيم، وأصبح من شاء يتكلم بما شاء، دون حسيب أو رقيب، نجد أنفسنا مضطرين لقراءة بعض المنشورات التي ظاهرها العلم والثقافة والحرص على دين الله

الحمد لله والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ وبعد:

 

ففي عصرٍ انتشرت في منصات التواصل الاجتماعي، انتشار النار في الهشيم، وأصبح من شاء يتكلم بما شاء، دون حسيب أو رقيب، نجد أنفسنا مضطرين لقراءة بعض المنشورات التي ظاهرها العلم والثقافة والحرص على دين الله، وباطنها الجهل والافتيات على أهل التخصص، ومآلها الطعن في دين الله بقصد أو بغير قصد؛ لذا وجب على كل من أنعم الله عليه بالعلم الشرعي أن يتصدوا لهذه الفوضى، ببيان العلم الشرعي للناس، تعليمهم أصول دينهم؛ ليكون عندهم حصانة ومناعة ضد الشبهات، بجهد لا يقل عن جهدهم التوعوي لتحصين شباب وبنات المسلمين ضد الشبهات؛ ففتن الشبهات أكثر ضررًا من فتن الشهوات، كما لا يخفى على ذي علم؛ فالشهوات قد يتوب منها الشخص لعلمه أنه على خطأ، أم الشبهات فإنه يرى نفسه على الصراط المستقيم، وأن غيره في الضلال المبين، ومما ابتلي به شباب وبنات المسلمين في عصرنا الحالي، مجموعة ممن يسمون أنفسهم بالمفكرين يدعون شباب المسلمين لنقد تراثهم، والجرأة على تفسير النصوص، ويجمع هؤلاء الناس بعض الصفات المشتركة التي لم تأت محض الصدفة:

1- عدم وجود منهجية واضحة ثابتة يمكن الانطلاق منها، بل إنهم يتهربون من توضيح منهجهم في قراءة النصوص إلى كلام عام بقولهم (أنا أحكم عقلي)، وهذا الكلام المعسول يجذب كثيرًا من شباب وبنات المسلمين دون وعي؛ فلا أحد ينكر تحكيم العقل، فالعقل مناط التكليف، الذي هو أقل رتبة من الاجتهاد، فكيف بالاجتهاد في تفسير النصوص أن لا نرجع للعقل ونقوم بتحكيمه، فجوهر الخلاف ليس في ذات العقل، إنما في المنهجية العلمية التي يسلكها هذا العقل، فعقول الناس في البيت الواحد مختلفة، وعقل الشخص الواحد يختلف كل فترة، فتراه ينكر رأيا ذهب إليه عقله في الماضي مع وجود نفس العقل له، ومن هنا فلا بد من منهجية واضحة يمشي عليها العقل، ولكل تخصص وفن أهله من العقلاء الذين وضعوا له منهجًا واصطلحوا عليه،ومن هنا قالوا: (من لم يتقن الأصول، حرم الوصول).

 

2- اجتزاء النصوص، وتفسيرها بعيدًا عن سياقها، وبحثهم عن كل تأويل بعيد، والجرأة على مخالفة إجماع الأمة، وعدم دراستهم وقائع الأحوال والظروف التي نزلت فيها هذه النصوص، وجعلهم مصيبة أمتنا في تحريف معنى نص من النصوص، وكأننا إن أخذنا برأيهم سنصبح في أوائل الأمم.

 

3- الدعوة إلى إسقاط القدوات، ونقد التراث، وهدم المقدسات، وأمة لا تاريخ لها لا حاضر ولا مستقبل لها، ومن هنا فإنهم يسعون لإسقاط كل شخصية اعتبارية يعتز بها المسلمون، في الوقت الذي يسعون فيه لتمجيد شخصيات أخرى بصريح العبارة أو إشارتها.

 

4- الولع بالغرب وتتبع أخبارهم والسعي للاقتداء بهم وتمجيدهم، وكأننا أمة لا يراد منها سوى الحصول على أفضل الطعام واللباس والمصنوعات، وينسون الهدف الأساسي من الخلق، والهدف الأسمى لكل مسلم، والمفهوم الصحيح لعمارة الأرض.

 

5- عدم وجود مشروع عملي ينفع الناس، فجلّ اهتمامهم في إسقاط القدوات، ونقد النصوص، ولما تسألهم ما غايتكم من ذلك؟ يقولون كي نلحق بركب الأمم؟ فلماذا لا تلحقوا لوحدكم وتتركونا وشأننا، ألا ترى أن المقطع الواحد لهؤلاء عليه آلاف الإعجابات والمشاركات، فلو كان لهم منهج ومشروع عملي كما يدعون لاستطاعوا بطاقاتهم وعقولهم كما يزعمون، أن ينفعوا الأمة بصناعة مركبة فضائية، أو إقامة مدرسة بإحدى الدول الفقيرة، وغير ذلك من المشاريع التي بإمكانهم القيام بها؛ وبالاستقراء فإن مشروعهم العملي الوحيد: تشكيك شباب وبنات المسلمين بثوابتهم وتركهم بلا دليل وهاد يهديهم ويرشدهم إلى سواء السبيل.

 

6- الانعزال عن المجتمع والعيش في عالم آخر، يخلق انسانًا يعيش معنا بجسده، لكنه بعيد عنا بفكره وعقله، وهذه من أخطر النقاط، حيث يربون أتباعهم على أنهم أذكى من غيرهم، وأفضل من غيرهم، ولا فرق بينهم وبين أي عالم، فيأتونهم من جانب نقص في شخصيتهم، فينتج لدينا شاب منعزل عن واقعه ومجتمعه، فاشل اجتماعيًا، محطمٌ نفسيًا، لا يُجيد سوى فن الكلام فيما لا يعنيه، وبما لا ينفعه.

 

7- التلبيس على الأتباع، فيدعون أنهم ما قاموا بذلك إلا حماية للقرآن من الطعن، أو تنزيهًا للرسول من الخطأ، وغير ذلك من المصطلحات الرنّانة التي أصبحت لا تنطلي على أحد، فالملاحظ أن من يتجرأ على الطعن في حديث صحيح، سينتهي به المطاف للطعن في جل الأحاديث وصولًا للطعن في القرآن الكريم أو الاضطرار لتأويل نصوصه تأويلًا بعيدًا يفرغ القرآن من مضمونه وجوهره، ليكون مجرد كتاب وعظ وإرشاد، لا دستور ومنهج حياة للعباد والبلاد.

 

8- الانطلاق والبناء على ما يعلمون دون تقديرهم لما يجهلون، وهذه صفة بارزة في أغلبهم، نراه يقرأ كتابًا أو مقالًا، أو يشاهد لقاء تلفزيونيًا، ثم ينطلق منها وكأنها مسلّمات لا يعلما غيره، ولا يوجد علم غيرها، وهذا من أهم المزالق التي يقعون بها؛ فكما قيل: من حاز العلم جملة، ذهب عنه جملة، ولما سئل حكيم: ما الحكمة؟ فقال: أن تميز بين الذي تعرفه والذي تجهله، ومن هنا جاءت النصوص والآثار تحث على تزكية النفوس وعدم الاغترار والغرور، فكلما زاد علم الشخص زادت معرفته بجهله، وبالتالي يزيد من تواضعه، والعكس صحيح.

 

9- التجرؤ على مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق مباشر أو بطريق غير مباشر لكن يلزم منه الطعن في مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم تنحصر في كونه مبلغًا للقرآن الكريم فقط، دون أن يكون كلامه مطاعًا وتفسيره للقرآن قولًا وعملًا مقدمًا على غيره، ودون تعظيم لمقام عصمته وأنه لا يُقر على خطأ ولا ينطق عن الهوى.

 

10- حصرهم التقديس في شيء معين متفق على تقديسه، ولكن لا يعتبرون أن ما خرج من المقدس يأخذ نفس درجة التقديس، وذلك من منهج التدليس الذي عندهم، فمثلًا يقولون: القرآن هو الكتاب المقدس عندنا وما سواه قابل للنقد، فنقول لهم: إن القران أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بشكل صريح واضح في عدة آيات محكمة؛ {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}  [النساء: 59][1]، بل لم يكتفي بهذا التصريح بوجوب طاعته صلى الله عليه وسلم فحذّر من مخالفة أمره؛ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63][2]، وأعطى قدسية لكلامه فجعله وحيًا من عنده سبحانه؛ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4][3]، فلماذا لا تعتبرون هذا الأمر مقدسًا؟ إن القرآن أمر بسؤال أهل العلم عند الجهل، فلماذا لا تعدون هذا الأمر مقدسًا، إن القرآن دلّ على الإحكام بطريقين: الأول: بيان الحكم مباشرة، الثاني: بيان الطريق الذي تؤخذ من الأحكام، تجدهم ينكرون ذلك ويراوغون.

 

كان لا بد من هذه المقدمة للحكم الصحيح على عنوان بحثي المختصر، فمن الأخطاء الشائعة عند بعض طلبة العلم انزلاقهم في نقاش جزئيات وشبهات تطرح عليهم، يضيعون بها أوقاتهم، مع أن الأفضل نقاش المنهج والأرضية التي بنيت عليها هذه الأفكار، ومعرفة المرتكزات المهمة في كل قضية، فالفروع مبنية على الأصول، والأحكام مبنية على قواعد منهجية، ومن لا يوافقك في الأصول لن يوافقك في الفروع، ومن لا يوافقك في القواعد المنهجية لن يوافقك في الأحكام النهائية، فكلها مبنية على بعضها البعض، فما فائدة أن تناقش شخصًا ينكر وجود الله، في مسألة وجوب الصلاة؟ وما فائدة ان تناقش شخصًا ينكر أن القرآن كلام الله، في مسألة طاعة النبي، وما فائدة أن تناقش شخصًا ينكر حجية السنة في مسألة تحريم اقتناء الكلاب لغير حاجة شرعية، فالمنهج العقلي الصحيح أن تبدأ بمعرفة النقاط المشتركة بينكم ومن ثم الانطلاق لنقاط الخلاف، فهي السبيل الوحيد لضبط النقاش، بحيث تقوم بإرجاع الطرف الآخر لما أقر به من قواعد مشتركة، وبهذا تبين له أن استنتاجه وما ذهب إليه مبني على قواعد أوهى من بيت العنكبوت.

 

وعودًا للحديث الذي هو محور هذا البحث، حيث يطعن بعضهم في صحيح البخاري لإيراده هذا الحديث زاعمين أن هذا الحديث مخالف للقرآن الكريم وقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] [4]، وأن هذا الحديث مخالف لقيم التسامح والتعايش مع الآخر، ويدعو المسلمين لقتل غيرهم أينما ثقفوهم، وغير ذلك من الشبهات التي لا دليل عليها سوى في فهمهم الظاهري (السطحي) للحديث، وبدلًا من بحثهم العلمي، أو حتى سؤالهم أهل العلم، وجدو أقصر طريق لديهم أن يطعنوا في هذا الحديث باستخدام شعارات رنّانة، مثل قول أحدهم: (كيف آخذ سيف وأقوم بقتل جيراني غير المسلمين؟ كيف الرسول يأمرنا بإكراه الناس على الدين؟) وغير ذلك من العبارات العاطفية غير العلمية، وهم بذلك لا يختلفون عن الطرف الآخر من المنتسبين للمسلمين وأخذوا بظواهر بعض النصوص، وكفروا عموم المسلمين واستباحوا دماءهم وأموالهم، ودونكم نقاط مختصرة تعين على فهم الحديث إن شاء الله:

1- الحديث صحيح وله عدة روايات ولا يوجد من علماء المسلمين من ضعف الحديث، وأكتفي بما رواه البخاري ابن عمر -رضي الله عنهما-، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» [5].

 

2- تعددت روايات الحديث فمرة يذكر أن المطلوب شهادة أن لا إله إلا الله فقط: «أمرت أن أقاتل الناسَ حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله، ونفسه، إلا بحقه وحسابه على الله»[6]، ومرة يذكر الشهادتين والصلاة والزكاة: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة» [7]، ومرة يزيد فيذكر استقبال القبلة وأكل ذبيحة المسلمين: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا» [8]، وغيرها من الروايات، وبيان ذلك أن الحديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم عدة مرات، وذلك على مراحل نزول الأحكام، فاختلفت الألفاظ زيادة ونقصًا لاختلاف الأحوال والأوقات التي وقعت هذه الأقوال فيها، وكانت أمور الدين تشرع شيئا فشيئا فخرج كل قول منها على شرط المفروض في حينه فصار كل منها في زمانه شرطا لحقن الدماء وحرمة المال فلا منافاة بين الروايات والاختلاف[9].

 

3- بما أن الحديث مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وورد في صحيح البخاري، فلفهمه لا بد من أمرين:

الأول: الرجوع لقائل الحديث ومعرفة تفسيره العملي للحديث، هل ينطبق هذا التفسير العملي في سيرته صلى الله عليه وسلم على ما فهمه من يطعنون في هذا الحديث؟ فكما أن القرآن يجب الأخذ به كله، وفهمه بشكل صحيح لا يكون إلا بفهمه كله، كذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز بترها من سياقها الذي قيلت فيه، ولا يجوز ترجيح حديث على حديث آخر، وبما أن سنة الرسول معصومة، فلا يمكن أن يكون بينها تعارض، وبما أن التعارض منفي عنها، فكل ما أوهم التعارض يجب درؤه وفق القواعد الخاصة بذلك.

 

الثاني: الرجوع لشراح صحيح البخاري، وكيف شرحوا هذا الحديث، ولما كان صحيح البخاري هو أصح الكتب بعد كتاب الله وجدنا عشرات الكتب التي شرحت هذا الكتاب واهتمت به.

 

4- من الخطأ المنهجي أن نضع مفهومًا أو قاعدة غير متفقين عليها، ثم نلوي أعناق النصوص لإثباتها، وفي الحديث الذي معنا يلزم العلم أننا لا ننفي وجود القتال والقتل بحق في الإسلام، وإنما يوجد لهذا القتال أحكامه وشروطه، وحكمه ومقاصده التي بينها العلماء، والأصل عندنا أن الدماء معصومة إلا بحقها، وأن من يأخذ هذا الحق هو ولي الأمر الشرعي، وليس لكائن من كان أن يتصدر ويقول أريد أن أطبق هذه الآية بيدي، فلم يقل بهذا عالمٌ معتبر من العلماء، ولا يرضى به أحد، حتى إن إنكار المنكر وضع العلماء له ضوابط وعلى رأسها: « أن لا ينتج عن إنكار المنكر منكرًا أكبر منه »، فإقامة الحدود والقصاص وقتال من يروعون الناس ويهددون السلم الأهلي وأمن المجتمع لا يختلف العقلاء على أهميتها، فبعض الناس كما قيل: لا تردعه آيات القرآن ولا يرتدع إلا بسيف السلطان، وهذا واقع مشاهد.

 

5- عند محاولة فهم هذا الحديث وغيره، ينبغي أن لا تغفل الجانب القيادي والسياسي وتحقيق عامل الردع، في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أحيانا يبعث برسائل من باب (الحرب خدعة) وذلك كما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم إنه لم يكن يريد غزوة إلا ورّى بغيرها[10]، ومثل هذا لما نقرأ قوله صلى الله عليه وسلم: «جئتكم بالذبح»، فلا يمكن أن نفهمه بعيدًا عن سياقه، وسأكتفي بإيراد نص الحديث لنتأمل سياقه، وكيف قاله النبي صلى الله عليه وسلم في أضعف لحظاته لقوم يمكرون به ويمنعونه من عبادة ربه، وماذا فعلوا به صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي، فقد رُوي عن عروة أنه قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: ما أكثر ما رأيت قريشًا أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهره من عداوته؟ فقال: لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحِجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا وصرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا، قال: فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فغمزوه ببعض القول؛ فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفتها في وجهه فمضى فمرّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فقال لهم صلى الله عليه وسلم:« «أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح»، فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول: انصرف أبا القاسم راشدًا فوالله ما كنت جهولا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحِجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه؛ فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول: كذا وكذا؟ لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم أنا الذي أقول ذلك»، ولقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ردائه وقام أبو بكر يبكي دونه ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأكثر ما رأيت قريشًا بلغت منه قط[11].

 

6- لا يوجد أحد من شراح الحديث قال بالفهم الذي قاله من يطعنون بهذا الحديث، وأن المراد منه أن يحمل كل مسلم سيفه ويضعه على رقاب الناس ليسلموا أو يقطع رؤوسهم، وكيف يكون ذلك وقد أباح لنا الإسلام أن نتزوج من الكتابات، وأن نجاورهم، وأن نصالحهم ونعقد معهم المعاهدات؟

 

7- إذا وجدنا تأويلًا صحيحًا للحديث، من أهل العلم والمختصين، فالواجب على طالب الحق أن يحمد الله ويأخذ بهذا التأويل، ويدفع به ظاهر تعارض النصوص، وإذا أصرّ على غير ذلك، فهذا يؤكد على أنّه ليس بطالب حق، وله مآرب أخرى، وحينها يكون الهدف الطعن في الحديث، وإذا ثبت الطعن في حديث كهذا فهو فتح باب للطعن في غيره وصولا لإنكار السنة بأكملها لنطرق باب القرآن بعدها، والعياذ بالله، فتنبه.

 

8- قول أكثر الشارحين ويكاد يتفق العلماء على أن الحديث من العام الذي خص منه بعضه، أو من العام الذي يراد به الخاص، كما يتفق أصحاب هذا القول على أن الخاص المراد بهذا الحديث: هم من لم يعطوا الجزية من أهل الكتاب، ومن ليس بيننا وبينهم ميثاق وعهود من اهل الكتاب وغيرهم، أو المراد أهل الأوثان دون غيرهم واللام للعهد ليست للعموم، فيجمعون هذا الحديث مع الآيات والأحاديث الواردة في الباب؛ ومن هنا لم يقل أحد منهم بالفهم المغلوط الذي قال به من يطعنون في هذا الحديث الشريف[12].

 

9- أشار بعض العلماء إلى الفرق بين القتال والمقاتلة، ومن ذلك قول ابن دقيق العيد –رحمه الله-: (فرق بين المقاتلة على الشيء والقتل عليه فإن المقاتلة مفاعلة تقتضي الحصول من الجانبين، ولا يلزم من وجوب المقاتلة وجوب القتل)[13]، ومن ذلك أيضًا ما حكاه البيهقي عن الشافعي أنه قال: (ليس القتال من القتل بسبيل فقد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله)[14]، وبهذا يضعف الاستدلال بالقتال على القتل؛ فبين القتال والقتل بون بعيد[15].

 

10- ذكر بعضهم أن المراد بأمرت أن أقاتل الناس، أي: بأن أجاهدهم وأحاربهم حتى تكون كلمة الله هي العليا[16].

 

11- ذكر بعضهم شرحًا جميلًا، وتوضيحه: بأن المراد بالحديث أن نقاتل حتى تعلوا كلمة الله ويظهر دينه ويذعن المخالفون، وحتى لو بقوا على دينهم، وذلك أنه يعبر بمجموع الشهادتين وفعل الصلاة والزكاة عن إعلاء كلمة الله وإظهار دينه وإذعان المخالفين، فيحصل ذلك العلو لكلمة الله وإظهار دين الله من بعضهم بالقول والفعل، بأن يسلموا ويدخلوا في الإسلام، ويحصل من بعضهم الآخر بإعطاء الجزية، ومن آخرين بالمهانة لما لا تصبح لهم كلمة فوق كلمة الله، ومما يعضد ذلك أن المنافق إذا أظهر الإيمان وأبطن الكفر يسقط عنه القتل، ويدخل تحت العصمة، ولا يجوز قتله، رغم أنه أغلظ كفراً من الكتابي، وأشد خطرًا على المسلمين[17].

 

12- ذكر بعضهم أن الحديث ذكر الغاية التي قد تؤدي إليها المقاتلة، فإذا كان الغرض من الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، وإبدالهم العزة بالذلة، فكذلك المقاتلة تكون سببًا لأن يعطوا الجزية، وبعدها قد يسلموا، وسبب السبب سبب؛ فيكون المقاتلة سبباً في محصلتها النهائية لأن يفكروا في دخولهم في الإسلام، فكأنه قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يسلموا أو يلتزموا بما يؤديهم إلى الإسلام وهو الذي استحسنه ابن حجر -رحمه الله-[18].

 

13- دعوى بعضهم أن هذا الحديث منسوخ بالآيات الدالة على الإذن بأخذ الجزية وعقد المعاهدة مع الكافرين[19].

 

14- أشار بعض العلماء إلى أن بعض ألفاظ روايات هذا الحديث فيها زيادة تخويف للمشركين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف القتال الى نفسه، وفي ذلك إخبار لهم بما هو عازم عليه، وأنه ما يزال يقاتلهم، فيقع الخوف في قلوبهم[20].

 

15- حتى لو كان لفظ (الناس) يفيد العموم والاستغراق، فإذا تخلف منه في بعض الصور لعارض لا يقدح في عمومه، ألا ترى أن عبدة الأوثان إذا وقعت المهادنة معهم تسقط عنهم المقاتلة (وتثبت العصمة)[21]، وهذا الحاصل اليوم بوجود المعاهدات بين الدول الإسلامية وبقية الدول والمبنية على المصلحة للمسلمين.

 

16- لا يصح الظن بأن الحديث معناه أن نقاتل الكافر حتى يأتي بالشهادتين ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، لأن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تدل على خلاف هذا[22].

 

17- ثبت بالإجماع سقوط القتال عن أهل الكتاب إذا دفعوا لجزية، ودلالة الإجماع أقوى من دلالة الحديث، لذلك لجأ العلماء لتأويل الحديث للوصول للمراد الصحيح منه بعيدًا عن الفهم الظاهري المغلوط للحديث[23].

 

18- الفهم الصحيح للحديث أننا مأمورون بالسعي لإعلاء كلمة الله بالمتاح، ويكون قتال الكفار مستمرًا ما لم يعطوا الجزية إن كانوا من أهلها، أو يعقد لهم أمان أو هدنة إن كانوا من غير أهلها كما استفيد ذلك من أدلة أخرى، فكأنه قال: أمرت أن أقاتلهم حتى يسلموا أو يأتوا بما في حكم ذلك كقبول الجزية من أهل الكتاب، والمهادنة من عبدة الأوثان، والاستئمان في الكل، أو يكون ورود هذا القول قبل هذه الأحكام، فالقتال كما ينتهي بالإسلام ينتهي بغيره كالجزية والمهادنة[24]، فلا يستقيم أن تروي هذا الحديث (أمرت أن أقاتل الناس..) بشكل مجتزأ، وتغفل باقي الأدلة مثل ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النّبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» [25].

 

هذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.

 


[1] سورة النساء: 59، سورة المائدة: 92، سورة النور: 54، 56، سورة محمد: 33، سورة التغابن: 12.

[2] سورة النور: 63.

[3] سورة النجم: 4.

[4] سورة البقرة: 256.

[5] أخرجه البخاري في صحيحه (1/ 14) حديث رقم: 25، ومسلم في صحيحه (1/ 53) حديث رقم: 22.

[6] أخرجه البخاري في صحيحه (2/ 105) حديث رقم: 1399، ومسلم في صحيحه (1/ 52) حديث رقم: 21.

[7] سبق تخريجه.

[8] أخرجه البخاري في صحيحه (1/ 87) حديث رقم: 392.

[9] انظر: الكواكب الدراري للكرماني (4/ 56)، عمدة القاري لبدر الدين العيني (4/ 127).

[10] أخرجه البخاري (4/ 48) حديث رقم: 2947.

[11] أخرجه أحمد في مسنده (2/ 218) حديث رقم: 7036، صحيح السيرة النبوية للألباني (ص:148).

[12] انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال(2/ 53) شرح الطيبي على مشكاة المصابيح (2/ 452)، الكوكب الدراري للكرماني (1/ 122)، شرح مسند الشافعي للقزويني (3/ 80)، فتح الباري لابن حجر (1/ 77)، اللامع الصبيح للبرماوي (1/ 183)، شرح سنن أبي داود لابن رسلان (7/ 424)، الكوثر الجاري للكوراني (1/ 79)، السراج المنير للعزيزي (1/ 340).

[13] شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (ص:66).

[14] انظر: فتح الباري لابن حجر (1/ 76).

[15] انظر: العرف الشذي شرح سنن الترمذي للكشميري (1/ 207).

[16] انظر: شرح مشكاة المصابيح لملا علي قاري (1/ 80)، شرح الأربعين النووية لابن عثيمين (ص:126).

[17] انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح (2/ 452)، فتح الباري لابن حجر (1/ 77)، شرح سنن أبي داود لابن رسلان (7/ 424)، اللامع الصبيح للبرماوي (1/ 183)، شرح الأربعين النووية لابن عثيمين (ص:126).

[18] انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح (2/ 453)، الكوكب الدراري للكرماني (1/ 122)، فتح الباري لابن حجر (1/ 77)، السراج المنير للعزيزي (1/ 340).

[19] انظر: فتح الباري لابن حجر (1/ 77).

[20] انظر: الشافي في شرح مسند الشافعي لابن الأثير (5/ 143).

[21] انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح (2/ 452)، الكوكب الدراري للكرماني (1/ 122).

[22] انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (1/ 230).

[23] انظر: عمدة القاري لبدر الدين العيني (1/ 181).

[24] انظر: مرقاة المفاتيح لملا علي قاري (1/ 80)، لمعات التنقيح للدهلوي (1/ 232)، حاشية السندي (1/ 232).

[25] صحيح البخاري، (4/ 99) حديث رقم: 3166.

__________________________________________________
الكاتب:حسين عبدالحكم خليل كريم