لمحات تربوية ودعوية الشيخ عبدالله خياط

منذ 2021-10-24

وإنني إذ أدعو الأجيال الصاعدة إلى هذا المنهج فلأن الآمال لديهم متفتحة, والمستقبل أمامهم ممدود, وإلا فالحديث عام لكل من ألقى السمع وطلب السداد في مذهبه

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فمن أئمة وخطباء المسجد الحرام فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالغني خياط, رحمه الله, صاحب الأداء المتميز في تلاوة القرآن,

والشيخ رحمه الله له مؤلفات تزيد على العشرين, منها: كتاب بعنوان " لمحات من الماضي " يقول الشيخ في مقدمته: غداً تذبل الشمعة ثم تنطفئ, وتذوى الشجرة المورقة الناضرة, ثم تكون هشيماً تذروه الرياح, وذلك شأن كل من عاش على الغبراء, لا فرق بين من علا  كعبه وارتفع مقامه, ومن كان من الدهماء يفترش الغبراء ويلتحف السماء.

إن هذه لمحات ولا أقول ذكريات لأن الذكريات أكثر شمولا واستيعاباً لشتى الاتجاهات هذه اللمحات تصور واقع رجل وهن منه العظم, وبلغ من الكبر عتياً, شرب من كأس الحياة حلوه ومره فكان مع الحلو من الشاكرين, ومع المر من الصابرين تمشياً مع توجيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم «عجباً لأمر المؤمن, إن أمره كله له خير, إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيراً له, وليس ذلك إلا للمؤمن.»     

وانتهى به الأمر إلى الانطواء والعزلة, لست أدري أكان ذلك بسبب تقدمه في السن فقد انصرف عن المجاملات, والمحاولات في الجري وراء الشهرة, والحرص على حب الظهور, كدأب الناس, أو أكثرهم,...إنها لمحات في حياة مديدة, لرجل كما وصف آنفاً بلغ من الكبر عتياً, وهو يسير كل يوم في خطى متلاحقة إلى المصير المحتوم, وسوف يصل كما وصل غيره.  

وفي كتاب الشيخ رحمه الله, فوائد كثيرة متعدة, وفيه لمحات تربوية, يسر الله الكريم لي, فاخترتُ بعضاً من تلك اللمحات, أسأل الله أن ينفع الجميع بها.

العقاب البدني للطالب:

في نظري بوصفي مدرساً مارس مهنة التعليم أمداً طويلاً أن العقاب البدني إن كان لا بد من مزاولته ففي حالات خاصة....فيجب أن يقدر بقدر الضرورة, فلا يصدم به الطفل أول مراحل تعليمه....

لو ترك الحبل على الغارب للمتعلم وخاصة من كان في دور المراهقة فإنه يتصرف تصرف الطائش, وترك العقاب يفسده ويدفعه للتطاول على غيره دون مبالاة أو رهبة على أن العقاب البدني لو فرض أن دعت الضرورة لإيقاعه فيجب أن يكون بحكمة كما يجب أيضاً تنويعه, فهناك مثلاً حجز الطالب بعد مغادرة زملائه للمدرسة مع تكليفه بواجب, أو توبيخه على انفراد, أو توبيخه أمام زملائه, أو إبعاده عن المدرسة إبعاداً مؤقتاً لمدة أسبوع, إلى غير ذلك

دور المدرس من أصعب الأدوار لمن أخلص في عمله واحتسب أجره عند الله:

الواقع أن دور المدرس من أصعب الأدوار, ولا يستطيع حمل العبء فيه إلا طبقة سخرها الله سبحانه وتعالى لنشر العلم والثقافة على حساب أعصابهم, وبخاصة إذا أخلص المدرس في عمله, واحتسب أجر ما يبذله في نفع المتعلمين من تضحيات, واحتسب ذلك عند الله.  

الاستغلال:

الاستغلال بشع في كل صوره وأشكاله, وعلى أي وضع من أوضاعه, ويكون أبشع وأفظع عندما يغدو مع المحتاج المضطر.

سمات المعلم المؤثر:

ما يتوخاه صاحب اللمحات في اختيار المدرس: الخلق, والدين, إلى جانب الحصيلة العلمية, والعقل الكبير, والتجربة والمران في حقل التعليم, فالحصيلة العلمية دون تمتع صاحبها بالعقل الكبير لا تجدى, فقد يتصرف صاحبها تصرفاً أهوج يحجب الإفادة من علمه, ولا يدرك من جهده شيئاً.

تلاوة القرآن عند وجود القلق ونزول البلاء:

كانت الطائرة...ليس فيها من الركاب غير ثمانية, ومع الراحة التامة....كان القلق ينتاب بعض أعضائها كلما تصور أنه بين السماء والأرض, وأن غلطة من الطيار, أو وقفة لأحد المحركات تأتي بالكارثة, ثم يعود فيُعلل النفس بالأمل بسلامة الوصول, وكل الحياة آمال, يعلل المرء نفسه ببلوغها كما قال الشاعر:

أُعلِّل    النفس بالآمــــــــــــــــال أرقُبُها        ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

وكان صاحب اللمحات يعزي نفسه, ويطرح البلبال عنه بتلاوة القرآن, وهل في غير القرآن من عزاء في مُرِّ البلاء.  {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}  [الرعد:28]

كلّ متع الدنيا زائلة:

المتعة العابرة كالزهرة الذاوية من حيث إن المرء لا يسعد بطول أمدها, ولا بقضاء أربه منها, إنها كالزهرة سرعان ما تذوي بعد أن كانت الأنظار إليها متطلعة, والنفوس بروعة نضرتها مشتعلة, وهكذا كل مُتع الدنيا لا تلبث أن تزول, وتذوي مهما امتد أمدُها, أو جانبتها محن الزمان, وصروف الليالي, وهنا يستعيد صاحب اللمحات بيت الشعر الذي كان قد استشهد به في إحدى لمحاته:

كل شيء مصـــــيره للزوال        غير ربي وصالح الأعمال

الناس معادن:

الناس معادن قطعة من حديث نبوي شريف تكملته ( كمعادن الذهب والفضة....) هذا الحديث نورده مقدمة للمقارنة بين الناس, فمنهم من معدنه أصيل كالذهب والفضة لا يزيده طول المكث إلا صقلاً, ومنهم من معدنه كالحديد لا يزيده مرور الأيام إلا صدأً وخُبثاً.  

حب الاستطلاع:

حب الاستطلاع غزيرة تنشأ مع الطفل منذ نعومة أظفاره, وتُلحُّ عليه فيطلب إرواءها ويكثر الأسئلة عن كل شيء يقع تحت حسه ونظره, وهي وسيلة لاتساع الإدراك, وتزداد هذه الغزيرة لدى بعض الناس حتى بعد بلوغ درو النضج, وهي في طلاب العلم تكاد تكون بارزة, إذ يضطر الطالب للبحث عن المفاهيم في كل ما يلقى إليه من علم أو فن, والكشف عن كل ما استغلق عليه من المسائل.

خداع المظهر:

كم للمظاهر من خداع, وكم للخداع من ضحايا يغريهم المظهر فيوقعهم في الفخ.

الحياة ليست شهداً سائغاً للشاربين:

كم تمرّ بالمرء في أدوار حياته, أحداث وعبر للزمان وظروف الليالي, ومحن ونعم, وفي كل ذلك الحلو والمر, الحلو الذي تسعد به النفس وتبقى في ظلاله ناعمة ما قدر لها ذلك, والمُرُّ الذي يقض المضاجع ويحدث للنفس البلبال, وتعكير صفو العيش, فليست كلها زهوراً ورياحين, أو شهداً سائغاً للشاربين, وإنما هي إلى جانب ذلك الجنادل والصخور يرتطم بها المرء فتزعجه إلى حد ما.

ولم يكن صاحب اللمحات بِدعا في الناس, فقد اعتراه ما اعتراهم.

الارتحال المصغر يذكر بالارتحال الحتمي:

الارتحال الدائم في دنيا الناس الذي يُترجم عنه بالنقلة من دار إلى دار, أو من بلد إلى آخر, هو ارتحال مُصغر يُذكرنا دائماً بالارتحال الحتمي الذي لا مفرّ منه ولا مندوحة عنه, إنه الارتحال إلى دار البقاء لكل من عاش على الغبراء.

أمنية للشيخ:

هناك أمنية لي أرجو أن تتحقق....وهي أن لا يزاحم حفظ القرآن بدروس أخرى, فإن القرآن لا يزاحم بأي شاغل من علم, أو غيره, فقد حفظت القرآن ولم أشغل مع حفظه إلا بدرس الحساب, والخط, والإملاء في فترة بعد الظهر, وكان الحظ الأوفر للقرآن من بكور اليوم إلى الظهر, هذه تجربتي الخاصة, ولعل غيري يرى غير رأيي.

المغمور من الأفذاذ من الرجال كنز مجهول لا ينتفع به:

المخبر الذي يكشف الأفذاذ من الرجال, ويترجم عن مواهبهم, ومدى استعدادهم للإسهام في كل ما يعود على المجتمع بالخير, ويأخذ به قُدُماً نحو الكمال والتمام, قوة الشخصية, واتزانها, وسلامة تصورها للأمور, وتقديرها بحيث تكون مسيرتها في اتجاه بعيد عن النَزَق ومهابط الأمور, فمن ذا الذي يرتقي إلى هذه الفضائل, ويأخذ بزمام القافلة ليوصلها إلى المستوى الرفيع ؟! قد يكونون كثيرين في الأمة, فالخيرون لن تقفر منهم الأرض, غير أن من بينهم المغمور الذي لم يحط نفسه بهالةٍ من الدعاية يوجه بها الأنظار إليه, فهو في مجتمعه أشبه بكنز مجهول لا ينتفع به على الرغم من أنه جمع بين العلم, وسعة الأفق, واتساع أبعاد المعرفة, وغير ذلك من المحامد والفضائل.   

القناعة:

حسبك بالقناعة كنزاً لا يظفر به إلا خيار الأفذاذ من الرجال.  

بريق المادة الخادع:

واقع بعض الناس ممن يعيش_كما يقال_ على هامش الحياة, خاصة في أعقاب الزمن عندما أصبح للمادة بريق خادع, يصدر بعضهم عن وحيه, فلا يعبأ إلا بمن له رصيد منها يصول في حدودها, ويجول ويندمج في إطار الماديين, ويأخذ في مناهجهم, أرأيت العالم النحرير والكاتب اللامع والمحاضر اللبق والخطيب المفوه كل أولئك وغيرهم من أرباب المواهب إذا لم يكن لديهم رصيد من المادة أضحوا مثلاً لا للاقتداء بهم والسير على نهجهم, والأخذ بمسيرتهم, بل ليحاطوا بسياج منيع يحول دون الانتفاع من مواهبهم, لتتاح الفرصة لمن لم يدركوا سبقهم أن يقفزوا على ظهورهم.     

المسؤولية تكليف لا تشريف:

يقولون: إن المسؤولية تكليف لا تشريف, قد يكون المرء ذا شخصية لامعة بين المجموعة, أو قد يكون مرموقاً معظماً لعلمه, أو خلقه, أو شرف نسبه وحسبه, أو لأي منقبة فيه تجعله في الطليعة, غير أنه إذا تحمل مسؤولية في أي مجال من المجالات فقد تخكل عبئاً وكُلّف وضعاً من حقه عليه أن يخلص في الاضطلاع به, ويضحي بالكثير من نشاطه وصحته وجاهه, وإن شئت فقل: وماله أيضاً, لنجاح ما كُلّف به من مسؤولية, وإلا كشف عواره, وتضاءلت شخصيته, وانمحت آثاره, والمسؤوليات متعددة الجوانب,  تكثر فيها التكاليف وتتنوع الاتجاهات.

الصف الأول في المسجد يتكامل قبل الأذان:

الرجل إذا رأى متقاعساً عن الذهاب إلى المسجد في وقت الصلاة يحثه على الإسراع, حتى إنك تجد الصف الأول يتكامل قبل الأذان, وقلَّ أن تجد بعد الصلاة من يقضي ما فاته, لأن أكثر المصلين بعد الصلاة يلحظونه بنظرة شزرٍ, تجعله لا يعاود التأخير.

نصيحة ثمينة للأجيال الصاعدة:

كان أول ما تلقيته من دروس الحديث النبوي: حديث عبدالله ابن عباس رضي الله عنهما, ومطلعه قال: أي ابن عباس: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال لي: ( يا غلام, إني أعلمك كلمات, احفظ الله يحفظك) الحديث, وختامه في رواية غير الترمذي ( واعلم أن ما أخطاك لم يكن ليصيبك, وما أصابك لم يكن ليخطئك, واعلم أن النصر مع الصبر, وأن الفرج مع الكرب, وأن مع العسر يسراً)

وما برحت هذه الفقرات الأخيرة من الحديث الشريف عالقة بذهني واتخذت منها قاعدة لاتجاهاتي في الحياة, لأن من شأن من عاش على الغبراء أن لا يسلم من ضراء قد تكون مؤلمة غير أن واجبه الشكر على السراء, والصبر على البلاء....

وكنت أستعيد عند كل سرّاء تدركني أو ضرّاء تكتنفني هذه الفقرة ( «ما أصابك لم يكن ليخطئك, وما أخطاك لم يكن ليصيبك» ) فترتاح لذلك نفسي, وكنت كلما نازعتني نفسي إلى إدراك ما يتمتع به غيري من مال, أو جاه, أو نفوذ, وما إليه مما تكون به الحظوة في دنيا الناس, أستعرض قول رب العزة في توجيهه لرسوله صلى الله عليه وسلم: ( { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى } ) [طه:131] فأفدت العزوف عن كل ما يكون به الزهو من منصب أو جاه أو نفوذ وقنعت بما قسمه الله لي في الأزل, فلم أجد في نفسي ما يجده بعضهم من الولع بالتزاحم على العمل, وإني إذ أسجل اليوم ذلك إنما أسجله لأدعو الأجيال الصاعدة وهم في مستقبل حياتهم العملية أن لا يحفلوا بحفوظ غيرهم, وأن لا يسبحوا في بحر من الأماني ليس له ساحل, ليكون لهم مثل ما أوتي غيرهم من الثروة أو النفوذ أو المراكز المرموقة مما يعول عليه الناس في دنياهم كمظهر للسعادة.

وأن لا يجهدوا أنفسهم في اتخاذ الوسائط, أو سلوك السبل الملتوية بغية الوصول إلى السعادة التي يصورها في نظر البعض: رغد العيش, والظهور في ثياب العظمة, ومظاهر الأبهة, فالطريق السديد الرشيد طريق السعادة وهو أن يقنعوا بقسمة الله, فالقناعة خير عادة للعزوف عن حظوظ الغير, وقطع جبل الأماني كما قال الشاعر:

أفادتني القنـــــــاعة كلَّ عزّ         وهل عز أعزُّ من القناعة  

وأن ينظروا إلى من هو دونهم في الفضل والنعمة والمواهب وغير ذلك, كما جاء في الحديث: «انظروا إلى من هو أسفلَ منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقَكم ، فإنه أجدَرُ أن لا تزدَروا نعمةَ اللهِ عليكم»  وأن يضعوا نصب أعينهم أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم, وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم, وأن الله سبحانه أعلم بمصالح عباده, فيضع الأمور في موضعها, وفعل الحكيم لا يخلو من حكمة, فمن فاته شيء من حظوظ الدنيا في أي مجال من المجالات فليؤمن أن الله سبحانه سوف يعوضه عنه خيراً, ولا ييأس أو يبتئس أو ينظر إلى الحياة بمنظار أسود, فلن يطول أمد الشدائد, وليكن متفائلاً يبتسم للأزمات, وعليه مع ذلك أن يدأب على العمل, ولن يضيع الله عمل عامل إذا علم منه حسن القصد, وصدق العزيمة, والنية الصالحة, والاعتماد عليه وحده.

وإنني إذ أدعو الأجيال الصاعدة إلى هذا المنهج فلأن الآمال لديهم متفتحة, والمستقبل أمامهم ممدود, وإلا فالحديث عام لكل من ألقى السمع وطلب السداد في مذهبه واتجه إلى الله في كل مطلب يرومه.      

         كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ