فوضى في أرض العرب!

منذ 2021-11-04

صاغ الباحثون نظرية الفوضى والتي تهتم بدراسة الآثار المتغيرة في الزمان والمكان والنوعية، والتي يعجز العلم التقليدي عن التنبؤ الدقيق بها، أو التوصل إلى قياسات دقيقة وحاسمة بسبب عدم ملائمة النتائج مع الأسباب، أو ظهور أشياء غير متوقعة الحدوث.

هل ما يجري في كثير من البلاد العربية هو محض صدفة؟

فلننظر مثلا ما يحدث في تونس عندما قام الرئيس التونسي قيس بن سعيد بإغلاق مجلس النواب المنتخب في تونس، وحل الحكومة ومن ثم التعطيل العملي للدستور بالرغم من أنه لم يصرح بإلغائه، وما أعقب ذلك من رفض فئات من الشعب هذا النهج واندلاع مظاهرات رافضة لما يحدث، واتبع ذلك اضراب عام لمدة يوم واحد للعاملين في القطاع الخاص التونسي بتحريض من الاتحاد العام للشغل، وهي منظمة نقابية قوية يتبعها ملايين من التوانسة في وضع استثنائي لا يعرف أحد متى ينتهي وسط تجاهل الرئيس لدعوات الحوار أو التهدئة؟

وفي السودان مظاهرات غفيرة تطالب بتوسيع قاعدة الحكومة الانتقالية التي يهيمن عليها اليسار السوداني من قوميين وشيوعيين ويعقبها حشد مضاد من اليساريين، ثم تدخل الجيش السوداني لإجبار الحكومة المؤقتة على الاستقالة والتي اندفع أنصارها بحشود ضخمة يوم السبت وسط تأييد دولي معلن لها.

ولا ننسى ليبيا حيث هناك انقسام فعلي على الأرض بين شرق وغرب، ويدعم كل طرف قوى عسكرية خارجية سواء كانت إقليمية أو دولية، وبالرغم من اتفاق الجميع على اجراء انتخابات في نهاية العام، إلا أن الأجواء مشحونة بالخصام بين الفريقين يصاحبها تعبئة عسكرية محمومة، مع عدم استبعاد عودة الحرب الأهلية في أي وقت.

أما سوريا فهي جرح الأمة النازف منذ عشر سنوات، حيث التدخل الإيراني الروسي وقصف متواصل لمناطق المدنيين في إدلب والتي انحصرت فيها القوى المسلحة الثائرة والتي تناوئ نظام الأسد، في حين يحدث تحول ديموغرافي لصالح الشيعة بعد تهجير الملايين من أهل السنة.

وفي اليمن لازالت المعارك دائرة بين عصابات الحوثي والتي تساندها إيران وتعد ذراع من أذرعها وبين قوات الشرعية اليمنية والتي تدخل في صراع أيضا مع قوات انفصالية تريد الاستحواذ على الجنوب اليمني.

والعراق تتم على أرضه بعد أن تم الانتهاء من داعش تصفية حسابات بين الأذرع العسكرية لإيران والولايات المتحدة وإسرائيل، وأهل السنة هم ضحايا هذه المناكفات بين حلفاء تهميش السنة، وحتى عندما تمت الانتخابات جرى الطعن عليها وتهديدات بإشعال الحرب الأهلية بين الشيعة الموالين لإيران والشيعة المعادين لها ولنفوذها.

ولبنان الذي تم اعتباره تاريخيا المؤسس لفوضى المنطقة، لأن نظامه الذي تم تأسيسه على التوازن بين الطوائف، فهو يعيش اليوم وضعا مأزوما على خلفية بلطجة حزب الله واستفراده بالقرار السياسي للبنان وتوريطه في نزاعات إقليمية لا طائل منها.

 

بعد استعراض سريع لمظاهر الفوضى السياسية والاجتماعية التي يمر بها عالمنا العربي، هل يمكن تسمية ما يجري فوضى أم هذه التسمية مبالغ فيها؟

يجدر بنا في البداية من تعريف الفوضى لنتبين الوصف الدقيق لما يجري بالفعل في أجزاء من منطقتنا العربية.

مصطلح الفوضى بدأ أصلا في علوم الرياضيات والفيزياء، ثم انتقل إلى علوم السياسة والاجتماع وغيره، فجرى تعريفها على أنها فقدان للنظام والترابط بين أجزاء مجموعة أو جملة أجسام، سواء كانت جملة فيزيائية، أو مجتمع إنساني، أو اضطرابات قبلية أو سياسية، مثل فقدان الأمن في منطقة معينة.

ولكن طبقاً لجيمس غليك مؤلف كتاب (نظرية الفوضى.. عالم المتوقع) فإن نظرية الفوضى تشير إلى أن كل شيء يظهر على أنه فوضوي وغير منضبط هو في الأصل منظم ومنضبط كلياً، وليس هناك شيء عشوائي أبداً.

لذلك صاغ الباحثون نظرية الفوضى والتي تهتم بدراسة الآثار المتغيرة في الزمان والمكان والنوعية، والتي يعجز العلم التقليدي عن التنبؤ الدقيق بها، أو التوصل إلى قياسات دقيقة وحاسمة بسبب عدم ملائمة النتائج مع الأسباب، أو ظهور أشياء غير متوقعة الحدوث.

ويرى الباحث حسن أبو هنية أن مفهوم الفوضى يتم استخدامه لوصف السلوك السياسي والظواهر السياسية، مثل الحروب والثورات وعدم الاستقرار السياسي والمشكلات السياسية البسيطة والمعقدة، ويبرر البعض ذلك بأن العامة من الناس أصبحوا على وعى بالفوضى التي تحدث من حولهم عن طريق الإعلام، فأصبحوا أكثر حساسيه للفوضى.

ويتحدث مكيافيللي في كتابه الأمير عن الفوضى، اذ اعتبر ان النظام ينشأ من الفوضى وأن الفوضى تحدث الخراب الذي يقام على أنقاضه النظام، والفوضى في نظر مكيافللي تسلسل طبيعي يحدث في المجتمعات (أي غير متعمدة)، فالفوضى عنده تأتي بعد السكون، ثم تأتي الفوضى التي تؤدي إلى الخراب الذي ينتج بدوره النظام.

وفي السياسة الشرعية هناك من تحدث عن الفوضى من العلماء، فكما أوضح الدكتور هشام حبلص فإن الإمام الجويني قد حذر من الفوضى وعواقبها ومساوئها في كتابه غياث الأمم؛ وذلك في البيئة الإسلامية الصالحة الإيجابية، إلا أنه عاد فتحدث عنها، أي الفوضى، في البيئة الإفسادية، وصرح بأن الفوضى في هذه الحالة أفضل وأجدى على الأمة.

ونجيء للسؤال الأخطر ما هي الأسباب الحقيقية التي تكمن في نوعية الفوضى التي تجري في منطقتنا هذه الآونة؟

بعض الناس ذهب أنها أسباب خارجية خاصة من بعض القوى، التي لها أطماع في المنطقة، أو التي ترى أن نهضة العالم الإسلامي ستؤثر عاجلا أم آجلا، سواء على مكانتها الدولية أو تحد من تحكمها فيه.

وتأتي على رأس هذه الدول الولايات المتحدة، والتي يستدل الكثيرون على أن الفوضى أحد أدوات سياستها الخارجية، وهذا ما استخدمته صراحة كمصطلح كلونديزا رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي السابقة، وكانت تقصد به أن الشرق الأوسط لا يمكن أن يتغير تماماً ويتحول إلى الديمقراطية، قبل أن تعم به الفوضى التامة والعارمة وتدمره فينهض مجدداً من خلال قوى أخرى وجديدة، وحاولت رايس تحويل هذا المصطلح كنظرية سياسية صاغتها في دراسة لها، ثم توظيفه كمشروع سياسي متكامل عند وصولها لمنصبها كمستشارة للأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن.

وقد ارتكزت رايس في مشروعها على أفكار فرانسيس فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ، الذي يقسم فيها العالم ما بين عالم تاريخي غارق في الاضطرابات والحروب، وهو العالم الذي لم يلتحق بالنموذج الديمقراطي الأميركي. وعالم آخر ما بعد التاريخي وهو الديمقراطي الليبرالي وفق الطريقة الأمريكية، حيث يرى فوكوياما أن عوامل القومية والدين والبنية الاجتماعية أهم معوقات الديمقراطية.

بينما يرجع آخرون أن البعد الديني الإنجيلي هو أحد أسباب الطرح الأمريكي لنظرية الفوضى الخلاقة، فقد جاء في العهد القديم في سفر إشعياء في الأصحاح التاسع عشر ما نصه (وأهيج مصريين على مصريين فيحاربون كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه، مدينة مدينة، ومملكة مملكة)، وكما جاء في هذا الاصحاح (أن الرب سوف يقيم نهضة لشعبه المختار على أنقاض خراب وفوضى الدول المجاورة له).

ربما تكون هناك هذه الأسباب الخارجية للفوضى، ولكن لا يمكن اغفال تداخلها مع أسباب داخلية تكمن في بنية بعض المجتمعات العربية والظروف السياسية التي تمر بها وتعيشها، والتي تتسلط فيها قوة منظمة حاكمة عليها، عشوائية في قراراتها وسياساتها فتنتقل الفوضى تلقائيا إلى الناس والشعوب في تصرفاتها وأفعالها، وعندما تنهار هذه النظم العشوائية يتواجد بديلا لها ليست قوة واحدة ولكن كانتونات جديدة من العشوائيات ولكن ليس لها قوة مركزية، فكل فئة في المجتمع غالبا صارت متبنية لمنطق رؤوس النظام السابق في الفوضى والعشوائية، وبذلك أصيبت العديد من مجتمعاتنا بالفوضى التي ضربت أطنابها.

ولن تتخلص بعض شعوبنا العربية من هذه الفوضى إلا بوجود رؤية استراتيجية شاملة، تضع أمتنا على الطريق الصحيح لنهضتها وعودتها مرة أخرى كخير الأمم التي أخرجت للناس.

________________________________________________
الكاتب: 
 . حسن الرشيدي