الغضب

منذ 2021-11-06

الغضب حالةٌ تعتري المخلوقين، فهو واردٌ على الجميع حتَّى الكمَّل من النَّاس، لكنَّهم يختلفون في الأسباب التي تُثير الغضب عندهم ويَختلفون في استِجابتهم للغضب، فغضب المخلوق فوَران دم القلب بغْية الانتقام بسبب قولٍ أو فعلٍ يصْدر من غيره.

الغضب حالةٌ تعتري المخلوقين، فهو واردٌ على الجميع حتَّى الكمَّل من النَّاس، لكنَّهم يختلفون في الأسباب التي تُثير الغضب عندهم ويَختلفون في استِجابتهم للغضب، فغضب المخلوق فوَران دم القلب بغْية الانتقام بسبب قولٍ أو فعلٍ يصْدر من غيره.

 

والغضب منه المحمود ومنْه المذموم؛ فالغضب المحمود ما كان في الحقِّ؛ غيرةً على دين الله أن تُنْتَهك محارِمُه، فهذا النَّوع من الغضب صفة كمال؛ فلِذا اتَّصف بها ربُّنا - عزَّ وجلَّ - فهو يغضب على الكافرين به الطَّاعنين في رسُلِه ودينه، من اليهود والنصارى والمنافقين وسائر طوائف الكفر؛ {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]، بل ربُّنا - عزَّ وجلَّ - يغضب حتَّى على الموحّدين حينما يتجاوزون حدودَه، ويقعون في كبائر الذنوب؛ {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].

 

وهكذا كان غضبُ الأنبِياء - عليْهِم الصَّلاة والسَّلام - غضبًا محمودًا، فيحصل لهم الأذى من قومهم وهم صابرون محتسِبون، لكن لمَّا يتعلَّق الأمر بمعصية الله يتغيَّر الأمر ويظهر الغضَب، فجهاد الأنبياء سواء جهادهم الكفَّار أو الضالّين من أتْباعهم إنَّما هو غضب لله؛ {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: 148 - 150].

 

وعن عائشة قالت: "ما ضرب رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - شيئًا قطّ بيدِه، ولا امرأة ولا خادمًا، إلاَّ أن يُجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيءٌ قطّ فينتقم من صاحبه إلاَّ أن ينتهك شيءٌ من مَحارِم الله، فينتقم لله - عزَّ وجلَّ"؛ رواه مسلم (2328).

 

أمَّا الغضَب المذْموم فهو ما كان في غير الحقّ، فتجد البعض يغضَبُ من غيره ويجْفوه بسبب اختلاف في وجهة نظر، أو بسبب مسألة اجتِهاديَّة، أو بسبب قول أو فعل صدَر من غير إرادة الإساءة، أو غير ذلك من الأسباب الَّتي لا تُوجب الغضَب والجفاء عند عقلاء النَّاس.

 

عباد الله:

الواجب العدْل في حال الغضب، فالغضب مظنَّة الانتقام، ومَن يريد الانتقام قد يَجور في أقواله وأفعاله؛ فلذا كان من دُعاء النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «وأسألُك كلِمة الحقّ في الغضب والرّضا»، فالواجب عليْنا العدل مع النَّاس كلّهم، ومع مَن يقع منهم أذًى لنا قولاً أو فعلاً، فعلى الرَّئيس أن يعْدل بين مرْؤوسيه، وعلى المعلِّم أن يعدل بين تلاميذه، وعلى الأب أن يعْدل بين أولاده، وعلى الزَّوج أن يكون عادلاً مع أهلِه؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

 

فيجِب عليْنا العدْل مع مَن نَختلف معهم؛ فليْس سائغًا شرعًا ولا عقلاً إذا رضِينا على أحد لا نقبل فيه جرحًا ونبحث عن المعاذير لتبرير أقوالِه وأفعالِه، فنرفعه فوق مستوى النقْد، وإذا غضبنا عليه واختلفْنا معه، غمطْناه حقَّه وتعامَيْنا عن حسناتِه، فلا نرى إلاَّ الأخطاء والهنات، فهذا منهج مَن لا يَعْرِف الاعتِدال في النَّظر إلى الرِّجال وتقويمهم؛ فالعاقل مَن أحبَّ حبيبَه هوْنًا ما عسى أن يكون بغيضَه يومًا ما، وأبْغض بغيضَه هوْنًا ما عسى أن يكون حبيبَه يومًا ما.

 

عباد الله:

أسباب الغضب المذموم كثيرة؛ فمنها: كثرة المجادلة والمحاجَّة، فهي توقع كثيرًا في الغضب والنِّزاع؛ فلذا جاء التَّرغيب بتركِها ولو كان الشَّخص على الحقّ؛ ففي حديث أبي أُمامة - رضِي الله عنْه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: «أنا زعيمٌ ببيْتٍ في رَبَض الجنَّة لمن ترك المراء وإنْ كان محقًّا، وببيتٍ في وسط الجنَّة لمن ترك الكذِب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنَّة لمن حَسَّنَ خلقَه»  (رواه أبو داود (4800) بإسناد حسن).

 

فجُعِل البيتُ العلوي جزاء لأعلى المقامات الثَّلاثة وهي حُسن الخلق، والأوسطُ لأوْسطها وهو ترك الكذب، والأدْنى لأدْناها وهو تركُ المماراة وإن كان معه حقّ، فليطرح الواحد ما يعتقِد أنَّه الحق، فإذا رأى أنَّ صاحبه يُماري فليتوقَّف عن النقاش.

 

ومِن أسباب الغضَب:

كثْرة المزاح والإيغال فيه قولاً أو فِعْلا؛ ففي كثيرٍ من الأحيان نِهاية المزاح غضب وخصام، فإذا كان المزاح سببًا للغضب والنزاع فيخرج من الحلّ إلى الحرمة؛ فلذا كان النَّبيُّ يُمازح أصحابَه ولا يقول إلاَّ حقًّا.

 

ومِن أسباب الغضَب:

الحِرْص على الدُّنيا، فتجد الشَّخْص يغضب على غيره حينما ينافِسُه في دنياه ويرى أنَّه يشاركه في رزقِه، ألا يعلم هذا أنَّه لن تَموت نفس حتَّى تستكمل رزقَها وأجلَها، وأن الرزق لا يَجلبُه حِرْص حريص ولا يردُّه كراهية كاره.

وبعد:

العاقِل مَن ابتعد عن الأسباب التي تبعث على الغضب؛ فعن أبي هُريْرة - رضِي الله عنه - أنَّ رجلا قال للنَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أوْصني، قال: «لا تغضب»، فردَّد مرارًا قال: «لا تغضب»  (رواه البخاري (6116).

 

والغضب لا يتأتَّى النَّهي عنه؛ لأنَّه أمر طبعي جُبِل الخلق عليه، وإنَّما المراد: اجتَنِبْ أسباب الغضب ولا تتعرَّض لما يجلبه، والله أعلم.

 

فنهى النَّبيُّ عن الأسباب المؤدِّية للغضب، وهذه قاعدة شرعية في النَّهي عن الأشياء التي هي وسائل للمحرَّم.

 

ومن علاج الغضب: التوقُّف عن الأشياء التي تُثيرُه، وعدم الاستِمْرار فيها، فليتوقَّف عن السَّبب الذي أثاره وليغيِّر الغضبان الحال الَّتي عليْها.

 

ومن علاج الغضَب: الاستعاذة بالله من الشَّيطان، فسبب الغضَب الشَّيطان، فليُلتجأ إلَى الله لدفْعِه؛ ففي حديث سُلَيْمان بن صُرَد - رضِي الله عنْه - قال: استبَّ رجلان عند النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ونحن عنده جلوسٌ، وأحدُهُما يسبُّ صاحبَه مغضبًا قدِ احمرَّ وجْهَه، فقال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:  «إنَّي لأعلمُ كلمةً لو قالَها لذهب عنه ما يَجد، لو قال: أعوذ بالله من الشَّيطان الرجيم ...» ))؛ رواه البخاري (6115)، ومسلم (2610).

 

عباد الله:

من الجهل أنَّ البعض يظنّ أنَّ العمل وفْق ما يُمليه عليه الغضَب شجاعةٌ وقوَّة، وأنَّه إذا لم ينتقِم دلَّ ذلك على ضعْفه، ولا شكَّ أنَّ هذا الاعتِقاد خطأ، فالكل يستطيع أن يعمل وفْق ما يمليه عليه الغضب، والقلَّة التي تملك نفسَها عن الغضب وتُخالفه، وهذه هي القوَّة الحقيقيَّة؛ فعن أبي هُريرة - رضِي الله عنْه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: «ليس الشديد بالصُّرَعَة؛ إنَّما الشَّديد الَّذي يملك نفسَه عند الغضب» (رواه البخاري (6114) ومسلم (2609).

 

أمَّا حكم ما يَجري على لسان الغضْبان من أقوالٍ حال الغضب، فأترك الإجابة على هذا السؤال للعالِم الربَّاني ابن القيّم حيث قال في "إغاثة اللهفان" في طلاق الغضبان ص: 38 : "الغضب ثلاثة أقْسام:

أحدها: أن يحصل للإنسان مبادئه وأوائلُه، بحيث لا يتغيَّر عليه عقله ولا ذهْنه، ويعلمُ ما يقول وما يقصده، فهذا لا إشْكال في وقوع طلاقه وعتْقِه وصحَّة عقوده، ولاسيَّما إذا وقع منه ذلك بعد تردّد فكره.

 

القسم الثاني: أن يبلغ به الغضب نِهايته، بحيث ينغلق عليْه باب العلم والإرادة، فلا يعلم ما يقول ولا يريدُه، فهذا لا يتوجَّه خلاف في عدم وقوع طلاقه، والغضب غول العقل، فإذا اغتال الغضَب عقْلَه حتَّى لم يعلم ما يقول، فلا ريْب أنَّه لا ينفذ شيء من أقوالِه في هذه الحالة، فإنَّ أقوال المكلَّف إنَّما تنفذ مع علم القائل بصدورِها منه ومعناها وإرادته للتكلُّم بها...

 

القسم الثالث: مَن توسَّط في الغضب بين المرتبتين، فتعدَّى مبادئه ولم ينته إلى آخِره بحيث صار كالمجْنون، فهذا موضع الخلاف ومحلّ النَّظر، والأدلَّة الشَّرعية تدل على عدم نفوذ طلاقِه وعتْقِه وعقودِه التي يعتبر فيها الاختيار والرضا، وهو فرع من الإغْلاق كما فسَّره به الأئمَّة". اهـ.

 

لكن ممَّا يَجدر التَّنبيه عليه:

أنَّ جلَّ مَن يقع منهم الطَّلاق حينما يستفْتون يبحثون عن مخرجٍ ممَّا صدر منهم، فطائفةٌ من المطلِّقين تقول: طلقت امرأتي وهي حائض أو في طهْرٍ جامعتُها فيه، وطائفة كثيرة تقول: طلقت امرأتي وأنا غضبان، والأصل وقوع الطَّلاق، وغالبًا لا يقع الطَّلاق إلاَّ في حال خلافٍ ونزاعٍ بين الزَّوجين، فلو نظر في أكثر تلك الدَّعاوى لم يقع جلّ طلاق المطلّقين، فالله جعل في أمر الطَّلاق إناءة، فإذا لم يستعجل الشَّخص ولم يطلِّق في فور غضبِه، ملك امرأته ولم يَحتج إلى البحث عن رخصة تُخْرِجه ممَّا وقع فيه.

 

عباد الله:

إنارة العقْل مكسوفةٌ بالغضب، فالغضبان مَحجوب العقْل بسبب الغضب، فالرَّغبة في الانتِقام والتشفِّي يَمنعانِه من التصرُّف وفْق العقل، فأقواله وأفعاله خارجةٌ عن حدِّ الاعتِدال؛ فلذا يَحرم على القاضي أن يحكم بين الخصوم في حال الغضَب الشَّديد الذي يؤثّر على تصرفاته.

 

فلذا؛ من الخطأ أن يتَّخذ الشَّخص قرارًا وهو تحت تأْثير الغضب؛ لأنَّه غالبًا يندم ويتمنَّى أنَّ الأمر لم يكُن بعد أن تهدأ نفسُه ويعود له كمال عقلِه.