ظاهرة انهيار الأمم والحضارات

منذ 2021-11-14

تعرَّضت الأمة الإسلامية على مرِّ التاريخ لنموذجين من الصراعات: صراع الباطل ضد القيم والحضارة الإسلامية، وصراع دول للهيمنة والسيطرة على بلاد المسلمين وخيراتهم ومواردهم

تعرَّضت الأمة الإسلامية على مرِّ التاريخ لنموذجين من الصراعات: صراع الباطل ضد القيم والحضارة الإسلامية، وصراع دول للهيمنة والسيطرة على بلاد المسلمين وخيراتهم ومواردهم، وقد كانت الدولة العثمانية آخر القوى التي احتلت دورًا بارزًا بوصفها أحدَ المراكز في النظام الدولي، ومع انهيارها تفكَّك آخر الرموز ولو الشكلية للوحدة السياسية الإسلامية الذي أدى إلى التقسيم والتجزئة، وفي المقابل تقوَّى الطرف الآخر وهيمن، وانتهى الدور المؤثر للدولة الإسلامية في التفاعلات الدولية.

 

ابتداءً من القرن التاسع أخذت وَحدة الإسلام السياسية تتفكك، أو على الأقل تتغير في شكلها، وأخذت تظهر في الأقاليم أُسرٌ حاكمة جديدة بقيت تعترف مبدئيًّا بسيادة الخليفة، وتحكم باسمه، إلا أنها كانت عمليًّا مستقلة في حكم دويلات محدودة المساحة، في هذه الظروف اضطر المسلمون القائلون بوجوب سلطة الخليفة إلى أن يشرحوا للمرة الأولى حقيقة الخلافة ودواعي وجودها، وكان أشهر هذه الشروح شرح الماوردي (991 ـ 1031) في كتابه الأحكام السلطانية، وما إن أعرب عن هذه العقيدة في السلطة، حتى جاءت حركة التاريخ تتخطاها؛ ذلك أن انقسام السلطة بين الخليفة العباسي والأمير التركي كان قد أصبح أمرًا نهائيًّا لا مردَّ له، كما لم يكن من مردٍّ لانتقال الحكم من بغداد إلى عواصم أخرى، وكان حكم الأتراك والقوقازيين ضروريًّا للأمة، ذلك أنهم حموه من الأخطار الداخلية والخارجية، لذلك تعذر إدانة ذلك النظام كليًّا؛ (الفكر العربي في عصر النهضة، ألبرت حوراني، ص 21 ـ 22، 25).

 

وكان قد انتهى من زمن بعيد دور الحماس الديني بوصفه عنصرًا لتجميع وتوحيد الجند، وضمان طاعتهم للأمير، بسبب الانقسامات الداخلية والصراعات الدامية التي شهِدها المجتمع، كما لم يعد للفتوحات البعيدة نفس الوهج والإغراء بعد أن استقر العرب في الأمصار التي فتحت، ومالوا إلى حياة أكثر استقرارًا وأكثر رفاهية ونعيمًا، وعشية السيطرة البويهية كانت أحوال الخلافة العباسية قد وصلت إلى درجة كبيرة من التدهور والانحطاط، فسلطة الخليفة لم تتوقف عن التقلص التدريجي والفوضى الداخلية تعم، وحركات التمرد والاستقلال تنتشر في مقاطعات الدولة، وأطماع البيزنطيين لا تجد مَن يقف في وجهها، ويرافق كل ذلك موجات من الغلاء وتدهور للأوضاع الاقتصادية؛ (تاريخ الدولة البويهية، د. حسن منيمنة، ص 79، 58). وعندما بدأت الحروب الصليبية (1096 ـ 1291م)، كان واقع المسلمين سيئًا مليئًا بالمعاصي والبدع والانحرافات والتشتت والفرقة، وجاءت نكبة الأندلس عقابًا ربانيًّا للمسلمين على تفرُّقهم وتشتُّتهم، وحرب بعضهم بعضًا، وكان المسلمون قد شُغِلُوا عن الإسلام الصحيح بالبدع والخرافات، وفي الحروب الصليبية الأخيرة كان المسلمون قد انحرفوا انحرافًا شديدًا عن حقيقة الإسلام لا في السلوك وحده، ولكن في التصور كذلك، وكانت العقيدة قد توارت وراء الركام، فكان حقًّا على الناس أن ينتهوا إلى الهزيمة والاستسلام.

 

وأما الهجمات التي قامت بها جماعات المغول على العالم الإسلامي، فقد كانت هجمات بدائية جذَبتها روائح الخلافة الميتة والمجتمع الإسلامي الميت، فقاموا بدور دابة الأرض التي أكلت منسأة سليمان المتوفَّى، وأسقطت جثته على الأرض؛ (هكذا ظهر جيل صلاح الدين، د. ماجد عرسان الكيلاني، ص 409).

 

استلم العثمانيون قيادة الخلافة الإسلامية من العباسيين رسميًّا في سنة 1517م وبقيت الخلافة في إسطنبول حتى سنة 1924م، حين ألغاها أتاتورك رسميًّا، وجرت عدة محاولات لإحياء الخلافة بعد ذلك، لكنها فشِلت.

 

تولت بريطانيا مسؤولية إقامة الوطن اليهودي في فلسطين، إلا أن العقبة الرئيسة أمام استيلاء اليهود على فلسطين كانت الدولة العثمانية؛ إذ كانت فلسطين تحت الحكم العثماني آنذاك، وقد حاول هرتزل عام 1901م إغراء الخليفة العثماني عبدالحميد ببيع فلسطين لليهود، ولكن السلطان رفض التنازل عنها بأي ثمن، وأصدر أمرًا يحظر دخول اليهود إلى فلسطين، فقرَّر اليهود العمل على تجزئة الدولة العثمانية؛ لكي يستولوا على فلسطين، ولقد أوضح هذه المؤامرة الضابط البريطاني لورنس صديق العرب؛ حيث ذكر في تقاريره السرية التي نشرت في الستينيات من هذا القرن أن المخططين الاستعماريين ومنهم لورنس نفسه، أعطوا وعد بلفور عام 1906م وليس في عام 1917م كما هو مشهور؛ حيث قرروا أنه من الشروط التي يجب توفيرها لتحقيق هذا الوعد، هو تقسيم بلاد الشام إلى دويلات ضعيفة تشكِّل جدرًا واقية لإسرائيل من الشرق والشمال، حتى يكتمل قيام إسرائيل على رقعة فلسطين كاملة، ثم تبتلع هذه الدويلات واحدة بعد الأخرى؛ (هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص411، وأساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي، ص 162، والأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية، ص 33).

 

وبعد استيلاء اليهود على الحكومة العثمانية في انقلاب سنة 1909م، دخلت الخطة اليهودية مرحلتها الثانية، وهي تمرُّد القوميات وتجزئة الدولة العثمانية، وبنشوب الحرب العالمية الأولى تهيَّأت الظروف لدخول الاستعمار إلى المنطقة؛ (أسرار الأشرار قبالى اليهود والسعي للسيطرة على العالم، ص180 ـ 181).

 

انهارت الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ثم برزت ظاهرتان في تاريخ الأمة الإسلامية، هما ظاهرة القومية العربية، وظاهرة الصحوة الإسلامية، ففي ظل انحسار التدين وانتشار الأفكار القومية والعلمانية في الخمسينيات والستينيات، ظنت الشعوب أنها وجدت ضالتها في المشروع القومي العربي، ولكن هذا المشروع الذي دفعت الشعوب العربية لإنجاحه أجيالًا شابة تلقَّى ضربة قاصمة في 1967م بعد هزيمة عسكرية مدوية من الصهاينة، فقد تحطم مشروع الوحدة العربية العلمانية عقب هزيمة مصر عام 1967م على يد إسرائيل، وكانت تلك الحقبة القومية مع انحرافاتها الكبرى على الصعيد الشرعي، واستبداد نُظمها وقمعها على الصعيد السياسي، ذات زخمٍ ثوري ومخزون قومي، وقد أوجدت لدى الأجيال العربية آنذاك قدرًا من الممانعة والخصومة تجاه الطموحات والمخططات الاستعمارية للمنطقة العربية؛ (الدين والهوية إشكالات الصدام والحوار والسلطة، ص17، والعلاقات السياسية الدولية دراسة في الأصول والنظريات، ص 118).

 

وكان إعلان الوحدة بين مصر وسوريا في عام 1958م قمة انتصارات القومية العربية، ولكنها كانت تثير مخاوف الغرب الذي وقف دائمًا في وجه المحاولات الوحدوية تحت راية إسلامية أو عربية، وكل حركة نحو الوحدة قاومها الغرب في الماضي والحاضر، وكان من أثر الثروة النفطية المقترنة بالقطرية مزيد من دمج اقتصاد عددٍ من الأقطار العربية بالنظام الرأسمالي العالمي، وتعاظم المصالح الاقتصادية الغربية في البلاد النفطية؛ (أوراق في التاريخ والحضارة، عبدالعزيز الدوري، 4 / 186 ـ 187).

 

عندما ارتكبت إسرائيل عدوانها على مصر عام 1967م، كانت علاقات مصر مع الدول الغربية (عدا فرنسا في عهد ديجول)، ومعظم الدول العربية - متوترة أو فاترة، لذلك اختارت مصر لأسبابها أن تعقد صلحًا منفردًا مع إسرائيل، وبتوقيع معاهدة كامب ديفيد، كانت مصر في جانب، بينما وقفت معظم شعوب الأمة في جانب آخر؛ (اللعبة الكبرى الشرق العربي المعاصر والصراعات الدولية، ص 206ـ 207، وحرب الخليج أوهام القوة والنصر، ص 11).

 

ثم برزت ظاهرة الصحوة ردَّ فعلٍ على هزيمة القومية العربية، وسببًا ضمن أسباب أخرى، ومفهوم الصحوة مرتبط بعملية الانبعاث الإسلامي الشامل التي توطدت في العالم الإسلامي منذ الستينيات، وهذه الظاهرة كانت وثيقة الصلة في العالم العربي ببروز الحركات الإسلامية.

 

عندما حدث صراع بين الحضارة الغربية وبين بقايا حضارة إسلامية آفلة، كانت الغلبة للحضارة المادية الغربية، فأدى هذا إلى شيوع روح الانهزامية في نفوس المسلمين لما بهرتهم المنجزات الحضارية الغربية في وجهها المادي على وجه الخصوص، ومنه الانبهار الذي أحدثته الحملة الفرنسية في نفوس الملايين: (انبهار بقوة السلاح أولًا، وانبهار بالعلم الغربي الذي حمله رجال البعثة المرافقة للحملة، الانبهار بكل ما جاء من الغرب، وكانت هذه هي الهزيمة الحقيقية الكاملة التي مهدت لكل ما أحدثه الاستعمار بعد ذلك من تدمير مخرب في حياة المسلمين، وعقيدتهم وأفكارهم ومشاعرهم وسلوكهم في واقع الحياة، لذلك لم يكن طرد الفرنسيين من مصر أو انسحابهم حدثًا حقيقيًّا في عالم الواقع بعد هذه الهزيمة الداخلية التي خلَّفتها الحملة في نفوس المسلمين؛ (هل نحن مسلمون، ص 117 ـ 118).

 

وعلى الرغم من المحاولات التي بُذلت لإصلاح حال الأمة، فإنه كلما ابتعد المسلمون عن روح الإسلام، وتشتَّتوا، واستبدلوا بالإسلام الصحيح البدع والخرافات، اشتدت عليهم المحن وانتهى بهم الحال إلى الهزيمة والاستسلام، وفقدوا دورهم الحضاري الريادي: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}  [آل عمران: 110].

__________________________________
الكاتب:ميسون سامي أحمد