السخاء بالمشاعر
ولكنه لا يستطيع أن يسخوَ بمشاعره؛ فيجودَ بالكلمة الطيبة، واللمسة الحانية، والتنويه بالمساعي الحميدة؛ إما حياءً، أو غفلةً، أو قلةَ إلفٍ، أو عدمَ مبالاةٍ، أو جفاءَ طبعٍ
الناس يتفاوتون في سخاء نفوسهم بحسب ما أودعهم الله من المواهب. وسخاوة النفوس ليست مقتصرة على جانب معين؛ إذا السخاء مراتب، والناس فيه درجات. وقد يُفتح على بعض الناس في بابٍ من أبواب السخاء ما لا يفتح على غيره فيه، ودون أن يفتح عليه في أبواب أخرى.
ومن أعظم أبواب السخاء التي تَمَسُّ الحاجةُ إليها، وتكثر الغفلة عنها - السخاءُ بالمشاعر؛ إذ هو نوعٌ شريفٌ من أنواع السخاء، وفيه ما فيه من الأجورِ العظيمة، والدلالةِ على طهارة النفس، وسلامةِ الطويَّة، والبعد عن الأَثرة.
وكم من الناس من يَسْهُل عليه أن ينفق الأموال الطائلة، والأوقات الكثيرة، والعلوم النافعة، والشفاعات الحسنة، وما جرى مجرى ذلك من ضروب السخاء.
ولكنه لا يستطيع أن يسخوَ بمشاعره؛ فيجودَ بالكلمة الطيبة، واللمسة الحانية، والتنويه بالمساعي الحميدة؛ إما حياءً، أو غفلةً، أو قلةَ إلفٍ، أو عدمَ مبالاةٍ، أو جفاءَ طبعٍ.
وأعرف من الناس من وهبه الله كرماً في المشاعر، وسخاءً في إبدائها؛ حيث رُزِق لساناً رطباً، ونفساً طاهرة، وأوتي مشاعر فياضة صادقة يجود بها على أحبته، وأقاربه، ومعارفه، وجلاسه، بل ومن يلاقيهم في شتى المناسبات - على اختلاف طبقاتهم -.
ولا يكاد يجد فرصة للتعبير عن مشاعره من نحو تهنئة، أو مواساة، أو تشجيع، وما جرى مجرى ذلك - إلا وبادر إليها، وأقبل عليها بكل ما أوتي من قوة، مع أنه كبير في سنِّه، وجاهه، ومنصبه، وليس بحاجة لأحد، ولا يحدوه فيما يقوم به من ذلك رغبة ولا رهبة.
وكان ذلك دأبَه مع الصغير، والكبير، ومع من يعرف ومن لا يعرف؛ فلا يبخل بالثناء الصادق، ولا الدعوات الخالصة، ولا يخفي إعجابه بمواقف الصدق، والشهامة، فكان بذلك مثارَ الإعجاب والتقدير لكلِّ مَنْ عرفه.
بل إن كثيراً مما يقوم به من ذلك يكون مع أناسٍ لا يعرفهم من قَبل، وإنما سمع عنهم؛ إذ إن أُذْنَه تعشق قبل عينه كثيراً؛ فما إن يَذْكُرُ له بعضُ أحبته ممن يثق بصحة أحكامهم أن فلاناً من الناس بَدَر منه عمل طيب، أو أنه على قدر من النبل وشهامة الخاطر - إلا ويحرصُ على أخذ رقمِ هاتفه، ومعرفة كنيته، وأحب الألقاب إليه، فيبادر إلى تكليمه، والتعرف عليه، وشكره على ما قام به، وإظهار الفرح به، ودعوته إلى زيارته، والتشرف بمعرفته، وخدمته، وما إلى ذلك؛ فَيُحْدِث هذا النوعُ من السخاء بالمشاعر لدى الطرف الآخر سروراً، وانبساطاً، وتدفعاً لمزيد من العمل، والنفع.
بل إن كثيراً ممن رأوا ذلك منه أخبروا بأنهم لم يروا مثله طيلة حياتهم، وأنهم لم يتعودوا على مثل هذا النوع من السخاء. ولا ريب أن ذلك مما تنشرح له صدور الأكابر، ومما يعين على ما نعاني منه من فتورٍ في العلاقات، وفقرٍ في المشاعر.
وفي ذلك درسٌ عظيم، ألا وهو التدرب على هذا النوع من السخاء؛ فيحرص المرء على التصريح بمشاعره الطيبة،ولا يأنف من الإشادة بما يراه من أعمالٍ زاكيةٍ، ومساعٍ حميدة؛ فينال بذلك محبة الآخرين، وينفي عن نفسه مَعَرَّة الأَثَرة، ويسلم من نقيصة الشح، {وَمَن یُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} الحشر :9.
محمد بن إبراهيم الحمد
دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم
- التصنيف:
- المصدر: