حدود العقل في الإلهيات والغيبيات

منذ 2021-12-05

أنعَم اللهُ تعالى على الإنس والجنِّ بالعقل، وميَّزهم به دون سائر المخلوقات في الأرض، وتَعلَّق الخطابُ الرسالي والتَّكاليف الشَّرعيَّة بوجود هذا العقل، فالعقْل مَنَاط التَّكليف، وقد ذكَّر اللهُ تعالى البشَرَ بهذه النعمة في كثيرٍ من المواضع في كتابِه الكريم..

الحمد لله الَّذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، الحمد لله الذي لا تدْرِكه الشَّواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النَّواظر، ولا تحيط به السَّواتر، تتلقَّاه الأذْهان لا بمُشَاعَرَة، وتشهد له المرائي لا بمُحَاصَرة، لم تَبْلُغ كُنْهَهُ الأفهام، ولم تُحِط به الأوْهام[1]، والصَّلاة والسَّلام على رسولِه الكريم المبلِّغ دعوة الله إلى خلْقه، بالإيمان به في غَيْبِه، والنظر في آلائه وخلقه.

 

أما بعد:

فقد أنعَم اللهُ تعالى على الإنس والجنِّ بالعقل، وميَّزهم به دون سائر المخلوقات في الأرض، وتَعلَّق الخطابُ الرسالي والتَّكاليف الشَّرعيَّة بوجود هذا العقل، فالعقْل مَنَاط التَّكليف، وقد ذكَّر اللهُ تعالى البشَرَ بهذه النعمة في كثيرٍ من المواضع في كتابِه الكريم، ممتنًّا عليْهِم أنْ جَعَل لهم العقولَ والأفئِدةَ الَّتي بها يتفكَّرون، وبها يعقِلون.

 

قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78]، وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 9]، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191].

 

والعين والقاف واللام أصلٌ واحدٌ مُنْقاس مُطَّرد، يَدُلُّ عُظْمُه على حبسةٍ في الشَّيء أو ما يُقارب الحبْسة، من ذلك العقْل وهو الحابس عن ذميمِ القوْل والفِعل[2].

 

والعقل:

العقْلُ: الحِجْر والنُّهى، ضِدُّ الحُمْق، والجمع: عُقولٌ، وفي حديث عمرو بن العاص: تِلْك عُقولٌ كادَها بارِئُها؛ أي: أرادها بسُوءٍ.

عَقَلَ يَعْقِل عَقْلًا ومَعْقُولًا، وهو مصدر.

 

ورَجُل عاقِلٌ، وهو الجامع لأمره ورَأْيه، مأْخوذ مِن عَقَلْتُ البَعيرَ إذا جَمَعْتَ قوائمه، وقيل: العاقِلُ الذي يَحْبِس نفسَه ويرُدُّها عن هَواها، أُخِذَ مِن قولِهم: قدِ اعْتُقِل لِسانُه إذا حُبِسَ ومُنِع الكلامَ، والمَعْقُول: ما تَعْقِله بقلبك، والمَعْقُول: العَقْلُ، يقال: ما لَهُ مَعْقُولٌ؛ أَي: عَقْلٌ، وهو أحدُ المصادر التي جاءت على مفعول كالمَيْسور والمَعْسُور، وعاقَلَهُ فعَقَلَه يَعْقُلُه بالضمّ: كان أعْقَلَ منه، والعَقْلُ التَّثَبُّت في الأُمور، والعَقْلُ القَلْبُ، والقَلْبُ العَقْلُ، وسُمِّي العَقْلُ عَقْلًا لأَنَّه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك؛ أَي: يَحْبِسه.

 

وقيل: العَقْلُ هو التَّمييز الذي به يتميَّز الإِنسانُ مِن سائِر الحيوان، ويُقال: لِفُلان قَلْبٌ عَقُول، ولِسانٌ سَؤُول، وقَلْبٌ عَقُولٌ: فَهِمٌ.

وعَقَلَ الشيءَ يَعْقِلُه عَقْلًا: فَهِمه، ويقال: أَعْقَلْتُ فلانًا؛ أَي: أَلْفَيْته عاقِلًا، وعَقَّلْتُه؛ أَي: صَيَّرته عاقِلًا، وتَعَقَّل: تكَلَّف العَقْلَ، كما يقال: تَحَلَّم وتَكَيَّس، وتَعاقَل: أَظْهَر أَنه عاقِلٌ فَهِمٌ وليس بذاك[3].

 

فممَّا سبق يتبيَّن أنَّ العقْل يحبس الإنسانَ عن مساوئ الأقوال والأعمال، ويرْشِد للهدى والحقِّ، فهو يعقِل صاحبَه ويَمنعه من الضَّلال والرَّدى، ويَسلُك بالمرء إنْ أحسَن استِخْدامَه مسلَكَ الخير؛ ولذا خاطب الله تعالى عباده بصيغة: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون: 80]، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ} [النساء: 82]، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طه: 54]، وعاب الله تعالى على المشركين كُفْرَهم بآيات الله ورسُلِه مع كونِهم أصحاب عقول؛ فقال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26].

 

وعاب تعالى عليهم إشراكَهم في عبادته مع إقرارهم، وعِلمِهم أنَّ الله هو الخالقُ لا خالقَ غيرُه؛ قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 61 - 63].

 

أمَّا تعْريف العقْل اصطِلاحًا، فقد اختلف العُلماء في تعْريفه اختلافًا كثيرًا، ولعلَّ أصحَّ ما يقال كما هو قول جماعة مِن العُلماء كالغزالي؛ أنَّه لا يمكن أن يحدَّ العقل بحدٍّ واحد يُحيط به؛ لأنَّه يُطلق بالاشتِراك على خمسة معان:

أحدها: إطلاقُه على الغريزة التي يَتهيَّأ بها الإنسانُ لِدَرْك العلومِ النَّظريَّة، وتدبير الأمور الخفيَّة.

الثاني: إطلاقه على بعض الأمور الضروريَّة، وهي التي تخرج إلى الوجود في ذات الطِّفْل المميِّز، بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات.

الثَّالث: إطلاقه على العلوم المستفادة من التَّجربة، فإن مَن حنَّكته التجاربُ يقال عنْه: إنَّه عاقل، ومَن لا يتَّصف بذلك يقال عنْه: غبي جاهل.

الرَّابع: إطلاقه على ما يُوصِّل إلى ثمرةِ معرفةِ عواقبِ الأُمورِ، بقمْع الشَّهواتِ الداعية إلى اللذَّات العاجلة التي تَعْقُبها النَّدامة، فإذا حصلَت هذه القوَّة، سُمِّي صاحبُها "عاقِلًا".

الخامس: إطلاقه على الهدوء والوقار، وهي هيْئة محْمودة للإنسان في حركاته وكلامه، فيقال: فلان عاقل؛ أي: عنده هدوء ورزانة[4].

 

ومحلُّ العقْل في القلب[5] على الصَّحيح من أقوال العلماء رحمهم الله تعالى، وهو قوْل الحنابِلة والشَّافعيَّة والأطبَّاء قديمًا؛ ودليلهم قولُه تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ َكَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

 

وذهبَ بعضُ أهلِ العِلم إلى أنَّ محلَّه الدماغ، وهو قول الحنفيَّة والمشهور عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى[6].

 

وعلَّة تكريم الله تعالى للإنسان بنعْمة العقل إنَّما هي لإدْراك الآثار الربَّانيَّة، والمطالبِ الإلهيَّة.

 

يقول ابن القيم رحِمه الله تعالى: "فإنَّ الله تعالى ركَّب العقولَ في عبادِه لِيعرِفوا بها صِدْقَهُ، وصدْق رسُله، ويَعرفوه بها، ويَعرفوا كماله، وصفاته وعظمته وجلاله، وربوبيَّته وتوحيده، وأنَّه الإله الحق وما سواه باطل، فهذا هو الَّذي أعطاهم العقْلَ لأجْلِه بالذَّات وبالقصْد الأوَّل، وهداهم به إلى مَصالح معاشهم، التي تكون عونًا لهم على ما خُلِقوا لأجله، وأعطوا العقول له.

 

فأعْظَمُ ثمرةٍ للعقْل: معرفتُه لخالقه وفاطِرِه، ومعرفة صفاتِ كمالِه، ونُعُوت جلاله وأفعاله، وصدْق رسله، والخضوع والذُّل والتعبُّد له"[7].

 

وهذا العقْل العظيم هو حجَّة قائمة وحْدَها في إثبات وُجُودِ اللهِ تعالى وعبادته، ونفْيِ الشَّريكِ عنْه حتَّى وإن لم يَرِدْ بذلك شرع، فإنَّ الله تعالى قد ركَّز في الفِطَر والعقول حقيقةَ الإيمانِ بالله، والكُفْرِ بما يُعْبَد مِن دونه، وإنَّما جاءت الرسل للتَّذْكير بما هو مستقرٌّ في عقول وفِطَر الخلْق قبْل وقوع الانحِراف فيهما.

 

قال الإمام القرطبي رحمه الله في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]: "أجمَعَ العلماءُ على أنَّ هذه الآية مِن المحْكَم المتَّفقِ عليه، ليس منها شيءٌ منسوخ، وكذلك هي في جميع الكتُب، ولو لم يكن كذلك لَعُرف ذلك مِن جهة العقل، وإن لم ينزل به الكتاب"[8].

 

وقال ابن القيِّم رحِمه الله تعالى في قولِه عزَّ وجلَّ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}: "فقُبح عبادةِ غيرِ اللهِ قد استقرَّ في الفِطَر والعقول، وإنْ لم يَرِدْ بالنَّهي عن شرع، بل العقْل يدلُّ على أنَّه أقبحُ القَبيح على الإطلاق، ومِن المُحال أن يشْرعه اللهُ قط، فصلاحُ العالَم في أن يكُون اللهُ وحدَه المعبود، وفساده وهلاكُه في أن يُعبد معه غيره، ومحالٌ أن يشرع لعباده ما فيه فساد العالم وهلاكه، بل هو المنزه عن ذلك[9].

 

والعقْل حجَّة قائمة في التَّحسين والتَّقبيح للأفعال، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى عند قوله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28، 29]: "والفاحشة أُريدَ بها كشفُ السوءات، فيستدلُّ به على أنَّ في الأفعال السيِّئة مِن الصفات ما يمنع أمْر الشَّرع بها، فإنَّه أخبَر في سياق الإنكار عليْهِم أنَّه لا يأمُر بالفحشاء، فدلَّ ذلك على أنَّه مُنزَّه عنه، فلو كان جائزًا لم يَتَنَزَّه عنه، فعُلم أنَّه لا يجوز عليه الأمْر بالفحْشاء، وذلك لا يكون إلَّا إذا كان الفعل في نفسِه سيِّئًا، فعُلم أنَّ كلَّ ما كان في نفسه فاحشةً فإنَّ الله لا يجوز عليه الأمْر به، وهذا قول مَن يُثْبت للأفعال في نفسها صفاتِ الحسْن والسوء، كما يقول أكثر العلماء كالتَّمِيمِيّين وأبي الخطَّاب، خلافَ قولِ مَن يقول: إنَّ ذلك لا يَثْبُت قطُّ إلَّا بخطاب، وذلك قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، علَّل النَّهيَ عنه بما اشتمل عليه أنَّه فاحشةُ وأنَّه ساء سبيلًا؛ فلو كان إنَّما صار فاحشةً وساء سبيلًا بالنَّهي، لَمَا صحَّ ذلك؛ لأنَّ العلَّة تَسْبِق المعلول، لا تتْبعه؛ ومثل ذلك كثير في القرآن"[10].

 

وقال ابن القيِّم رحِمه الله تعالى: "واعلَم أنَّه إنْ لم يكُن حُسْنُ التَّوحيد وقُبْحُ الشِّرْك معلومًا بالعقْل، مستقرًّا في الفِطَر، فلا وُثُوقَ بشيء مِن قضايا العقْل، فإنَّ هذه القضيَّة مِن أَجلِّ القضايا البديهيَّات، وأوضح ما رَكَّب اللهُ في العقول والفِطَر؛ ولهذا يقول سبحانه عقيب تقْرير ذلك: أفلا تعقلون، أفلا تذكَّرون، وينفي العقْلَ عن أهل الشرك، ويُخبر عنهم بأنَّهم يعترفون في النَّار أنَّهم لم يكونوا يسمعون ولا يعقلون، وأنَّهم خرجوا عن مُوجب السَّمع والعقل، وأخبر عنهم أنَّهم صُمٌّ بكْمٌ عُمْي فهم لا يَعقلون، وأخبر عنهم أنَّ سمْعَهم وأبصارَهم وأفئدتهم لم تُغْنِ عنْهم شيئًا[11].

 

ومع هذا الدَّور العظيم الَّذي مَنَحَهُ الشَّارعُ للعقل، إلَّا أنَّه قطَع مرامَ العقْلِ في الخوض فيما لا يَصلُح له، ولا يمكن أن يكون له فيه دوْر في البحث، في الغيبيَّات الخارجة عن نطاق تصوُّر العقلِ لها، وعلى رأسِها قضيَّة الألوهيَّة بجوانبها الثَّلاثة: (الذَّات - الصِّفات - الأفعال).

 

فوقَفَ دوْرُ العقْلِ فيها على التَّصديق بما جاء عن طريق الخبَر الصَّادق من الكتاب والسنَّة، ومنَع الشارعُ العقلَ مِن الخوضِ فيها؛ لأنَّه لا طاقة له في الوصول إلى حقائق عينيَّة في هذا الجانب؛ قال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، ولأنَّ قضيَّة الألوهيَّة ليست قضيَّةً مِن القضايا المحسوسة الَّتي يُمكن للعقل البحْثُ فيها بناءً على ما يُشاهِدُه منها ومِن أحوالها، فالعقل لم يشاهِد هذه الأمورَ الغيبية فلا يصح له الكلام فيها، فالكلام في الشَّيء فرعٌ عن تصوُّرِه، والتصوُّرُ للشيء إنَّما هو العِلم به؛ {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110].

 

وقد شكَّلَت مسألةُ الألوهيَّةِ قديمًا وحديثًا أعظَمَ مشكلةٍ واجَهَت العقلَ البشري؛ لأنَّ البشَر أَدخَلوا هذه المسألة تحت نطاق العقْل، وفرضوا أنَّ للعقل قدرةً في إدراكها ومعرفةِ حقائقها مجرَّدة، بالعقل دون مصدر آخَرَ يُبيِّن لها سبيلَ التَّعامُل، وإزالة اللبْس الحاصل للعقْل فيها، فاختلفَت الحلولُ، وتباينَت التَّصوُّرات العقليَّة لهذه القضيَّة، مِن فلسفةٍ إلى أُخرى، ومِن تصوُّرٍ إلى آخَر.

 

وجاء القرآنُ هُدى الله إلى العالمين، فشكَّل حلقةَ الوَصْل بينَ السماء والأرض، وبيَّن تصويرَ المعاني الغيبيَّة، وتصوُّر المسلمين لها، وبين الإخبار عن الذَّات الإلهيَّة، وما يجب لها مِن صفاتِ الكمال وحكمة الأفعال، وإيمان المسلمين بها وإذعانهم لها.

 

وقد بيَّن الوَحْيُ قُصُورَ العقْلِ في تصوُّرِ المسائل الغيبيَّة في مناسباتٍ كثيرةٍ في الكتاب والسُّنَّة، وجاء الوَحْيُ مُسَدِّدًا للعقْل، مرشدًا له فيما لا يدْرِكه ولا يَعرف ماهيَّته، وبيَّن للعقلِ أنَّ نصوص الوَحْيِ قد تأتي بما يَحار العقل فيه، لكنَّها لا تأتي بالمستحيل الَّذي لا يَقبَل الوجود، وأنَّ مقام العقل في هذه المسائل مع النَّقل مقامُ التابع المفتقِر العاجز الَّذي يَسُدُّ عجْزَه الوحيُ المبين مِن رب السَّماوات والأرَضين تبارك وتعالى[12].

 

ومن هذه الأمثلة التي تتجلَّى فيها هذه الحقيقة قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].

 

فعَن عبد الله قال: بَيْنَا أنا أمشي مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في حرْث المدينة، وهو يَتَوَكَّأ على عسيب معه، فمرَّ بنفرٍ من اليهود، فقال بعضُهم لبعضٍ: سَلُوهُ عن الرُّوح، وقال بعضُهم: لا تسألوه لا يجيء فيه بشيءٍ تَكْرَهُونه، فقال بعضُهم: لَنَسْألنَّه، فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم، ما الرُّوح؟ فسَكَتَ، فقلتُ: إنَّه يُوحَى إليه، فقمتُ فلمَّا انجلَى عنْه الوحْي قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.

 

ورُوي عن ابن عبَّاس؛ أنَّه قال: إنَّ قريشًا قد اجتمعوا وقالوا: إنَّ محمَّدًا نَشَأ فينا بالأمانة، والصِّدْق وما اتَّهمناه بكذب، وقد ادَّعى ما ادَّعى، فابعثوا نفرًا إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنْه؛ فإنَّهم أهلُ كتاب، فبَعَثوا جماعةً إليهم فقالت اليهود: سَلُوه عن ثلاثةِ أشياءَ، فإن أجاب عن كلِّها أو لم يُجِبْ عن شيءٍ منْها فليس بنبيٍّ، وإن أجاب عن اثنَين ولم يجب عن واحدة فهو نبيٌّ، فَسَلُوه عن فِتْيةٍ فُقِدُوا في الزَّمن الأوَّل ما كان مِن أمرِهم؛ فإنَّه كان لهم حديثٌ عجيب، وعن رجُل بلغ شرقَ الأرض وغربَها ما خبره؟ وعن الرُّوح، فسألوه، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أُخبرُكم بما سألتُم غدًا»، ولم يقُل: إن شاء الله، فلبث الوحيُ - قال مجاهد: اثنتي عشرة ليلة، وقيل: خمسةَ عشر يومًا، وقال عكرمة: أربعين يومًا - وأهلُ مكَّة يقولون: وعدَنا محمَّدٌ غدًا، وقد أصبحنا لا يُخْبِرنا بشيء، حتَّى حزن النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن مُكْثِ الوحْيِ، وشَقَّ عليه ما يقوله أهلُ مكَّة، ثمَّ نزل جبريل بقوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف 23- 24]، ونزل في قصَّة الفتية: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف: 9]، ونزل فيمَن بلغ الشَّرق والغرب: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} ونزل في الروح: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}[13].

 

فحقيقة الروح - أيًّا كان الرَّاجح في تفسيرها مِن أقوال العلماء - مَحجوبةٌ عن العقول، وهذا الَّذي صرَّحَت به الآية الكريمةُ، قال عبدُ الله بن بريدة: إنَّ الله لم يُطْلِع على الرُّوح ملَكًا مقرَّبًا، ولا نبيًّا مرْسلًا.[14]

 

فوجب على العقل قبول حقيقة الرُّوح وإن لم يدرِكْها بآلاته وحواسِّه المادّيَّة، وعلى قول: أنَّ الرّوح هو الخَلْق المركَّب الَّذي يكوِّن مع الجسَدِ مُسَمَّى الإنسانِ - وهو الرَّاجح -[15] فلا يُعرف أنَّ عاقلًا أَنكَر حقيقةَ الروح[16] التي يحيا بها الإنسانُ، مع عجزه عن تصوُّرها تصوُّرًا محسوسًا ومعرفة ماهية هذه الروح، فدلَّ هذا دلالة واضحة لكل لبٍّ صحيح أنَّه ليس كلُّ محجوبٌ فهو غير موجود، وأنَّه ليس كلُّ ما لا يُدركُه العقلُ فليس بموجود، كما يَزعُم كثيرٌ من الفلاسفة وأرباب النظر، ودلَّ أيضًا دلالةً عُظْمى على وجوب انقِياد العقْل للنَّقل الصَّحيح، وعلى وجوب تبعيَّة العقل للوحْي، وأنَّ النقل يَحكم ولا يُحكم، ويَقضي ولا يُقضى عليه.

 

وإذا كان هذا في غيبٍ متعلّق بمخلوق، فكيف بغيب متعلِّق بذات الله؟! فأوْلى بالعقل أن يَقِف خاضعًا طائعًا مصدِّقًا لما جاء مِن خبر الصِّدق كتابًا وسُنَّة، وأن يُعمل العقلُ قدراتِه في إثْبات وجود الباري تعالى، وأحقِّيَّةِ عبادتِه، وإثباتِ حكمتِه في أفعاله، وأن يُقِرَّ إقْرارًا جازِمًا بقُصُور العقْل عن معرفة ماهيَّة وحقيقة ذاتِ الله تعالى وصفاته.

 

وفي قصَّة موسى عليْه السَّلام وفرْعونَ خيرُ شاهدٍ وبيانٍ لفهم هذه المسألة، وأنَّها قضيَّةٌ مسلَّمة عند رسل الله صلواتُ الله وسلامه عليهم، فتأمَّل هذه الآيات، تُزِلْ عنك لبْسَ كلِّ ذي زيغ وضلالة، وكل صاحب فكرٍ سقيم، وتجْلو صدْرَك بوحْي القُرآن المبين.

 

{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 23 - 29].

 

جاء سؤالُ عدوِّ اللهِ فرعونَ بلفظ: (ما) للسُّؤال عن الماهيَّة والكيفيَّة، ومعلوم أنَّ لفظ (ما) يستخدم لغير العاقل، وإنَّما أراد عدوُّ الله السؤالَ عن المادَّة؛ لأنَّه لو قصد السؤال عن الله سؤالَ معرفةٍ وبيانٍ لهذا الإله العظيم، لكان السؤال بلفظ (مَن) التي تُستَخدم للعاقل، كما قال النَّاظم:

وَلَفْظُ (مَنْ) فِي عَاقِلٍ وَلَفْظُ (مَا) ♦♦♦ فِي غَيْرِهِ وَلَفْظُ (أَيُّ) فِيهِمَا[17]

 

أي: ولفظ (مَن) تُستخدم للعاقل، ولفظ (ما) لغير العاقل، كما أنَّ لفظ (أيُّ) تُستخدم في الأمرين جميعًا.

 

فجاء الجواب مِن موسى عليه السلام مُغايِرًا للسُّؤال الَّذي سأله فرعون، فأجاب موسى عليه السلام بما يدلُّ على وصْف هذا الإله، وليس عن ماهيَّته وكيفيَّته، وأجاب نبيُّ الله بما هو تعريفٌ بالله، بذِكْر صفاته المحسوسة للخَلْق؛ ليستطيع أن يترقَّى العبدُ مِن المحسوس إلى تعقُّل الموْصوف بهذه الصِّفات.

قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «تَفَكَّروا في آلاء الله، ولا تفكَّروا في ذاته» [18].

 

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّه ورسولِه محمَّد وعلى آلِه وأصْحابه أجْمعين.

 


[1] يُروَى عن علي رضي الله عنِه، نهج البلاغة1 /350 - 351.

[2] معجم مقاييس اللغة: 69.

[3] لسان العرب، مادة عقل.

[4] المستصفى: 1 /23.

[5] مختصر التحرير في أصول الفقه: 25.

[6] المسودة: 559.

[7] الصواعق المرسلة على الجهميَّة والمعطِّلة: 4 /1236.

[8] تفسير القرطبي: 5 /180.

[9] مفتاح دار السعادة: 328، 329.

[10] مجموع الفتاوى: 15 /8، 9.

[11] مدارج السالكين: 3 /491.

[12] قال ابن أبي العزِّ في شرح الطحاويَّة (ص 201، 202): وما أحسَن المثلَ المضْروبَ للنَّقل مع العقل، وهو: أنَّ العقل مع النقل كالعامِّيِّ المقلِّد مع العالِم المجتهِد، بل هو دون ذلك بكثير، فإنَّ العامِّيَّ يمكنُه أن يصير عالمًا، ولا يمكن العالم أن يَصير نبيًّا رسولًا.

[13] معالم التنزيل: 3 /134.

[14] معالم التنزيل للبغوي: 3 /135.

[15] معالم التنزيل للبغوي: 3 /135.

[16] ولو فُرض وجودُ مَن يقول بإنكار الروح، فأمثالُ هؤلاء كأمثال السوفسطائيِّين الذين سَقَطَ الكلامُ معهم لإبطالهم أساسيَّاتٍ وضروريَّاتٍ لا يُستَغنَى عنها، وقد قيل:

وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي الأَذْهَانِ شَيْءٌ ♦♦♦ إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ

[17] نظم الورقات في أصول الفقه للعمريطي.

[18] حديث ضعيف، لكن يَرْتَقي بشواهده إلى الحسن، وقد حسَّنه الألباني في "السلْسلة الصحيحة" 1788، وحسَّنه في "الجامع الصغير" (2975).

___________________________________________________
الكاتب: ماهر عبدالحفيظ صفصوف