حماية المستهلك في الإسلام
إنَّ المجتمعَ الإنسانيَّ كتلةٌ متجانسةٌ في النظمِ والمسؤوليَّاتِ والحقوقِ والواجباتِ، لا تتماسكُ أجزاؤُهُ ولا تترابطُ وشائجُه، ولا يبلغُ التمامَ بُنيانُه إلاَّ بالسيرِ وفقَ الفطرةِ التي فطر اللهُ الناسَ عليها
الحَمْدُ للهِ المنَّان، أمر عباده بالعدْل والإحسان، ونهاهم عن البغي والعدْوان، أحمده سبحانه على نعمه العظيمة وآلائِه الجسيمة، وأشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، القائل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وأشْهَدُ أنَّ سَيِّدَنا ونَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ ورَسُولُه، القائل: «خير النَّاس أنفعُهم للنَّاس»، صلَّى الله عليْه وعلى آله وصحبِه، وعلى كلِّ مَن اهتدى بهديه، وسار على نهجِه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ، فيا أيُّها المُؤمِنونَ:
أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ، والعملِ بما فيه رضاه، فاتقوا اللهَ حقَّ تقواه، وتمسَّكوا بمنهجِه وهداه؛ {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
عبادَ اللهِ:
إنَّ المجتمعَ الإنسانيَّ كتلةٌ متجانسةٌ في النظمِ والمسؤوليَّاتِ والحقوقِ والواجباتِ، لا تتماسكُ أجزاؤُهُ ولا تترابطُ وشائجُه، ولا يبلغُ التمامَ بُنيانُه إلاَّ بالسيرِ وفقَ الفطرةِ التي فطر اللهُ الناسَ عليها، إنَّ الإسلامَ بوسطيَّتِه وشُموليَّةِ منهجِه جاء بما يتماشى مع تكامُلِ حياةِ أتباعِه الاجتِماعيَّةِ, ويتوافقُ مع تطلعاتِهم المعيشيةِ واحتياجاتِهم الدنيويةِ، فلا يصطدمُ مع طبيعتِهم البشريَّةِ بل يُهذِّبُها ويصونُ كيانَها، ولا يقفُ حائلا دون رغباتِهم الإنسانيَّةِ؛ بل يُشبِعُها ويُنظمُ دوافعَها دون ميلٍ أو حَيفٍ، يقول سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، ويقول - جلَّ وعلا -: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30].
عِبَادَ الله:
لقد سهَّل اللهُ على عبادِه أمورَ العيشِ وقسمَ بينهم معايشَهم؛ {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]، إنَّ التَّعايُشَ بين بني البشرِ أمرٌ طبيعيٌّ وسلوكٌ فطريٌّ، مقيَّدٌ بحدودٍ والتِزاماتٍ ومحكومٌ بجملةٍ من الحقوقِ والواجباتِ، هي أساسُ التكاملِ وأصلٌ من أصولِ تبادُلِ المصالحِ أخذًا وعطاءً، بيعًا وشراءً، فراقًا ولقاءً، لا يمكن بأيِّ حالٍ من الأحوالِ تجاهُلُها أو الخروجُ من نطاقِ دائرتِها.
أيُّها المُؤمِنون:
وإنَّ القواعدَ والمبادئَ التي يشتملُ عليها دينُنا، ويقفُ معها وقفةً جادَّةً من غيرِ مجاملةٍ، فيها حمايةُ الإنسانِ من كلِّ ما يضرُّ بمصالحِ دنياه وأسبابِ عَيشِه، أو يقفُ مانعًا أو مُعرْقِلا عن نيلِ مُتطلَّباتِه الضَّروريَّةِ واحتياجاتِه الاستِهلاكيَّةِ، التي يعتمدُ عليها قِوامُ حياتِه، وترتكزُ عليها عواملُ بقائِه، من مطعومٍ أو مشروبٍ أو ملبوسٍ، ونحوِها من الأدواتِ والوسائلِ التي يتطلّبُها استهلاكُه المعيشيُّ، ولا يمكنُه الاستغناءُ عنها في أيِّ وقتٍ من الأوقاتِ.
إنَّ حقَّ العيشِ الكريمِ مكفولٌ لكل إنسانٍ، وعلى المسلمين - أفرادًا وجماعاتٍ؛ بما تفرضُه عليهم نوازعُهم الإنسانيَّةُ، وتوجبُه ثوابتُهم الإيمانيَّةُ - أن يُرسِّخوا هذا المفهومَ في نفوسِهم ويحققوا وجودَه في حياتِهم، ويُراعوا حضورَه حالَ تعاملِهم أخذًا وعطاءً، بيعا وشراءً مع بني جنسِهم؛ حتى يَسودَ التَّوادُّ والتَّحابُّ بينهم ويشيعَ التَّعاونُ والتآزرُ في معاملاتِهم، فيُحبُّ كلٌّ منهم للآخرِ ما يحبُّه لنفسِه، ويكرهُ له ما يكرهُهُ لنفسِه، وهو ما يقتضيه الإيمانُ الَّذي يعنيه الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قولِه: «لا يؤمنُ أحدُكُم حتَّى يحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِه»، حبًّا لا أثرةَ فيه ولا استغلال، ولا غشَّ ولا ابتزاز، ولا تدليسَ أو احتكار.
عبادَ اللهِ:
إنَّ العدالةَ الاجتماعيَّةَ في المعاملةِ الإنسانيَّةِ تقتضي أن يرعى النَّاسُ حقوقَ وحاجاتِ بعضِهم البعض، وأن لا يكونَ أيٌّ منهم سببًا في تضييقِ عيشِ الآخرِ والإضرارِ بمصالحِه، فذلك مما تكرهُ الفطرةُ السليمةُ وتترفعُ عنه الطبيعةُ الإنسانيةُ، ويتنافى مع موجباتِ العلاقاتِ الاجتماعيةِ، وقبل ذلك تُحرِّمُه و تُجرِّمُه الأديانُ السماويةُ؛ ذلك لأنه مُسبِّبٌ للفرقةِ مُستَنبِتٌ للكراهيةِ والضغينةِ، مُولدٌ لثقافةِ الحقدِ والبغضاءِ بين الناسِ، وهو بهذا داخلٌ ضمنَ الإثمِ والعدوانِ الَّذي نَهى اللهُ عنه بقوله: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، كما أنَّه ضرارٌ بالناسِ، والنَّبيُّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - يقول: «لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ».
أيُّها المُسلِمون:
يقولُ الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «خيرُ الناسِ أنفعُهم للناسِ»، فاجعل - وفَّقك اللهُ وبارك في رزقِك - من هذه الإشراقةِ النبويَّةِ والإضاءةِ الربَّانيةِ نِبراسًا يَهديكَ إلى حُسنِ المعاملةِ ونُبلِ الأخلاقِ، في بيعِك وشِرائِك من خلالِ تحرُّرِك من كلِّ ما هو شائنٌ بنفسِك ضارٌّ بمصالحِ بني جنسِك، فلا تبخس حقَّ أخيك ولا تُغَرِّرْ به أو تَغُشَّه، في بيعٍ أو شراءٍ ولا تحتكِر بضاعتَك؛ يقول - عليه الصَّلاة والسَّلام - في مَن يحتكرُ: «لا يَحتكرُ إلاَّ خاطئٌ»، وفي بيعِ الغَرَرِ - وهو الخطرُ والخدعةُ، وهو البيعُ المجهولُ العاقبةِ فمبناه على الجهالةِ، إمَّا في المبيعِ أو في الثَّمنِ - يقولُ أبو هُريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: "نَهى النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن بيعِ الغررِ".
ومن الغررِ ما جاء عن أنسِ بن مالكٍ - رَضيَ اللهُ عَنْه - قال: "إنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نَهى عن بيعِ الثمارِ حتَّى تُزهي؛ أي: تَحمَرّ".
ومن الغررِ أيضًا بيعُ الشَّيءِ دونَ تبيينِ عُيوبِه؛ قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «البَيِّعانِ بِالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقَا» - أوْ قَال: «حتَّى يَتَفَرَّقا» - «فَإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لَهُما في بَيعِهِما، وإنْ كَتَما وكَذَبا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِما»، ويقول - عليْه الصَّلاة والسَّلام -: «لا يحِلُّ لمسلمٍ باع من أخيه بيعًا فيه عيبٌ إلا بَيَّنَه».
وفي الغشِّ والتدليسِ يقول - عليْه الصَّلاة والسَّلام -: «مَن غشَّنا فليس منَّا»، كما حرم الإسلامُ - حِمايةً للمستهلكِ - التلاعبَ بالأسعارِ عن طريق النَّجَشِ؛ وهو: أن يزيدَ الإنسانُ في ثَمنِ السلعةِ وهو لا يريدُ شِراءَها إنَّما فقط لدفعِ الآخرين لشرائِها، وقد يكون ذلك بتواطُؤٍ بين البائعِ والنَّاجشِ؛ يقول - عليْه الصَّلاة والسَّلام - ناهيًا عن ذلك: «ولا تناجشوا».
عبادَ اللهِ:
هذه بعضُ صورِ المعاملاتِ المحرَّمةِ الَّتي بتعاوُنِنا على الابتعادِ عنها نُحقِّقُ للمستهلكِ الحمايةَ اللاَّزمةَ، وبارتِكابها يقعُ الضَّرَرُ والخسارَةُ على اقتصادِ المجتمعِ.
أمَّا بَعْدُ، فيا عِبَادَ اللهِ:
لقد حَمَى الإسلامُ المستهلكَ من كلِّ إجحافٍ بحَقِّهِ، فوضع له قواعدَ وضوابطَ تحميه من كلِّ ضررٍ يؤدِّي به إلى الخسارةِ، فحماه من نفسِه ونهاه صيانةً لمالِه من السَّرَفِ والتَّبذيرِ عند الشراءِ، فالله تعالى يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «كُل ما شِئْتَ واشْرب ما شِئْت دون سَرَفٍ أو مَخِيلَةٍ».
وعلى مستوى الإنتاجِ وفَّرَ له المنتجَ المباحَ الطيِّبَ ذا الجودةِ العاليةِ، وذلك بالحثِّ على إتقانِ الصّنعةِ حالَ الإنتاجِ، فالرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: «إنَّ اللهَ يحبُّ من أحدِكم إذا عمِلَ عملاً أن يُتقِنَه»، فيتجنَّب به السلعَ الرَّديئةَ والمنتجاتِ المغشوشةَ.
وعلى مستوى التَّسويقِ، حماه الإسلامُ من البيوعِ المحرَّمةِ والتداوُلاتِ الممقوتةِ، كمساومةِ الإنسانِ على سوْمِ أخيه أو أن يبيعَ على بيعِه ونحوِ ذلك، يقول - عليه الصلاة والسَّلام -: «لا يبِعْ بعضُكم على بيعِ أخيه»، ويقول - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «لا يَسُمِ المسلمُ على سَومِ المسلمِ»، كما حرَّمَ الإسلامُ كلَّ ما من شأنِه رفعُ الأسعارِ بلا مبرّرٍ؛ ممَّا يسبّب الإضرارَ بالمجتمعِ المسلمِ.
فالالتزامُ - عبادَ الله - بالقواعدِ الإسلاميَّةِ والرفقُ بالنَّاسِ يحقّقُ لهم خيرَ الدنيا والآخرةِ، ويصلُ بهم إلى برِّ الأمانِ, فاتَّقوا الله - عباد الله - واعمَلوا بما أمرَكم في بيعِكم وشرائِكم تَسعَدوا في دنياكم وأُخْراكم.
- التصنيف: