تفسير قوله تعالى: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته}

منذ 2021-12-25

قوله تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 81]

ذكر الله عز وجل في الآية السابقة زعم اليهود أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودة، وبيَّن بطلان قولهم وأنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، ثم أتبع ذلك بذكر حكم عام لكل أحد من بني إسرائيل وغيرهم، وهو أنه كل يجازى بعمله فمن أساء وأحاطت به خطاياه فهو من أصحاب النار هم فيها خالدون، ومن آمن وعمل صالحًا فهو من أصحاب الجنة هم فيها خالدون وليس بالأماني، كما قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 123، 124].

 

قوله: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}؛ "بلى" حرف جواب مختص بإبطال النفي، فهو هنا لإبطال ما نفوه بقولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80]؛ أي: ليس الأمر كما تزعمون بل {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81].

 

{مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}، "من" شرطية، و"كسب" فعل الشرط، وجوابه جملة {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} وربط بالفاء؛ لأنه جملة اسمية.

 

ويجوز أن تكون "من" اسم موصول بمعنى "الذي" في محل رفع مبتدأ، وخبره جملة: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} وقرن بالفاء لشبه الموصول بالشرط في العموم.

 

{كَسَبَ سَيِّئَةً}، أي: عمل سيئة، والكسب: العمل وثمرته المترتبة.

 

و"سيئة": نكرة في سياق الشرط، فيعم كل سيئة وكل ذنب من الشرك فما دونه.

 

والسيئة تطلق على الصغيرة، كما في قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] يعني الصغائر، وتطلق على الكفر والشرك، كما قال تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النمل: 90].

 

وسميت السيئة سيئة؛ لأنها تسوء صاحبها في الحال والمآل، وقد تسوء غيره في الحال إذا كانت متعدية، كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

 

{وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} قرأ نافع وأبو جعفر بالجمع (خطيئاته)، وقرأ الباقون {خَطِيئَتُهُ} بالإفراد، وهي بمعنى الجمع؛ لأن المفرد المضاف يفيد العموم، أي: وأحاطت به خطيئته، فلم يكن له حسنة، واكتنفته خطاياه وذنوبه المتنوعة الكثيرة ومات على الشرك والكفر من غير توبة، بدليل قوله: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

 

{فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} أشار إليهم بإشارة البعيد "أولئك" تحقيرًا لهم.

 

ومعنى {أَصْحَابُ النَّارِ}؛ أي: ملازموها ملازمة دائمة أشد من ملازمة الغريم لغريمه؛ لهذا قال بعده: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}؛ أي: هم فيها ماكثون مقيمون إقامة أبدية، كما دلّ على ذلك القرآن في عدة مواضع، وهو الصحيح من أقوال أهل العلم أن النار لا تفنى ولا يفنى أهلها.

 

وإنما قدم ذكر أهل النار؛ لأن السياق في الآية في الرد على زعم اليهود أنهم لن تمسهم النار؛ لبيان أنهم من أهلها؛ ولهذا فإن في الآية تعريضًا بحالهم السيئة، في مصيرهم الذي هو بئس المصير.

 

ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه عنه سعيد بن جبير أو عكرمة: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}؛ أي: من عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط كفره بما له من حسنة {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}"[1].

 

وفي الآية قصر مفاده أن المتصفين بما ذكرهم أصحاب النار الخالدون فيها، ومفهوم ذلك أن من كسب سيئة ولم تحط به خطيئته، فإنه ليس من أصحاب النار الخالدين فيها، لكنه يعذب بقدر ما عليه من السيئات، إن لم يعف الله عنها، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن مسعود رضي الله عنه: " «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على المرء حتى يهلكنه» "[2].

 

المصدر: «عون الرحمن في تفسير القرآن»

 


[1] أخرجه الطبري في "جامع البيان" (2/ 178) وابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 157- 159).

[2]أخرجه أحمد (1/ 402)، والطبراني في الكبير (10/ 261)، وأخرجه أحمد أيضًا (5/ 331) والطبراني في الكبير من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 190) "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني في الثلاثة من طريقين ورجال أحدهما رجال الصحيح غير عبدالوهاب بن الحكم وهو ثقة". وقال ابن حجر في "فتح الباري" (11/ 337): "إسناده حسن" وأخرجه أحمد أيضًا (6/ 70، 151) من حديث عائشة رضي الله عنه، وكذ ابن ماجه في "الزهد" (ص 4243).

سليمان بن إبراهيم اللاحم

الأستاذ في قسم القرآن وعلومه بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالقصيم.